المدارس العلمية العتيقة في سوس بين التذكر والتنكر1/2

حين اختار المرحوم المختار السوسي عنوان «سوس العالمة» لأحد أهم مؤلفاته فإن ذلك لم يأت من باب المغالاة أو محاباة البادية السوسية، وهي المنطقة التي تكنى باسمها وأعطى لها كل إمكاناته الفكرية والعلمية وحتى المادية، فقضى فيها سنوات الجمر والحجر والنفي وتجول في بواديها وقراها ومدنها، وكانت كلها أعوام من الجهاد العلمي والفكري والسياسي، في سبيل رفع الحيف السياسي والظلم التاريخي والإهمال العلمي عن هذه البوادي النائية التي كان لها الفضل في إقامة أول نظام تعليمي، احتضن أول قائد سياسي ودعوي أسس أول إمبراطورية مغربية ( عبد الله بن ياسين)، ثم استمرت في إنجاب قوافل من رجال الدولة، وشيوخ العلم والفقه والتربية، وصناديد المقاومة والجهاد، لكن لا يزال هناك قصور وإهمال وتهميش لدور البادية السوسية في بناء جزء من الصرح الحضاري والثقافي والسياسي لهذا البلد العريق، وهو ما جعل مؤرخنا السوسي يتفرغ للبحث والتحقيق التاريخي والتنقيب العلمي والجغرافي والحفر الأركيولوجي والاثنوغرافي – ولو في حدوده الدنيا – ونجح في استصدار وإنجاز بحوث ودراسات تاريخية غاية في التدقيق والتبسيط والشمولية… لكن أهم ما خلفه لنا هذا الهرم العلمي الغزير الإنتاج وأبرز ما شغل حياته الثقافية والتاريخية هو اهتمامه الأشد بالمدارس العلمية العتيقة في سوس، وهي مدارس دينية وعلمية بنيت بمال وأيدي البسطاء والأعيان والوجهاء، قامت بأدوار سياسية وتربوية واجتماعية ودينية عبر تاريخ المغرب القديم والحديث، تخرج منها المئات من رجال الدين والسياسة والاقتصاد، وكان لها الفضل في ترسيخ قيم الإسلام والحرية والجهاد حين حولت جبال سوس وبواديها إلى ساحات وخنادق للجهاد ضد المستعمر الغازي وضد جبروت الجهل والأمية.
يرجع ظهور المدارس العلمية والدينية العتيقة إلى بداية تأسيس الدولة المرابطية، بل إن مدرسة «وكاك» هي التي انطلقت منها مدرسة عبد الله بن ياسين وتكونت منها الدولة المرابطية في ما بعد. يقول المختار السوسي(إن أول مدرسة عرفت في بوادي الغرب الإسلامي هي مدرسة «اكلو» بضاحية تزنيت.. في أوائل القرن الخامس الهجري وربما كانت قبلها مدارس أخرى وان كنا لا نعرفها الآن، ثم تتابعت القرون والمدارس إلى أن نيفت على مائتين. وهي مدارس شعبية يقوم بها الشعب بجهوده الخاصة ولم تعرف قط إعانة حكومية).
لقد استطاع المختار السوسي أن يعدد أسماءها وأماكنها وأعدادها وشيوخها وعدد طلابها الذين يعدون بالآلاف وزوارها الموسميون بعشرات ومئات الآلاف، وهي كما وصفها، مدارس شعبية (لاحكومية) محتضنة من طرف الساكنة أعيانا ووجهاء وفقراء، بنيت بأيدي وسواعد القرويين وبأموال وجهائهم وأغنيائهم، تسير بعقول وخبرات طلابها وفقهائها، ولكل هذه المدارس أنظمة وقوانين متوارثة منها ماهو مدون في صحائف وألواح تقرأ وتتلى بنودها على كل فقيه واعظ ومربي، أو كل إمام حافظ وملقن خاضع لنظام «الشرط» منذ اليوم الأول من التعاقد المعنوي معه، وتسلم له مفاتيح خزائن المدرسة العتيقة التي قد تحتوي على العشرات أو المئات من الوثائق المحلية (ازرفان) و الكتب الدينية والمخطوطات وكل الموروث المادي والرمزي لهذه المدرسة.
الأسلوب البيداغوجي السائد في المدارس العتيقة
يكاد يكون النظام التربوي والأسلوب البيداغوجي المتبع في هذه المدارس العتيقة متشابها ومتقاربا لا من حيث قواعد التلقين وبيداغوجيا التواصل أو أسلوب التعلم حيث إن «طالب العلم» قد يقضي فترة قصيرة أو طويلة حسب رغبته وميولاته العلمية – الشرعية في هذه المدرسة أو تلك، ثم يمكنه أن ينتقل إلى غيرها بعيدة أو قريبة عن قبيلته وعشيرته أو باديته فلا يجد صعوبة في الاندماج والمتابعة والتحصيل، كما لا يجد الصعوبة في مسايرة النظام «الإداري» للمؤسسة العلمية، مما يدل على وجود نظام تربوي وفلسفة تربوية وحكامة تدبيرية ومنهج بيداغوجي سهل الاستدخال، إذ أن طرق ووسائل التلقين تتمتع بالسلاسة والمرونة وتسهل على «طالب العلم» الاندماج الطوعي داخل المنظومة التربوية للمؤسسة، كما أن للطالب حرية اختيار المادة أو العلم الشرعي التي يريد أن « يتبحر « فيه حتى « يجيز « له شيخه اعترافا بتمكنه وتخصصه في هذه المادة أو هذا الفرع العلمي الشرعي، ويملك الطالب حرية اختيار « الفقيه « أو « الأستاذ « أو» الشيخ « الذي سيستزيد من علمه وثقافته الشرعية، وهو ما ينسجم مع أحدث الطرق والنظريات التربوية الحديثة.
المدارس العلمية العتيقة في سوس ليست مدارس لتخريج العاطلين من الأئمة والفقهاء والعلماء ولا مدارس اكليروسية، وإنما هي مؤسسات تربوية واجتماعية وأخلاقية كان لها دور حاسم في الجهاد ضد الأمية والجهل والظلم والفساد كما كان لها دور حاسم في توحيد الكلمة والشهادة دفاعا عن الأرض والوطن واللغات الوطنية والهوية الوطنية..
أن طالب العلم يتعلم من هذه المؤسسات العلمية العتيقة كيف يدير شؤون حياته الخاصة داخل المؤسسة وخارجها وبدون وصي، قد يخصص وقته الفارغ لطبخ وجبات طعامه وتنظيف ملابسه، بل وحتى حياكتها وخياطتها، وفي مدارس أخرى يتعلم الرماية والفنون الحربية( مدرسة تازروالت).

