«المدينة الطبية بمراكش» قصة مشروع محير استنزف عقارا ثمينا من أملاك الدولة

«المدينة الطبية» و«المستشفى الإماراتي بمراكش» ثم « المستشفى الأمريكي» ثلاثة أسماء توالت على نفس المشروع، ونفس المكان ونفس البناية، لتعكس لغزا محيرا في مشروع ضخم، مع مرور الأيام لم تعد هويته واضحة هل هو مشروع طبي أم سياحي أم عقاري، مثلما التبست فيه الجهة المالكة والجهة المتصرفة، وتداخلت فيه أسماء الذين يزعمون أحقيتهم في امتلاكه، وأخرجت فيه وثائق تضاد بعضها، وعقود يعتبرها هذا الطرف حجة يطعن فيها طرف آخر بالتزوير. والنتيجة أن البناية مكتملة منذ 2017، لكن إلى اليوم لم تفتح أبوابها، ولم يستفد أي مريض من خدماتها الصحية، ما عدا 60 شقة كانت معدة كمرافق لإقامة المرضى أثناء استشفائهم، فإذا بها تباع في ظروف ملتبسة للخواص.
تفاصيل هذا المشروع المعروض منذ ست سنوات على القضاء، في غاية التعقيد، ومليئة بالمعطيات المتضاربة والانعطافات الغريبة، الموسومة بكثرة المتدخلين مع كل مرحلة من تطوره، بل إن الروايات التي تسندها الوثائق، متضاربة حسب الأطراف المتنازعة، وكلها تزعم أنها تعرضت للنصب والعرقلة والاحتيال.

 

ظهر هذا المشروع إلى العلن لأول مرة في سنة 2010، من خلال الطبيب الفرنسي جان كلود نوفيل الذي بلور فكرة واضحة ومتكاملة، تتعلق بإنشاء مدينة طبية بمواصفات دولية، حيث حصل على كل التراخيص من مختلف الجهات المعنية، ووضعت إدارة الأملاك المخزنية رهن تصرفه بعد الاقتناع بجدوى المشروع، عقارا من أملاك الدولة مساحته هكتار واحد وسبعة آلاف متر مربع بمنطقة جد مهمة، هي المنطقة السياحية أكدال، بمبلغ 200 درهم للمتر المربع، مستفيدا من أجواء تشجيع الاستثمار. ودفع المبلغ المستحق للعقار بحجم 350 مليون سنتيم، منتظرا تسلم الوثائق الخاصة بالتفويت.
بعد أربع سنوات من ذلك، أعلنت شركة « تسويق للتطوير والتسويق العقاري» الإماراتية من خلال رئيسها التنفيذي مسعود العور، عن عزمها افتتاح أول مدينة طبية إماراتية بمراكش بمعايير عالمية في خريف السنة المذكورة، في إطار برنامج استثماري كبير بحجم ثلاثة ملايير دولار، يهم إطلاق مشاريع مماثلة بكل من الرباط وأكادير والدار البيضاء، إضافة إلى مشاريع سياحية. بل إن مسؤول الشركة صرح للصحافة حينها بأن «مدينة مراكش الطبية» ستكون مشروعا استثماريا ضخما تبلغ مساحته 21 ألف متر مربع، حيث يصل الغلاف المالي للمشروع إلى 50 مليون دولار أمريكي في إطار محفظة استثمارية لشركة “تسويق” تبلغ 250 مليون دولار أمريكي.
وقدمت حينها معطيات أكثر تفصيلا عن المشروع الذي يضم مستشفى خاصا دوليا بقدرة 160 سريرا، وفندقا فخما يضم أربعين غرفة، و64 شقة، حيث يكون الاختيار للمرضى بقضاء فترة الاستشفاء بالمستشفى أو الشقق رفقة ذويهم أو بالفندق.
وفي بلاغ سابق صدر في بحر سنة 2014، أعلنت الشركة الإماراتية أن وضع الحجر الأساس للمشروع، تم في سنة 2012. ولم تظهر أي معلومات عن موقع الطبيب الفرنسي من المشروع، وطبيعة العلاقة التي تربطه بالشركة الإماراتية، ما عدا الكشف أن المدينة الطبية هي أول استثمار إماراتي أجنبي في المجال الصحي.
