المدرسة المغربية ودورها في بناء مواطن الغد

سأخصص هذه المقالة للإجابة عن سؤال: هل يمكن بناء مواطن جديد بالشروط والبنيات القديمة؟ وقبل تحديد خصائص هذه الشروط وطبيعة هذه البنيات نتساءل أولا: لماذا التفكير في بناء مواطن جديد؟ وما هي مواصفاته؟ وهل هذا يعني أن المواطن الحالي يعاني خللا يجب اصلاحه؟ وهل يمكن إصلاح المواطن الحالي دون إعادة النظر في السياسات العمومية والسياسات التربوية؟ هذه الأسئلة الحارقة تعكس الرغبة في إعادة صياغة مشروع مجتمعي جديد واضح المعالم والأهداف ومتوافق حوله بين كل مكونات وحساسيات المجتمع. وبما أن هذا النوع من الخطاب يدخل في خانة الوجوب وليس الوجود، فإننا سنؤجل الحديث فيه إلى خاتمة المقالة. وسنكتفي الآن بتشخيص الشروط والبنيات أو على الأقل بعض مظاهرها السلبية، لنبين في الأخير أنه يستحيل بناء مواطن جديد بالشروط والبنيات القديمة.

أولا: بناء المدراس أول شرط لبناء مواطن الغد

كما يعلم الجميع أن المغرب يعاني خصاصا مهولا في حجرات الدرس، وفي جميع المسالك الدراسية، ولا أكبر دليل على هذا القول ظاهرة الاكتظاظ المدرسي، فجل الأقسام في المدارس العمومية يفوق عدد تلامذتها أربعون تلميذا وتلميذة، في الوقت الذي توصي فيه الهيئات الدولية المهتمة بقضايا التربية والتعليم بألا يتجاوز عدد تلامذة القسم خمسة وعشرين تلميذا، حتى يمكن للعملية التعليمية التعلمية أن تحقق أهدافها البيداغوجية والديداكتيكية.
هذا في ما يخص العالم الحضري، أما العالم القروي، أو ما يسمى بالمغرب المنسي، فهو مازال منسيا إلى حدود الساعة فعلا. فالمدارس الابتدائية في هذا المجال أو على الأقل في جزء منه تشبه الكهوف، فأغلبها يفتقد للشروط الضرورية، أي لا يوجد فيها لا كهرباء ولا ماء ولا مراحيض، بالإضافة إلى أبواب ونوافذ مكسورة، وسقوف مخرقة، وجدران مشقوقة، أما الطاولات فهي تكاد تكون متلفة بالكامل ونفس الشيء يقال عن السبورة ومكتب المعلم، والحديث هنا خاص بالفرعيات التابعة للمركزية التي يوجد فيها مكتب المدير.
أؤكد أن هذه المؤسسات لاتزال منسية فعلا من طرف الدولة، لأن المسؤولين لا يقومون بزيارتها، وهنا لا أتحدث عن المسؤولين الكبار، فالحديث هنا فقط عن أولئك المسؤولين الذين يوجدون في ذيل ترتيب السلم البيروقراطي. والذين يركزون في زيارتهم الميدانية -إن وجدت- على المركزيات التي تكون في غالب الأحوال قريبة من الطريق العام أو توجد بفيلاج تتوفر فيه بعض شروط الحياة اليومية، وبعض الأحيان يطلب من السادة الأساتذة الانتقال أو الالتحاق بالمركزية، لذلك فتلك الزيارات التي تكون من أجل عملية المراقبة والتقييم تحول دون ذلك، حيث لا يتم الوقوف على حقيقة طريقة إلقاء الدرس، وكيفية تسيير القسم وتفاعل التلاميذ مع أساتذتهم من جهة، ورصد البنيات المهترئة التي تهدد في الغالب السلامة الجسدية للأساتذة وللتلاميذ من جهة ثانية.
