المدينة في الشعر المغربي المعاصر

عرف الشعر المغربي المعاصر طفرة في البنية الشعرية من حيث اللغة المستعملة  والصورة والأسلوب البلاغي، كما جدد صورته الشعرية من خلال تنويع الرموز والأساطير المستعملة بل وتناول قضايا مختلفة عكست اتجاها فريدا في الشعر المغربي، لكن في ضوء ما حققه الشعر العربي العام من خلال بروز قضايا مهمة كتجربة الغربة والضياع ، وتجربة الحياة والموت والانتقال لمعالجة القضايا اليومية الطافية على السطح، وتوظيف الانزياحات ما جدد بنية اللغة الشعرية في مستويات مختلفة أرخت بظلالها على مجموعة من الشعراء المغاربة الذين عملوا على توظيف ذلك في إبداعهم الشعري المختلف الذي انعكس على النص الشعري المغربي المعاصر الذي واكب عصره وزمنه، وطور نفسه في خضم التفاعل الثقافي مع التيار الشعري العربي العام.

من بين القضايا التي أثارت الشاعر المغربي قضية الغربة في تجلياتها المختلفة النفسية والاجتماعية وأثرها على الإبداع الشعري المغربي المعاصر، تبين وجه آخر للمدينة جمع بين متناقضين تارة باعتبارها الفضاء الجميل الذي يتجذر في نفس الشاعر وتارات أخرى باعتبارها فضاء سلبيا للاغتراب وتفسخ القيم والعلاقات في حياة الشاعر فتصير بذلك وجها مظلما للحضارة والتمدن، ويغلب عليها القتامة فيرسمها الشاعر لوحة للنفور النفسي والعلاقة المبنية على اللاتواصل والتجاهل، وهو ما تجلى في شعر الطبال وغيره ، يقول :
الحزن في بلادنا منكسر النفس
مجهول الاسم في المدينة
نجلس في المقهى فلا يسأله النادل
يمر في الشارع مثل أي شيء لا يمر
يسأل كل وجه في الطريق عن هذا الزمان
يدخل في الأشياء عله يجد العش
البرد في المدينة يقتل حتى البرد
الريح في المدينة تقتل حتى الريح.