تجدد نفس الإعلان سنة 2015، وصاحبته حملة إعلامية مكثفة عن قرب انطلاق المشروع، وعن إمكانياته الطبية والسياحية، وعن عدد المستفيدين من خدماته من الخليج، والذي سيناهز عددهم خمسة آلاف شخص سنويا. لكن انصرمت السنة، ولم يفتح المشروع أبوابه، ومرت سنة 2016 دون أن يحدث أي جديد.
وفي سنة 2017، عاد الحديث عن المدينة الطبية مرة أخرى، وعن موعد الشروع في استقبال طالبي خدماته الصحية، والذي حدد في شهر دجنبر من نفس السنة. وتوارى الإماراتي مسعود العور عن خشبة الأحداث المتعلقة بهذا المشروع، وطفا في الواجهة اسم ( ف.م) كمسير للشركة صاحبة المشروع. وقدم تصريحات للصحافة بخصوص هذا الصرح الطبي السياحي ومزاياه ومردوديته على الاقتصاد الوطني وفرص الشغل التي سيخلقها، والدينامية التي سيوفرها على مستوى القطاع السياحي، بإدخال تنويع جديد في العرض السياحي، يهم السياحة الطبية، بفضل مؤهلات المشروع المنجز بمعايير عالمية. بل قدم المشروع بكونه يندرج في إطار تلبية دعوة الملك محمد السادس إلى رجال الأعمال الإماراتيين للاستثمار في المغرب والارتقاء بمستوى التعاون الاقتصادي الإماراتي المغربي.
وفي إطار الحملة الإعلامية نظمت زيارات لوفود صحفية لموقع المشروع، وأعطيت توضيحات جديدة حول مكوناته، حيث أصبحت مصحته تحتوي على 200 سرير( عوض 160 سرير التي أعلن عنها في 2014)، وقيل إنها تضم مختلف التخصصات؛ من ضمنها مركز خاص بمعالجة وزرع الأسنان، يقدم فضاء عصريا وتجهيزات متميزة وتدابير العمل مبتكرة تعتمد على تكنولوجيا دقيقة وأكثر حداثة وعلى فريق مهني مؤهل من الأطباء من مختلف التخصصات، بالإضافة إلى مركز متخصص في جراحة العيون والجراحة الانكسارية بفضل أجهزة تقنية حديثة تستخدم آخر مستجدات التكنولوجيا، ومركز لمعالجة المرضى المصابين بالشلل النصفي الذي يتطلب علاجه السفر إلى الخارج.
ومرت سنة 2017 ، ومرة أخرى لم يفتتح المشروع. وعاد الإعلان عن قرب افتتاحه في سنة 2018 بنفس الاستراتيجية التي تقوم على استعمال المقالات الصحفية في الترويج لهذا الموعد، وفي سنة 2021 ظهرت في الصحافة مقالات تتحدث عن الافتتاح الوشيك لأول مستشفى أمريكي بمراكش.
في غضون 2017، طفا مستجد إلى الواجهة، حيث صدر نفي لشركة تسويق «ريل ستيت آند سبا» المغربية الإماراتية وجود مشاكل أو نزاع مع شركائها أو مع الشركة المغربية، وقالت إن الاتفاقيات المبرمة مع الشركاء المغاربة لا تزال سارية المفعول. وكشفت أنها قامت بشراء جميع حصص الدكتور الفرنسي «كلود نوفيل» في شركته «شمال جنوب للاستثمار» بتاريخ 10 فبراير 2012 و31 يوليوز 2012، وذلك بما فيها الأصول والخصوم. وأكدت أنه تم تسليم الطبيب الفرنسي إبراء الذمة، وبعدها توجهت شركة «شمال جنوب للاستثمار» بطلب رخص للجنة الاستثناءات وإدارة الأملاك المخزنية لإقامة مدينة صحية تتكون من مصحة خاصة تحتوي على 200 سرير وفندقا طبيا يضم 40 جناحا وإقامة سكنية طبية لاستقبال المرضى تتكون من 64 شقة، وذالك لخلق 800 فرصة عمل لذوي الكفاءات العالية في ميدان الصحة واستقبال المرضى المغاربة والأجانب خاصة منهم الأفارقة وعرب الخليج في إطار السياحة الطبية.
