المدارس العلمية العتيقة في سوس بين التذكر والتنكر2/2

وعن النظام البيداغوجي في هذه المدارس العتيقة فإنه يكاد يكون واحدا فلا يجد الطالب الجديد صعوبة في الاندماج الفوري والطوعي داخل نسق هذا النظام التربوي مما يدل على أن هذه المؤسسات الدينية والتربوية تمتلك فلسفة تربوية تستمد أساليبها وأهدافها من العلوم اللغوية والشرعية. ومن جملة ما يتم تدريسه في هذه المدارس العتيقة في سوس:
دروس في النحو، وتفتتح هذه الدروس عند الطالب بحفظ الأجرومية والقرطبية، تم متون ابن عاشر. وفيها يحفظ الأمثلة والقواعد ويكتسب المبادئ الأساسية لقواعد اللغة العربية الفصيحة القديمة التي ستساعده على فهم معاني وسياقات النصوص الدينية.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى منظومتي المجرادي والزواوي في الجمل وأحكامها وبعدها لامية الأفعال لابن مالك في التصريف …
في المرحلة الموالية من البرنامج التعليمي يدرس الطالب تحفة الأحكام ومختصر الخليل في الفقه المالكي، وفي هذه المرحلة يمتلك الطالب حرية الاختيار بين هذا الفقيه أو ذاك أو بين هذه المدرسة أو تلك من أجل تعميق معارفه في مجالي العلوم اللغوية والشرعية، وهو ما يكسب لهذه المؤسسات مرونة بيداغوجية تسمح للطالب بحرية التنقل والاختيار بحثا عن « الأفضل» أو « الأخص» قصد التخصص في فرع من فروع العلوم اللغوية والشرعية.
وفي مرحلة متقدمة من تعليمه يخوض «طالب العلم» في بحور البيان والبديع وفي التفسير والحديث ودروس الفلك والحساب بالمنظومة السملالية ومنظومة احمد بن سليمان الرسموكي.
الفريد والمثير أن كل هذه العلوم والفنون تكون باللغة الأمازيغية المحلية (تاشلحيت) وقليلا ما تستعمل اللغة العربية الفصحى إلا في مناسبات خاصة يكون فيها التباري حول نظم الشعر. ويقول المختار السوسي في خاتمة الجزء العشرين من المعسول بعد أن تكلم عن نشأة الفاسي في بيئة تتكلم اللغة العربية الدارجة يسمعها من أبويه ومن أقرانه … وأما الشلحي القح الذي يحيا في مثل جبال جزولة الذي ينشأ في بيئة لغته الشلحية البعيدة عن العربية، فإنه قد يحفظ القرءان وكثير منهم لا يستكملون حفظه إلا عند البلوغ أو أكثر، وهو لا يدري حتى معنى الخبز والسمن والبصل والحصير والفأس لأنه ينشأ في إقليم منزو …).
وفي نفس السردية التاريخية لمحمد بنسعيد ايت ايدر يبين لنا هذا الأخير كيف أنه إلى حدود مجيئه إلى مراكش كانت ثقافته تقليدية وكان عليه – وهو الأمازيغي السوسي- أن يتعلم اللغة العربية من الصفر ذلك أن دراسته من قبل للفقه والنحو والحديث والتفسير كانت باللغة الأمازيغية – نفس الكتاب السابق ص .49
أما عن كيفية إلقاء الدروس وطريقة إلقاء المتون فإن للمدارس العتيقة خصوصية بيداغوجية تختلف حسب شيوخها وفقهائها لدرجة أنها تنعت باسم المدرسة تمييزا لها عن باقي المدارس الأخرى، كالمدرسة الوكاكية، والمدرسة البونعمانية، والمدرسة الجشتمية، والمدرسة الادوزية، نسبة للمناطق التي تستوطنها هذه المدارس أو نسبة إلى فقهائها وعائلاتهم العلمية.