هكذا هي مدينة عبد الكريم الطبال فضاء للحزن والمعاناة  بانكسار الحزن عين انكسرت رغبة الشاعر في الفرح، وغدا الاستسلام عنوان الغربة في المدينة التي يتقاسمها الشاعر والحزن، حتى وهو يحدث الناس ( أي الحزن) لا يكترث أحد لكلامه ولا يجيبونه، وتستمر رحلته في المدينة محاولا إيجاد العش الذي ليس سوى معاني وجوهر الأشياء، فمروره عابر حتى في المقهى لا يسأله الشاعر ليصير فضاء المدينة سوداويا  مطلقا بعيدا كل البعد عن الراحة. فالمدينة اغتراب ولوعة حد تدمير نفسها. فالريح تحطم الريح وقس على كل ذلك البرد وكل أشياء المدينة التي تسلب الشاعر ارتياحه ليعيش الاغتراب .
كما يقول :
لكنني صعقت حين عرفت من صديقتي المرآة
أنني أحمل وجه القادم الغريب
يفيض بالحنان والأبوة
يموج بالأشواق والأمومة
نفس الغضب / حتى الهوية
وأن الدار والأرض التي أعيش فيها
كلها زنزانة . [1]
فتلك المدينة يمتد اغتراب الشاعر فيها إلى حديث المرآة عن الذات الشاعرة، كونها تحمل في وجهها هوية غير الذات الشاعرة وهي هوية الغريب  الذي وفد محملا بعاطفة جياشة إيجابية، لكن الغربة ربما قدر سيعيشه في ضوء لواقع ليصبح كل الفضاء المحيط به محطة من دوامة الغربة. فالأرض والدار التي فيها يحول الشاعر النفاذ للحياة هي فقط زنزانة جدرانها الاغتراب في فضاء انعكس في وجه الشاعر ليصير قادما غريبا وتلفظه المدينة والحياة معا.
ولكن شاعرنا موقن بأن الاغتراب قدره الذي صيره واحدا من كوكبة المغتربين ويرسم معالم الشيب بل والفقدان الكامل لاشتهاء الحياة وبالتالي الانغماس في التيه والضياع، وهو وجه من أوجه الغربة التي لا بد للمدينة فيها أوجه مختلفة  يقول أيضا :
حين أتينا نحن الغرباء
نحمل في أوجهنا الشيب
وفي أيدينا التيه الدائم.[2]
هذا التيه الدائم المستمر ولد من رحم المعاناة التي تعيشها الذات الشاعرة في خضم البحث عن الحقيقة المعاكسة ومحاولة الاستقرار، لكن تتأبى الغربة في مسار عبد الكريم  الطبال ويقول في قصيدته الموسومة «غربة» :
وودع الأعضاء
حتى لا يروك
على تراب المهد
أو في غربة الأشباح
أو في ردهة الأسماء.
ارحل للبعيد
إلى العميق
إلى مقام لا يسمى
كي تكون
كما تشاء.[3]
فهذا إيذان باستمرار الغربة التي يعيشها الشاعر عنوانها هذه المرة الابتعاد والتنائي حتى لا يشمت الذين يعرفونه، ويصبح مجرد شبح فاقد لهويته. فعمق السفر والارتحال عن المكان هو البعد عن الغربة حتى يتسنى للشاعر أن يكون ما شاء حتى لو كانت المسافة بعيدة والمكان مجهولا. فالابتعاد وحده يمكنه إنقاذه من مجاهل الغربة، هكذا يرتسم معنى المدينة ومفهوم الغربة في شعرنا المغربي المعاصر التي لكن لم تكن دوما رمزا للاغتراب فقد اتخذت تارات عديدة مسار الارتباط الوجداني بين ذات الشاعر وبينها فترمز لمسقط الرأس ويتغنى الشاعر بذكرياته فيها وهو الوجه الآخر الذي أراده شعراء آخرون مشرقا.
وفي هذا الخضم يقول الشاعر أحمد مفدي في قصيدة «فاس شهادة ميلاد وطن»:
لعل الحائر في حبك يمسك
بالخيط الهارب من نقع الحضرة منصاعا
يضرب أخماس الحظ ويمشي
ممشوقا يطرق في السدفة أسماعه
فانساحي يا فاس مطرا
وانتصبي للعشاق بوادي الشعر المزجي وزرا..
من يمشي في
غسق الليل يحاذر أن تأسر عيناه مساره..[4]

فهو في هذه الأبيات يغازل فاس التي ربطته بها علاقة حب وارتباط عميق. ففيها عاش لحظات مشرقة من عمره وذكريات سعيدة، مصورا فضاء المدينة فضاء يجذب الذات الشاعر ليفتتن بتاريخ المكان وجماله وطبيعته بل وبشخوصه، وما يزيد رونق العلاقة المطردة بين الشاعر هو تسمية المدينة باسمها ما له دلالة رمزية على حضور ذات المدينة المتفردة ربما عن سائر المدن الي سحرت الشاعر فتغنى بها وطلب منها الانتصاب بتاريخها المشرق ورحابها التي تطوي القرية المدينة في مكان واحد عنوانه البارز أن تكون ضوءا للعابرين تضيء مساراتهم وعبورهم، فتكون مطرا يخصب أرضهم ومكانهم ويزيد تعلقهم، وأما الحائر فليس يهديه إلا حبها عله يمسك تلابيب الخيط الهارب وينغمس في حب المدينة التي رسمها مفدي غيمة ممطرة. ولا تخفى دلالة هذا الانزياح الذي يرمز من خلاله لفاس كونها رمز الخصب والعطاء والجمال الطبيعي، بل وأكثر من ذلك رمز للتجدد والانبعاث فتنبعث فاس على عكس المدينة رمزا للاغتراب فتكون مدينة مائزة تحضن الذات الشاعرة وتغمرها بالحب والعطاء.