كان هذا النفي بمثابة الضوء الكاشف لكون مشروع المدينة الطبية، أو المستشفى الإماراتي أو المستشفى الأمريكي لا يتقدم على طريق مملوء بالورود. ولم يكتف هذا النفي، بإبطال أية علاقة متبقية مع الطبيب الفرنسي جان كلود نوفيل، صاحب المشروع الأصلي، وإنما شمل أيضا الإماراتي مسعود العور، مؤكدا أنه لم تعد تربطه أية علاقة بالشركة الإماراتية «تسويق»، مشيرا إلى أن مجموعة من السماسرة دخلوا على الخط لعرقلة المشروع من خلال ترويج وثيقة مزورة لمسعود العور، وأنها موضوع شكاية أمام النيابة العامة .
في الحقيقة ما كان يحدث، هو شيء مختلف بدأت مضامينه تتكشف مع مرور الأيام. حيث تبين أن المشروع موضوع بحث معمق من قبل فرقة جرائم الأموال بالشرطة القضائية بمراكش بتكليف من النيابة العامة استنادا إلى شكاية تقدم بها مسعود العور المدير المركزي بشركة التسويق الإماراتي، والطبيب الفرنسي جون كلود نوفيل، مؤسس شركة “شمال جنوب للاستثمار»، يتهمان من خلالها كل من المسمى (ف.م) الذي كان يعمل بالشركة الإماراتية قبل عودته إلى المغرب، و (ع. خ) وهو اسم اشتهر في إطار ملف قصر الورود بأكادير، وزوجته، بتكوين عصابة إجرامية والنصب وعدم تنفيذ عقد والتزوير واستعماله.
واستمعت فرقة التحقيق للمشتكيين، وتوصلت من السفارة الفرنسية بمجموعة من الوثائق التي تبين كيف بدأ الطبيب مشروعه بشكل قانوني. مثلما استمعت للمشتكى بهم، ودققت في وثائق المشروع وتطوره والأطراف التي تدخلت فيه. لتحيل نتائج بحثها على النيابة العامة، التي تقدمت بمطلب للتحقيق لدى قاضي التحقيق.
بعد الانتهاء من التحقيق التفصيلي، قرر قاضي التحقيق في شتنبر 2019 متابعة كل من (ف.م) و (ع.خ) في حالة سراح، مع الإبقاء على التدابير القضائية المقررة في حقهما بحجز جوازي سفرهما ومنعهما من مغادرة التراب الوطني، بتهم النصب والتصرف في مال مشترك بسوء نية قبل اقتسامه، وإساءة استعمال أموال الشركة واعتماداتها والتزوير في محررات عرفية واستعمالها. ليحالا على غرفة الجنح التلبسية بابتدائية مراكش.
مرت ست سنوات والملف مازال معروضا أمام المحكمة. لكن الجانب المثير فيه تكشفه الوثائق المتعلقة به. فقد بينت التحقيقات الأولية التي باشرتها المصالح الأمنية في هذه القضية، أن الطبيب الفرنسي جون كلود نوفيل مؤسس شركة «شمال جنوب للاستثمار»، تمكن من الحصول على مشروع طبي متكامل خلال سنة 2010، والذي حظي بموافقة جميع الجهات المعنية، بما فيها إدارة الأملاك المخزنية، التي وضعت رهن إشارة صاحب المشروع بقعة أرضية مساحتها تزيد عن هكتار واحد و7000 متر مربع، بالمنطقة السياحية أكدال، دفع ثمنها الطبيب الفرنسي والمقدر بحوالي 350 مليون سنتيم، أي 200 درهم للمتر المربع، وظل ينتظر الحصول على عقود البيع من إدارة الأملاك المخزنية لحوالي سنتين دون جدوى، إلى أن قرر التراجع عن المشروع، قبل أن يظهر أحد المشتكى بهما، والذي قدم نفسه للطبيب الفرنسي بصفته ممثلا لإحدى شركات الاستثمار الإماراتية، مؤكدا أن الأخيرة ترغب في الاستثمار في مجال الصحة بالمغرب، وطالما أن الفرنسي يتوفر على عقار مخصص لهذا الغرض، فإن الإماراتيين مستعدين لتمويل المشروع، وهو الأمر الذي وافق عليه الطبيب الفرنسي، قبل أن يتبين له في الأخير أنه وقع ضحية نصب واحتيال مخطط لها بإحكام من طرف المتهمين السالف ذكرهما.