إذا كان القانون يفرض على المسؤول المراقب الزيارة الميدانية، فإن بعضهم يعفي نفسه منها لأسباب وحده يعرفها، لذلك وبصفته الرئيس الذي يأمر مرؤوسيه بالانتقال إليه، والمرؤوسين يقبلون بهذا الفعل وإن كان خارج القانون. وبما أن هذا الأخير في مثل هذه الوضعيات قد يعيق سير المؤسسة بل وقد يهدد الأساتذة في لقمة عيشهم، وخاصة الأساتذة المتعاقدين، حيث أن مصدر عيشهم ومصيرهم المهني والعائلي مرهون بيد ومزاج رؤسائهم.وللحفاظ على هذه الامتيازات/الحقوق أو لكي يعززوا حظوظها أكثر فهم يتواطؤون بخرق القانون ويعوضونه بالمعاملة الاجتماعية.
والأمر مع كامل الأسف لا يقف هنا، فهذه المدارس في أيام العطل تتحول الى مسكن للمجانين والسكارى والمنحرفين من الدواوير المجاورة، وهؤلاء في الغالب هم من يقومون بتخريب الأدوات والوسائل اللوجيستيكية كتكسير الطاولات والسبورات والأبواب والنوافذ وأي شيء قابل للإتلاف، وكأن بسلوكهم هذا ينتقمون من هذه الأقسام التي تخلت عنهم في سن مبكرة أو لم تستضفهم أصلا.
ولترميم خسائر هؤلاء المنحرفين الذين هم في النهاية ضحايا فشل المنظومة التعليمية، يتطوع في أغلب الأحيان السادة الأساتذة ومن مالهم الخاص بترميم واصلاح ما يمكن إصلاحه على الأقل داخل حجرة الدرس، وبعضهم يطلب من التلاميذ جمع قدر مالي، وفي الغالب لا يتعدى خمسة دراهم لكل تلميذ، وفي المقابل يتطوع أهل الدوار، لوضع سياج سلكي للمدرسة على الأقل يمنع المواشي وبعض الحيوانات الأخرى من الاقتراب من محيط المدرسة وغيرها من الأمور البسيطة، وهذا الأمر يتكرر كل سنة وأحيانا أكثر من مرة في السنة، لأنهم يعلمون أن الدولة لا يمكن أن تقدم لهم شيئا، ونفس الشيء يستشعره السادة الأساتذة، لذلك هم يتضامنون جميعا وكل واحد حسب قدرته لتوفير الحد الأدنى من الشروط التي تسمح بفعل التمدرس. فكيف يمكن إذن بناء مواطن جديد بمدرسة تفتقد لأبسط الشروط؟ وقد لخصناها في الإشارات السابقة، والتي يمكن أن نضيف إليها، مشكلة الأقسام المختلطة، ونقص الموارد البشرية، فتكاد تجد في جميع الابتدائيات والإعداديات بالعالم القروي تلاميذ لا يدرسون مادة أو أكثر بسبب قلة الموارد البشرية، لأن السادة المديرين يحاولون أن يوفروا ذلك للأقسام الإشهادية.
وهكذا يصبح الحديث عن المدرسة العصرية، المجهزة بآليات لوجيستيكية وتكنولوجية في العالم القروي ضربا من ضروب الخيال والمستحيل، وجائحة كورونا زادت من تعرية هذا الواقع المرير، واكتشفنا أن جزءا من هذا العالم القروي يفتقد لشبكة الهاتف، وهذا يعني أنه لا يجوز الحديث عن صبيب الأنترنت، أي أن التعليم عن بعد في هذه المناطق يفتقد لشروطه الموضوعية، وهذا ما سيعفينا من الحديث عن الشروط الذاتية المرتبطة أشد الارتباط بعجز الأسر في تحمل مصاريف التعبئة.
ثانيا: بناء مواطن الغد رهين بمراجعة المناهج والبرامج الدراسية