إنها مؤسسات للتربية والتلقين والتكوين والتأهيل الاجتماعي:

«طالب العلم» مطالب بنسج علاقات اجتماعية مع محيطه ووسطه، وعليه أن يبذل كل جهوده في مساعدة الساكنة القروية في ضبط العلاقات الاجتماعية واحترام قواعد التعامل اليومي بين الأفراد والجماعات وإبطال كل الدسائس والفتن.
«طالب العلم» مطالب بتدبير شؤونه المادية والمالية، والبحث عن مورد رزقه دون الانقطاع عن « العلم» جامعا بين الدراسة والعمل، يمكنه أن يشتغل في الحرث والحصاد، و يمكنه أن يزاول مهنة السياقة أو التجارة في حدودها الممكنة( الخياطة- الحدادة- ..)مما يدر عليه قدرا من المال يساعده على مواصلة ومسايرة متطلبات الحياة الخاصة كشراء ما يريده من ملابس وأمتعة وكتب ومصاريف السفر والإقامة، يقول الأستاذ محمد بنسعيد ايت ايدر حين كان طالبا بمدرسة سيدي ابي عبد الله الواقعة بنواحي سيدي افني أنه صادفت دراسته بهذه المدرسة العتيقة مجيء ما سمي آنذاك بعام «البون» فاضطر إلى أن ينخرط في ربط علاقات بأعيان ايت بعمران وسيدي افني لينخرط في بعض المعاملات التجارية ويبادر بشراء رخص المواد الغذائية (البونات) تم يعيد بيعها في المدرسة بالتقسيط بقصد تدبير أموره المالية…وبفضل عائدات هذه التجارة المتواضعة جعل من غرفته بداخلية المدرسة ملتقى للأصدقاء والمعارف …) سيرة الكاتب (هكذا تكلم محمد بنسعيد) ص22.
وأشار المجاهد محمد بنسعيد في نفس الكتاب إلى أن مدرسة سيدي ابي عبد الله كانت تعيش على ما تموله بها القبيلة، علما أن القبيلة نفسها تعاني من الفقر والحاجة، ولكن احتضان المؤسسة يعتبر شرطا مقدسا لدى كل ساكنة المنطقة.
يتبع


الكاتب : محمد بادرة

  

بتاريخ : 28/04/2022