رواية الطبيب المشتكي تقول أيضا، إن المشتكى به الأول هو الذي عرفه بالمشتكى به الثاني (ع.خ)، الذي قدمه له بوصفه ممثلا للشركة الإماراتية بالمغرب، وأنه سيعمل على تهيئ الملف قبل حلول المديرين المركزيين من أجل توقيع عقود المشروع. والجانب الأكثر إثارة الذي تتضمنه هذه الرواية، هو أنه رغم أن دفتر التحملات الدقيق الذي خصصته إدارة الأملاك المخزنية لاستغلال العقار، والمتمثل في بناء مستشفى وفندق و 64 شقة تشكل كلها جزءا من المستشفى تخصص للمرضى وعائلاتهم خلال فترة الاستشفاء، ومن ثمة يمنع بيعها، قام أحد المشتكي بهما، بمجرد الحصول على الرخص وقبل الشروع في البناء، ببيع الشقق بمبالغ مالية تراوحت مابين 250 و 300 مليون سنتيم، على أن يؤدى نصف المبلغ عند الحجز و النصف المتبقي عند التسليم.
معلومات أخرى وردت في إحدى الوثائق لا تقل إثارة، كشفت أن أحد المتهمين لم يكتف ببيع 60 شقة متواجدة في تصميم المشروع، بل عمد إلى بيع عشرين شقة أخرى غير واردة في التصميم. لكن النقطة التي أفاضت الكأس، هي عجز المشتكى بهما عن تجهيز المستشفى، مما جعلهما يعرضانه للبيع، حيث أظهرت شركة صينية اهتمامها به مقابل مبلغ 250 مليار سنتيم، قبل أن تنسحب ربما لوقوفها على المشاكل القانونية التي يتخبط فيها، ولاسيما أنه غير قابل للبيع. وحسب ذات الرواية فقد عاود المشتكى بهما الاتصال بشركة أمريكية (وهو ما يفسر ظهور تسمية المستشفى الأمريكي في الإعلام) من أجل إتمام المشروع واستغلاله، لكنها انسحبت بدورها. النتيجة المشروع بكامله معرض للفشل.
رواية المشتكى بهما تقول في المقابل، إنه مع اقتراب أجل افتتاح المشروع ظهر مجموعة ممن نُعتوا بـ “السماسرة والأغيار” منهم الطبيب الأجنبي “ك.ن” بهدف الابتزاز  والإضرار بالمشروع. حيت قاموا بتقديم مجموعة من الشكايات الكيدية بغاية الابتزاز والتشهير، كانت نتيجتها قيام قاضي التحقيق بإصدار مجموعة من المتابعات دون الاستناد إلى الوثائق الرسمية التي أُدلي بها أثناء مجريات التحقيق.
فصول المحاكمة المتعلقة بهذه القضية التي تروج أمام المحكمة منذ ست سنوات، عرفت منعرجات لا تقل إثارة، فبعد أن أصدرت الغرفة الجنحية التلبسية التأديبية حكما تمهيديا لانجاز خبرة تقنية وفنية على مشروع القرية الطبية التي أوكلت مهمة القيام بها لمبارك زعكون خبير في ميدان تدقيق الحسابات من أجل إجراء محاسبة بخصوص المشروع المذكور، قبل أن يتم استبداله وتعيين خبير آخر، عادت لتتخذ قرارا آخر في يونيو الماضي بإحالة الملف على القضاء الجنحي العادي.
من عرقل من؟ ومن نصب على الآخر؟ تظل هذه الأسئلة إلى اليوم فاقدة للإجابة الحاسمة التي من المنتظر أن تصدر عن القضاء، لكن الحقيقة الصادمة التي تصمد إلى اليوم، هي أن عقارا ثمينا من رصيد الدولة في منطقة يعرف الجميع قيمتها، قد استنزف في مشروع ظل ملتبسا، قدم على أنه استثمار في القطاع الصحي، وتحول إلى استثمار عقاري، دون أن يصل إلى غايته المتمثلة في تقوية العرض الصحي. إنه مشروع مفخخ بالألغاز، وفي مقدمتها هذا اللغز المحير المتمثل في الخلفيات الحقيقة التي كانت تدفع الجهات المتدخلة فيه إلى الإعلان أربع مرات ،على الأقل خلال سبع سنوات، عن افتتاحه الوشيك وإحاطة هذا الإعلان بحملة إعلامية ضخمة، رغم أنه لم يكن مجهزا، وغير مستعد لتقديم خدماته المزعومة. إنه سيناريو غريب لمسلسل لا تعرف النوايا الحقيقية لمخرجه !؟


الكاتب : مراكش: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 11/08/2025