المسرح الجامعي بالدار البيضاء مسرحية «أصبع روج».. جحيم الأنا الباحثة عن ذاتها

 

«أصبع روج»، عرض مسرحي لفرقة الشفق المسرحية العمانية، من تأليف عباس حايك، وإخراج للفنان سعيد آل سبابي.
ويعتبر هذا العرض ملامسة فنية لموضوع انشطار وجودي إنساني حين تغترب الذات عن أناها الضائعة، أو بلغة الفلسفة الوجودية حين يصبح المجتمع جحيما للأنا الباحثة عن ذاتها، كل ذلك من خلال حوار بين شخصيتين متناغمتين إلى حد التماهي.
شخصية مسرحية أولى تعيش إحساسا أنثويا داخل جسد ذكوري. وبلغة إبداعية استطاع الممثل وليد تجسيد هذا الإنشطار الوجودي بين الروح والجسد، بين إحساسات داخلية وإكراهات خارجية من المجتمع،أو نظرته التي تمزق وتلغي الأنا كما ترى نفسها أمام ذات أخرى صنعهتا التنشئة المجتمعية، من خلال مؤسسات الأسرة والمدرسة، بلغة التعنيف الجسدي الأبوي والتهكم والاقصاء المجتمعي.
وقد استطاعت الشخصية المزدوجة، عبر حبكة درامية متنامية مع سيرورة العرض، التغلب على هذا الانشطار واختيار الاصطفاف إلى جانب الأناK كما تريد نفسها وتحقيق مكنونات دواخل ذاتها، وإمعانا في ابراز هذا التحرر و تلاقي الذات مع ذاتها ستنتقل الشخصية المتحررة الى مستوى ٱخر من الفعل الى التفاعل لكي تحرر ذات أخرى تعيش نفس معاناتها السابقة لصياغة بيان موت الذات المستلبة باكراهات المجتمع وإعلان ميلاد شخصية حقيقية باسم اصبع روج
الشخصية الثانية التي يؤديها الممثل ابراهيم، شخصية مركبة من أدوار متعددة. فهو الوجه الٱخر أو المرٱة للشخصية الأولى، وهو الاب الممثل لقيم المجتمع وسلطته الذكورية، وهو الأم المتعاطفة مع ابنها والمتفهمة لهواجسه وهمومه، وهو أيضا شخصية شبيهة بالأولى الباحثة عن دواخلها الأنثوية بكثير من الخوف من المجتمع، وقليل من الجرأة بالبوح عن مكنونات الروح المعاكسة للجسد، على عكس الشخصية الأولى .
شخصيتان أساسيتان في العرض أداهما باقتدار الممثلان وليد وابراهيم، ببراعة في الحوار والحركة بكل تلقائية وانسجام في التعبير والتفاعل والانتقال من موقف إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، وتفاعل جيد مع كل العناصر السينوغرافية المؤثتة للفضاء الركحي.
على المستوى السينوغرافي، كانت الرؤية معبرة، وبشكل وظيفي وجميل، عن موضوع العرض، سواء في بدايته بتقديم صورة محددة للفضاء المكاني وزمانه، غرفة مؤثتة بسرير وأغطية وطاولة وكرسين ومرٱة ودولاب ملابس مكشوف، ومبخرة توحي بأن الفضاء حلبة للصراع بين أفكار الروح المتحررة وقيود الجسد المكبلة بقيم المجتمع وقوانينه عبر كل الأزمنة .
سينوغرافيا وظيفية وحية، من حيث الكراسي والمبخرة المتحركة أو الملابس والإكسسوارات التي تساعد الشخصيات المتحاورة على أداء أدوارها ومنحها الأبعاد النفسية والفسيولوجية المطلوبة، وأيضا حين سمح البناء السينوغرافي بقطع ديكورمتحركة، وإكسسوارات مكملة وإضاءة خافتة موحية بهمسات الروح وموسيقى هادئة. عناصر ساعدت على الانتقال بسلاسة من النمط الاجتماعي المعطى في غرفة نوم تقليدية إلى النمط النفسي الذي تبنيه الانا، كما تريده لا كما يريده الآخرون ،عن طريق تفكيك السرير والفراش والأغطية والطاولة والكراسي، وكل المعيقات وتحويلها إلى حطام والاحتفاظ فقط بالمرآة، لأنها وحدها تعكس وجه الحقيقة، ودولاب الملابس باعتبارها وعاء الجسد ورمز تحرره ومحفظة ماكياج نسائي في مطلعها أصبع الروج أو أحمر شفاه، كعلامة فارقة على وجود الانثى في مساحة أضيق، ولكنها أكثر رحابة تمكن من الاعلان عن خلق جديد الذوات الميتة.
على مستوى الإخراج، يقدم لنا المخرج بدون مقدمات شخصية رئيسية حاضرة حتى قبل دخول جمهور القاعة وقبل البداية المتوقعة للعرض لشخصيات كونية مجردة بدون جوازات إقليمية او حتى اسماء، هي فقط كائنات تعيش همومها داخل غرفة سارترية أو كهف افلاطوني، شخصية محورية بلباس انثوي في لونه وشكله وعمل بيتي في التنظيف وتعطير الجو امام المرآة ،وشخصية ثانية تتلون كالحرباء لتمنح التنامي الدرامي بعده الفكري والفني ، رؤية تتبنى التصورالفلسفي الوجودي الذي يتحدث عن الوجود المستلب للشخص في مجتمعه وان الضرورة تقتضي أن يسبق الوجود الماهية، مادام معطى إجتماعيا مفروضا، والغاية هي جعل الخطاب المسرحي وسيلة للتوعية بالذات وأن تكون الحياة مشروعا خاصا بكل فرد لملاقاة ذاته كما يريدها هو وتحقيق كل الإمكانات في الحاضر والمستقبل .وايضا رؤية سعت بإحكام الى جعل الفرجة المسرحية تطهيرا للمتلقي حين يتعاطف مع شخوص المسرحية ويقبل بها ولو بتكسير الطابوهات مهما كانت جذورها ،
رؤية جمعت بين الدعوة إلى التحرر بمعناه الوجودي والتطهير بمعناه الارسطي وخارج التغريب والقسوة وباقي اشكال التناول المسرحي.
عمل مسرحي ممتع في نصه المعالج لمسألة الانشطار الوجودي بين الأنا والمجتمع والملاذ الى مقاربة التحليل النفسي الذي يغوص في أعماق اللاشعور، حين تجد الأنا نفسها ملزمة في مساحة متنازع عليها بالانشطار بين الأنا الاعلى والهو..
عمل مسرحي بتشخيص سلس ومقنع وأحاسيس صادقة في القول والفعل، وباداء ركحي متنوع وغني، يتميز بالحرفية والإتقان في بناء المواقف، وفي التكامل والانسجام في الحركة، والتعبير والتوازن بين المساحات والمستويات المسطرة بدقة فوق الخشبة دون ملل أو نفور.
عمل مسرحي برؤية إخراجية متمكنة وعالمة في امتلاك أدوات الاشتغال المسرحي لكي يكون الإخراج ليس فقط مجرد فرجة مجانية أو لحظة عابرة، بل فسحة فكرية للتساؤل والتموقع والتأويل بين المتلقي والعرض المسرحي.

محترف الإجازة المهنية لمهن المسرح والدراما بكلية الٱداب والعلوم الإنسانية بنمسيك


الكاتب : قاسم العجلاوي

  

بتاريخ : 28/07/2022