يقول الشاعر أحمد المجاطي في قصيدة «كتابة على شاطئ طنجة»:
هل شربت الشاي
في أسواقها السفلى
غمست العام
في اللحظة
واللحظة
في السبعين عام
أم شققت النهر في أحشائها
قلت:
هي اليرموك
والزلاقة الحسناء
من أسمائها
قلت:
هي الحرف
على شاهدة القبر
يغني
وعلى سارية القصر
يموت
وعرفت الله في محبرة الرعب
وقاموس السكوت.[5]
فيرسم الشاعر بذلك ملحمة لمدينة طنجة في علاقة حب وارتباط.
لعل السؤال يهدف لجواب معين هو ارتباط عميق بالمدينة التي جعلت من نفسها صعبة المنال للعابرين والمارين على ترابها دون أن يتركوا شيئا خالدا هنا، لكن شاعرنا لم يكن مروره عابرا على العكس كان خالدا كمعركة الزلاقة فقد ألف حياتها وشرب الشاي في عمقها وحفظ أحياءها وعناوينها ليندمج الشاعر في المدينة ويصهرها في دواخله ولغته الشعرية فيولد معاني تطرد الاغتراب وتكتنز أسرار الحب الذي يكنه لعروس الشمال.
هذا التماهي لم يفته تذويب الزمان فحتى صارت اللحظة سبعين عاما وربما عمر جيل ليتدفق شعورا حب المدينة راسمة هوية الكتابة وتصير المدينة حرفا على شاهدة القبر وانزياحا للتعبير عن خلود طنجة في الوجدان والذات الشاعرة للأبد.
يقول الشاعر أحمد المجاطي في قصيدة «سبتة»:
أنا النهر
أمتهن الوصل بين الحنين
وبين الربابه
وبين لهاث الغصون وسمع السحابه
أنا النهر أسرج همس الثواني
وأركب نسغ الأغاني
وأترك للريح والضيف صيفي
ومجدول سيفي
وآتي على صهوة الغيم
آتي على صهوة الضيم
وآتيك
أمنح عينيك لون سهادي
وحزن صهيل جوادي
وأمنح عينيك صولة طارق
وأسقط خلف رماد الزمان
وخلف رماد الزوارق.[6]
فهو هنا يخاطب سبتة السليبة واصفا ما تمر به من عذاب وسهاد لكنه يعدها بالبطولة في طريقه إليها باعثا بطولات شهدها التاريخ، وهنا يخص طارق بن زياد فهو سيبعث رماد الزوارق رحلة انتصار لمدينة علقت بفؤاده وصار جرحها جزءا من جرحه الذي لن يندمل بتاتا إلا بالبطولة في سبيل تحريرها من براثين الاحتلال.
ثم يقول :
أقول عرفتك:
أنت قرارة كأسي
وقبضة فأسي
وعتب وكفارة
وصلاة
وزنزانة يشمخ الصمت في قبضتيها
وتعنو الدواة
أقول عرفتك،
أنت…
ويخذلني العشق
تصرعني قهقهات السكارى
فهل أنت واحدة من نسائي
العذارى
أم أنك عينان
غرناطة فيهما طفلة
آه قاتلتي أنت
حين أجوس شوارعك الخلف
حانا ومبغى
وحين أراك عطورا مهربة
وخمورا
وتبغا
وحين أراك على مدخل الثغر
عاشقة غجريه.[7]
فهو يراها كذلك سليبة محتلة يبكي شوارعها التي تركت المجد وبدت شاحبة فيها مبغى وخمارة، هو نوع من الاغتراب لأن المدينة فقد صولتها وجاذبيتها والكثير من بطولتها التاريخية فصارت تحت حذاء المحتل. هو حب للمدينة طبعه الاغتراب فليس يجد شاعرنا سوى البكاء على مدينته التي باتت تعيش على التهريب وقد كانت بالأمس ثغرا يجلي المحتل وصلاة ومهوى الفؤاد لكن فقدت بريقها فانغمست الذات الشاعرة مع المعاناة والأزمة التي تعيشها المدينة يبحث عن بعثها من جديد فهي عنوان للمجد وابنة غرناطة الأبية، لينتهي به القول :
مُضرَّجة تحت أحذية الهتك
لا حول للفتكة البكر فيك
ولا حول للنخوة العربية.[8]
أما محمد عمارة فيقول عن المدينة في ديوانه سنبلة من قصيدته الموسومة « أشيائي الرائعة ونار يقيني « :
يا موطن حزني
يا وجه مدينتنا البحري الراكع بين الأقدام
القاهرة ، أعود إليك على متن مراكب بيضاء
