يعد الأستاذ الباحث يوسف أكمير واحدا ممن لمع نجمهم في البحث التاريخي الأكاديمي المعمق والرصين. وحينما نتحدث عن تاريخ جذور العلاقات المغربية الإسبانية، فإن اسمه يظل حاضرا باعتباره واحدا ممن خبروا الموضوع؛ وإذا كان العديد منا يربط السياق التاريخي لهذه العلاقات بحدث تحول سبتة من مستعمرة برتغالية إلى مستعمرة إسبانية بعد انهيار جيش الاحتلال البرتغالي في وقعة وادي المخازن (1578)، علما بأنها ظلت تحت سيطرتهم منذ (1415) على عهد أبي عنان المريني، والبعض الآخر يرجح أن العلاقات المغربية الاسبانية عرفت تطورا لم يكن في صالح المغرب بعد هزيمته المدوية في حرب تطوان، والتي دامت زهاء سنة تقريبا (1859/1860)، بينما يرى البعض الآخر أن هذه العلاقات أصبحت لصالح إسبانيا بعد خضوع المغرب للحماية ما بين 1912 و1956، فإننا أمام كتاب يلخص مجهود الباحث يوسف أكمير، وهو يتقصى بالدقة والتحليل، متحليا بمنهج تاريخي دقيق ورصين، جذور هذه العلاقات المغربية-الاسبانية؛ ومن حسن طالعنا أننا أمام كتاب يتقن صاحبه بالإضافة إلى اللغة العربية؛ اللغتين الاسبانية والفرنسية مما سيسمح له باعتماد محفوظات ربائد الوثائق الأجنبية وبخاصة الاسبانية منها.
الكتاب الذي قدمنا قراءة حوله يحمل عنوان «الأصول السياسية والاجتماعية للعلاقات المغربية الاسبانية:1875-1912» لصاحبه يوسف أكمير الأستاذ الباحث بشعبة اللغة الإسبانية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن زهر بأكادير. وقد صدر الكتاب بدعم من وزارة الثقافة المغربية عن منشورات باب الحكمة- تطوان سنة 2023. ويقع الكتاب في حوالي ثلاثمائة وأربعة وثلاثين صفحة من الحجم المتوسط. ويتكون من مقدمة وستة أبواب وخاتمة، بالإضافة إلى ملاحق الوثائق المعتمدة وفهرسة لمضامين الكتاب.
لقد سعى الباحث يوسف أكمير إلى بلوغ ثلاثة أهداف محورية، وهو يتقصى في مؤلفه، جذور العلاقات الاجتماعية والسياسية ما بين 1875و1912 ويمكن تلخيصها في ما يلي:
1/ تجاوز الصورة النمطية عن تاريخ العلاقات المغربية الاسبانية، سواء أتلك المرتبطة بنا نحن كمغاربة أو بالإسبان، وهي صورة خاطئة ومتجاوزة متضمنة لعدة صور ومفاهيم نسجت خلال الماضي، وتعتبر لشدة الأسف معيارا للمساءلة الثقافية، وإصدار أحكام قيمة حول الآخر.
ويرى صاحب الكتاب أن تجاوز هذه الصور النمطية لن يتأتى إلا بالغوص في غياهب الظرفيات التاريخية التي أنتجت فيها هذه النمطية من خلال تفكيكها، وتحليل إطارها التاريخي الذي أنتجت فيه لإزالة لبسها الديماغوجي. فمهما قيل في الماضي من طرف الإسبان عن المغاربة، من قبيل النعوت القدحية التي وصفوا بها «الحرب حرب ضد العدو المغربي الكافر» و «المورو المتوحش» فلا يمكن إعادة الأمور إلى نصابها إلا بالبحث وتقصي الدقة، والتحليل أثناء تناول هذا الموضوع، وهذا ما صرح به فعلا صاحب الكتاب عندما قال: «إن قلة الدراسات المتخصصة في موضوع خدش وعينا وموروثنا الجماعي، وفحص مخيالنا الاجتماعي لمعرفة واستشفاف أصول الصورة التي كونها الآخر عنا كان بمثابة عامل محفز وجه اهتماماتنا الأكاديمية صوب هذا المسار. ص6 من الكتاب».
2/ كون معظم الدراسات التي تناولت العلاقات المغربية الإسبانية اتخذت من فترة الحماية منطلقا لها ولم يع أصحابها أن الموضوع لا يمكن تدقيقه وحل طلاسمه إلا بالعودة إلا ما قبل حدث الحماية وخضوع المنطقة الشمالية للاستعمار الاسباني لذلك فدراسة أصول العلاقات المغربية-الاسبانية لا يمكن أن تنجح إلا بالعودة إلى السياق التاريخي الذي انتجت فيه وهو ما دفع بالباحث إلا اتخاذ سنة 1875 منطلقا كرونولوجيا لدراسته وعيا منه بأهميتها في فهم معطيات الاستعمار الاسباني للمغرب.