المدارس العتيقة وضرورة رفع التهميش عنها

تملك المدارس العتيقة سلطة دينية واجتماعية، وشيوخها وفقهاؤها هم من يفسرون نسق القيم التي تخضع لها الجماعة، تصدر الفتاوي والنوازل التي تهم شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية ( نوازل وفتاوي في البيع والشراء والرهون ..)، وذلك وفق ما تقتضيه ظروف العصر، وهو اجتهاد في سياقه الخاص والعام بل إن العديد من هذه المدارس العتيقة أصدرت فتاوي في الجهاد ضد المحتل الأجنبي، وهذا ما يدل على أنها ليست فقط مآوي ومقصد لطلاب العلم، وإنما كذلك هي مؤسسات اجتماعية وثقافية وتربوية وسياسية لها دور فاعل وسياسي وازن في منطقة سوس والصحراء ( ألم يكن الفقيد الفقيه الصوفي الحاج الحبيب التنالتي وزيرا لمحمد الهيبة ماء العينين، وقد ساهم وشارك في تحريض القبائل في الصحراء وسوس للجهاد ضد المستعمر الأجنبي وقاد مع الهيبة حركة الجهاد والمقاومة ضد الأجنبي، وحين رجع بعد معركة سيدي بوعثمان اختار جهاد النفس وجهاد العلم حتى أصبحت مدرسته وزاويته مقصدا لطلاب العلم الشرعي والأصيل …).
إننا إذ نذكر بدور المدارس العتيقة في سوس ومجدها العلمي والمكانة التاريخية التي تبوأتها منذ القرن الخامس الهجري إلى القرن الرابع عشر ووصل عددها في منطقة سوس إلى ما يفوق المائتين، أما الكتاتيب القرآنية فهي تعد بالمئات وتتواجد في كل قرية ومدشر، وهي بمتابة الروافد لتلك المدارس العلمية العتيقة.. وكلها قامت بدورها كاملا في مناطق لم تطأها مشاريع التنمية الاجتماعية والثقافية والتربوية واستطاعت أن تقاوم الاستعمار والجهل والأمية دون أن تجد الدعم الكافي والعون اللازم من مؤسسات الدولة.
فتنكرت لها لا المؤسسات الرسمية فقط، وإنما كذلك مؤرخي الدولة والمجتمع فها هو مؤرخ سوس العالمة يقف محتجا ومستنكرا (إن تاريخنا لم يكتب بعد كما ينبغي .. فليسمع صوت هذا السوسي كل جوانب المغرب من أعظم حاضرة إلى أصغر بادية.. فلعل من يصيحون يندفعون إلى الميدان فنرى لكل ناحية سجلا يضبط حوادثها ويعرف برجالها ويستقصي عاداتها… ).
فالخطر الذي يتهدد هذه المؤسسات التربوية الدينية من حيث تهميشها وإقصائها أو تدجينها يساعد على استمرار آلية التدمير الثقافي والهوية الثقافية الأمازيغية باعتبارها موروثا رمزيا مرتبطا بالكيان المفاهيمي للذات المغربية في تمفصلاتها الروحية واللغوية والسوسيو تاريخية .
إننا في حاجة ماسة إلى نقد الميتافيزيقا السائدة ومؤسساتها السياسية والثقافية المغروسة في الحقل التربوي والثقافي الوطني، لأنها معادية للتنوع الثقافي، وخانقة للاختلاف ومانعة للإفصاح عن الذات المتعددة والذاكرة المتعددة والجغرافية الثقافية المتنوعة …والمختار السوسي أدرك منذ البداية أن التراث الثقافي والتربوي والاجتماعي في سوس وغير سوس تعرض لكل أنواع الدس والتحريف، لذا آمن المرحوم المختار السوسي بأن إعادة إحياء وترميم وتصحيح الوضع الثقافي والروحي للمؤسسات الثقافية والتربوية والاجتماعية بالمغرب رهين برفع الحيف عن الوضع الثقافي واللغوي في سوس والعكس صحيح.


الكاتب : محمد بادرة

  

بتاريخ : 05/05/2022