كما لا يخفى على كل متتبع لقضايا التربية والتعليم، أن المناهج والبرامج الدراسية تعكس الفلسفة التربوية للسياسات العمومية، وخاصة مواصفات المواطن المنشود. وهذه النقطة تحديدا تجعلنا نتساءل عن نقطتين أساسيتين: الأولى متعلقة بمضامين الكتب المدرسية، والثانية مرتبطة بالتكوين المستمر للأساتذة.
يحدد الخطاب التربوي الرسمي، مواصفات مواطن الغد، في كونه يؤمن بقيم العقيدة الإسلامية، وقيم الهوية الوطنية بمختلف روافدها، وقيم المواطنة، وقيم حقوق الإنسان. هذه هي مواصفات المواطن الصالح بلغة الخطاب الرسمي، أو المواطن المزدوج بتعبير رحمة بورقية أو المواطن الجديد بتعبير ماريا مونتيسوري. أي أن نظامنا التربوي لم يعد مطالب بتكوين مواطن صالح لمجتمعه ولوطنه فحسب كما كان يعمل في السابق، وإنما أصبح الآن مطالبا ببناء مواطن صالح للعالمية أيضا. أو باختصار، فمواطن الغد هو مواطن مزدوج الانتماء، فهو ينتمي لوطنه ومعتز بخصوصيته الثقافية والحضارية، وفي الآن نفسه منتمي للكونية، أي مستبطنا لقيم الكونية كمشترك إنساني. هذا المزج والتوليف بين منظومتين قيميتين مختلفتين على مستوى المرجعية يطرح إشكالات تقتضي مساءلتها سوسيولوجيا. بمعنى كيف يمكن للتلميذ أن يستدخل قيم هاتين المنظومتين المتباينتين في المرجعية؟ وكيف سيعيد تصريفها في سلوكاته؟ عموما، موضوع هذه المقالة غير مخصص للإجابة عن هذه الأسئلة التي نعاهد القارئ المقتدر بالعودة لمعالجاتها في المستقبل.
بالرجوع إلى النقطتين المشار إليهما أعلاه، يجب أن نتساءل هل مضامين الكتب المدرسية تحتوي على قيم المواطنة وحقوق الإنسان، لتحقيق الشطر الثاني من مواصفات مواطن الغد، أي الانتماء للعالمية، والإنسان لا يمكن أن ينتمي للعالمية إلا إذا تشبع بثقافة وقيم هذه المنظومة. وإن كانت مضامين الكتب المدرسية تحتوي على قيم المواطنة وحقوق الإنسان، فيجب أن نعمق السؤال أكثر، ونتساءل حول كيفية وطبيعة وجودها؟
وحسب نتائج بعض الدراسات التي اشتغلت على هذا الموضوع، فإن مضامين الكتب المدرسية فعلا تحتوي على قيم المواطنة وحقوق الإنسان. لكن الهدف من الدرس لا يكون ترسيخ هذه القيم، وإنما يكون شكلا آخر إما معرفي أو تقني، فمثلا، قد تجد نصا حول قيمة الحرية، لكن المطلوب من التلميذ، ليس معرفة الحرية كقيمة من قيم حقوق الإنسان يجب أن يدرك مضمونها عقلا، واستشعار قيمتها وجدانا ومحاولة إعادة تصريفها سلوكا، وإنما الهدف من الدرس هو تقسيم النص إلى فقرات أو اقتراح عنوان جديد للنص وغيرها من الأسئلة المرفقة لمثل هذه النصوص في الكتب المدرسية بمختلف أنواعها وفي جميع المستويات والأسلاك الدراسية.
أما النقطة الثانية والمتعلقة بالتكوين المستمر للأساتذة، تصوروا معي، أن السادة الأساتذة، لم يدرسوا قيم المواطنة وحقوق الإنسان كوحدات خاصة، لا في الجامعة ولا في مراكز التكوين، وفي نفس الوقت نطلب منهم أن يساهموا في ترسيخ واستنبات قيم المواطنة وحقوق الإنسان في فكر ووجدان وسلوك التلاميذ. وخاصة أن أغلب هذه القيم توجد في هذه المضامين بكيفية مضمرة وليست صريحة؟ إذن كيف يمكن للأستاذ الذي لم يدرس هذه القيم ولم يتلق أي تكوين مستمر في هذا المجال أن يستطيع استخراج قيم المواطنة وحقوق الإنسان من مضامين الكتب المدرسية؟ بل وكيف سيعمل على نقلها من مضامين الكتب وترسيخها في فكر ووجدان وسلوك التلاميذ؟
لهذا يجب علينا ألا نتفاجأ حين تخبرنا خلاصات بعض الدراسات السوسيولوجية بأن أغلب نساء ورجال التعليم لا يعرفون شيئا عن منظومة حقوق الإنسان وقيم المواطنة، بل أغلبهم لم يسبق أن سمع أو اطلع حتى على الإعلان العالمي لحقوق الانسان، بل والسواد الأعظم منهم يجهل مضمونه العام، علما أن النظام التربوي المغربي أدمج قيم المواطنة وحقوق الإنسان في فلسفته التربوية منذ تسعينيات القرن الماضي.