تهدهدها ريح بيضاء ، تشق الموج الأبيض
لتعيد إلي يقين دماء الكلمات.[9]
فالمدينة عنده فضاء للاغتراب والحب معا لأنه راكع تحت أقدام الزمن، ولكن هو عالئد من قرارة الموج العاتي ليسترجع يقين كلماته ومعه جمال مدينته، فالمراكب البيضاء رمز للانبعاث والتجدد الذي أراده الشاعر لوجه مدينته التي بدت غريبة شاحبة
كما يقول في قصيدته «شيخوخة هذا البحر»:.
-آدم بدء الخلق
قبل وجود مدينتنا. بدأ الوقت الآلي
وشاخ العشق . وذبل الورد.[10]
فالمدينة وجدت بعد خلق آدم وقبل المدينة أصبح كل شيء آليا بلا معنى: الوقت والذكريات والعشق هو الآخر لم يعد فتيا فأصابه الشيب حتى قبل ولادته. لغة تبعث شعور الشاعر بالاغتراب في المدينة التي يألفها. هكذا كل شيء فيها آلي بل وهو حنين يقيني للشاعر إلى الأمس.. إلى الحب.. إلى الأنسنة والزمن الطبيعي بعيدا عن الآلية التي دمرت حياة الإنسان.
يقول الشاعر محمد الميموني:
تطل النجوم القديمة
من شرفة
في سماء قريبة.
وتغرب في مجمع الظل
كل الشموس ولا يكشف الماء
عن سره في القرار المكين
ولكن بوح الخزامى
وحلم الحمائم
في غسق الصمت
يرفع كركرة الماء
من مهدها في الزمان العتيق
فدنو السماء
إلى همس أجنحة الروح
لكنها تتعالى
فما هي،
إن لمستها الأيادي، سماء
وبالتوق
يبدأ ما يتوالى…
وذلك روح القصيدة.[11]
هكذا صور الشاعر المسافات التي تحويها مدينته الشاون وحنينه الدائم للاغتراب الذي تجلى في الابتعاد عنها، أما هي فمدينة فيحاء الطبيعة والجمال شرف الانتساب إليها يجثم على وجدانه، بل إن روح القصيدة هو الشوق والحنين إليها في ضوء الابتعاد المؤقت حتى يعانق جمالها تارة أخرى في مدينة تعج بالطبيعة ويرسم الماء فيها لوحة تشكيلية، هي عروس في حلتها الجبلية حتى سكنت دواخل الوجدان وصارت قصيدة الروح تهمس بها في كل حين. الذات الشاعرة هنا هائمة في عشق الشاون وتصبح بذلك فضاء للاندماج ويكون الاغتراب هو البعد عنها.
تقول مليكة العاصمي :
أواجه هذا المساء
زوابع عاصفة
في سراديب روحي
وخلجان طنجة «
كيف أواجه هذا المساء
اندلاقي
بين المطارات
وحواري طنجة
أكبح شوقي».[12]
في هذا المقطع حنين الشاعرة لطنجة المدينة التي عصفت بها حبا وارتباطا حتى غدت جزء من كينونتها وروحها التي لا يوقفها مساء ولا ليل وسعيا للقاء الخلجان ومعانقة طنجة في الحضن الدافئ احتضانا ينسيها الشوق الكبير لها ، فتأتي هنا المدينة فضاء للحب والاندماج ، تقول أيضا:

«هل ستنام مكامن هذي المدينة
آنا من الليل
حتى أحاور مجرى الجداول
حين تعذبها الريح
أصغي لشكوى السواقي
إذا ما تخطفها لولب الأرض
فانسكب فرقا
تغتذي حيث تترك مهجتها».[13]
ليستمر تعبير الشاعرة عن العلاقة المتينة التي تربط المدينة بحبها وفؤادها هو حنين مطبوع بوصف معالم طنجة التي تتصف بالجمال والمحبة.
وعلى كل تجلت المدينة في شعرنا المغربي المعاصر بصورة جميلة تزاوج بين نظرة مختلفة للشعراء تجمع بين الحب والتعلق والارتباط تارة والحنين والشوق في خضم ذلك، وتارة أخرى فضاء للاغتراب والبحث عن الذات في وجه المدينة المفقود ولعبتها المستمرة من جهة ومن جهة أخرى حنين في ضوء الغربة وهو ما ميز لغة القصائد والنماذج الشعرية المعروضة.

*باحث في الأدب والترجمة


الكاتب : ذ .محمد الرحالي *

  

بتاريخ : 06/05/2022