هذه المعيقات وغيرها هي التي أنتجت لنا، مواطنين يتغنون بقيم المواطنة وحقوق الإنسان على مستوى الخطاب لكن على مستوى الممارسة والسلوك متشددين جدا، أو هم «دواعش في مرحلة الكمون»، وكدليل على هذا الوصف، نسوق بعض الأمثلة: هل يقبل المغاربة الإفطار العلني في رمضان من غير المسلمين؟ هل يقبل المغربي أن يتزوج أو يزوج ابنه أو ابنته لشخص مسيحي أو يهودي أو لاديني أو ملحد؟ وهل يقبل المغربي أن يتزوج أو يزوج ابنه أو ابنته من شخص شيعي المذهب؟ هل يحترم المغاربة حرية ملكية الجسد لبناتهم وأخواتهم؟ طبعا لا يمكن أن نجيب عن مثل هذه الأسئلة إلا بالنفي. وهذا يعكس في العمق فشل المنظومة التربوية منذ التسعينيات في بناء مواطن مزدوج الانتماء، أي يؤمن بقيم التسامح والاختلاف والعيش المشترك وحرية الضمير.
هذا الفشل راجع في نظر المهتمين إلى أن مخططات السياسة التربوية لا تبنى انطلاقا من خلاصات وتوصيات الدراسات العلمية الميدانية، وإنما تبنى انطلاقا من مشاورات خبراء وتقنيين وعلى خلاصات بعض التقارير السطحية-إن وجدت- في أحسن الأحوال، وفي الغالب تبنى انطلاقا من هواجس إيديوسياسية وأمنية.
خاتمة
نشدد في الأخير أنه لا يمكن بناء مواطن الغد بالشروط والبنيات القديمة، لأن هذه الشروط وهذه البنيات وغيرها مما هو ليس موضوع هذه المساهمة،هي الأسباب الرئيسية في تدهور وتدني المستوى التعليمي في بلدنا. وهذه الحقيقة مع كامل الأسف يشهد بها الكل، الحاكمين والمحكومين، والهيئات السياسية، والنقابية،والجمعوية،وكذلك الأطر المفكرة، بل حتى أولياء وآباء التلاميذ فضلا عن تنظيمات الطلبة والأساتذة. وهذا هو الذي يدفع الأساتذة في الامتحانات الإشهادية خاصة في السادس الابتدائي والثالثة اعدادي إلى تقديم الاجابات للتلاميذعلى السبورة أثناء الامتحان ليساهموا في الرفع من نسبة النجاح كميا لا نوعيا.
وهكذا وشيئا فشيئا ومع مرور الزمن يستبطن التلاميذ قيم الفساد، بل ويتمأسس عندهم سلوك الغش، الى درجة أنهم ينظرون الى الغش كحق من حقوقهم، وهذا نراه كثيرا في تصريحات التلاميذ بعد امتحان البكالوريا، فبعضهم يقول: «صراحة الأساتذة زوينين تعاملوا معنا مزيان، وبعضهم يقول العكس»، والمعاملة في سياق الكلام لا تفيد تقديم المساعدة في إطار القانون، أي شرح بعض مضامين الأسئلة الغامضة أو الملتبسة في نظر البعض، وإنما تعني بالتحديد خرق القانون ومساعدة الممتحن في الحصول على النجاح إما بالسماح له بالغش أو بالإجابة له مباشرة على أسئلة الامتحان أو بعضها. وحصيلة هذه «المعاملة» كانت ولاتزال هي إنتاج مواطنين يؤمنون بالخرافة، والاتكالية، فالامتحان يحتاج إلى مجهود ذهني وبدني يومي. وبعضهم لا يكتفي بالصلاة والتضرع بالدعاء من أجل أن ييسر الله له النجاح في الامتحان، بل يذهب قبل الامتحان بيوم إلى أحد المشعوذين لإعداد «الحروزة» والتمائم، لأنه يعتقد في قدرتها على مساعدته في الافلات من ضبط لجنة المراقبة أثناء عملية الغش في الامتحان، بل البعض الآخر يظن أن هذه التمائم لها القدرة في التأثير ايجابيا حتى على المصحح.
ما نود قوله من الاشارات السابقة، أن المواطن الحالي الذي يتصف بالاتكالية، والزبونية، والمحسوبية والرشوة سواء تعلق الأمر بحقوقه أو بواجباته هو نتاج للشروط والبنيات القديمة، ولإصلاحه يجب أولا إصلاح هذه الشروط والبنيات، أو بعبارة واحدة «مواطن الغد يجب بناؤه انطلاقا من بنيات وشروط جديدة».


الكاتب : محمد الدحاني

  

بتاريخ : 28/10/2021