3/ معظم الدراسات الإسبانية المتخصصة في إعادة رسم وترميم جديد للنظام الملكي الحاكم في إسبانيا لم تول أي اهتمام للمسألة المغربية معتبرة إياها مسالة ثانوية لا ترقى إلى مستوى عنصر مؤثر في تاريخ إسبانيا السياسي والاجتماعي؛ بمعنى أن تاريخ الصراع المغربي الاسباني هو مجرد ورقة ثانوية في ملف إسبانيا الخارجي على حد تعبير المؤلف.
لقد دفعت هذه النقطة بالذات تبني صاحب الكتاب فكرة إعادة كتابة تاريخ العلاقات المغربية-الاسبانية بشكل موضوعي يزيغ عن الذاتية، وهو الطرح الذي يشكل مشروعا فريدا لصاحب الكتاب باعتبار أن المغرب شكل تأثيرا في القوى الداخلية بإسبانيا، سواء أتعلق الأمر بما هو سياسي أو اجتماعي أو ثقافي؛ ولا أدل على ذلك حسب المؤلف من أصداء حرب الريف في شوارع إسبانيا وتأثيرها على سيرورة الأحداث السياسية الداخلية إلى درجة اتخاذها ورقة ضغط استعملتها أحزاب اليسار الاشتراكي والفوضوي ضد حكومة إسبانيا، ونفس الشيء سيحدث عندما استعملها جيش إفريقيا سنة 1923 للإطاحة بالحكومة الدستورية وإعلان حكم فرانكو الديكتاتوري.
يرى صاحب الكتاب أن إعادة كتابة تاريخ العلاقات المغربية الاسبانية يستدعي منا تجاوز مواقف وزارة الخارجية الاسبانية التي تعتبر المسألة المغربية مسألة ثانوية مقابل الانفتاح على مصادر أخرى منها المؤسسات غير الرسمية، وكذا فعاليات المجتمع المدني لمعرفة حقيقة المواقف التي تبنتها إسبانيا تجاه المغرب خلال الفترة المدروسة في الكتاب.
وفي هذا الصدد، قام الباحث بتحليل دقيق لأصداء المسألة المغربية في الأحزاب والحركات السياسية الرسمية وغير الرسمية وكذا ردود فعل مؤسسات الدولة حيث تبين له اختلاف في المواقف حول هذه المسألة بالرغم من المواقف التي أنتجتها دولة إسبانيا وفرضتها في عدة مناسبات من خلال أجهزتها خلال فترة القرن التاسع عشر الممتد.
إن فهم المسألة المغربية مرتبط بوضعها في سياقها التاريخي؛ فنحن أمام دولة استعمارية هي إسبانيا فرضت واقعا اتضحت معالمه بعد اصطدام البنيات السوسيو –اقتصادية بمصالحها ومصالح القوى الأخرى التي كانت لديها أطماع في المغرب مثل فرنسا وبريطانيا العظمى؛ فإسبانيا أرادت تصريف أزماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بلفت أنظار شعبها إلى المغرب من خلال استرجاع «ملحمة حرب تطوان» وفي نفس الوقت الخروج بأقل الأضرار النفسية التي تسببت فيها حرب كوبا أو الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عصفت بإقليم «أندلثيا» أو المجاعات التي شردت ساكنة «إكستريمادورا».
يطرح إذن موضوع العلاقات المغربية الاسبانية ما سماه صاحب الكتاب بالهم الإستوغرافي؛ هذا الأخير يستدعي توظيف رزنامة من الوثائق المتنوعة المصدر واعتماد منهج تاريخي رصين يساهمان في إعادة تركيب الأحداث التاريخية التي تشكل نقط مفصلية لتاريخ هذه العلاقات، وتنتهي بإعادة كتابة تاريخ العلاقات المغربية الاسبانية من أسفل إلى أعلى وهذا هو المطلب الجديد في الكتابة التاريخية؛ ولقد نجح صاحب الكتاب في هذه المهمة. ويتضح ذلك من خلال تتبع وفحص مضان الكتاب، فقد سعى جاهدا إلى دراسة ردود فعل القوى السياسية والاجتماعية إزاء المسألة المغربية خلال المرحلة الأولى من عهد إعادة هيكلة النظام الملكي الاسباني، ومن تم الخروج باستنتاجات وخلاصات تجيب على الإشكالية التي طرحها وتبريره اختيار الحقبة الزمنية موضوع الكتاب.
قسم الباحث يوسف أكمير مضامين كتابه من خلال الربط بين محورين اثنين هما: محور المغرب تحت التنافس الإمبريالي، ومحور سياسة إسبانيا تجاه قضية استعمار المغرب خلال المرحلة الأولى من عهد الترميم وذلك بغية توضيح الأسباب والنتائج التي شكلت خيطا ناظما بين المسألتين. وعلى هذا الأساس اعتمد الوثائق المغربية الرسمية لدحض الطرح الكولونيالي الاسباني المتضمن في العديد من الكتابات والوثائق الرسمية، وإزالة اللبس والغموض الذي وقعت فيه العديد من الدراسات التاريخية المغربية، والتي أعيد تكرارها في أكثر من مناسبة، دون توخي الحيطة والحذر من مغالطاتها المغرضة.
وانطلاقا من هذا الأساس أعاد صاحب المؤلف النظر في المضمون الكلاسيكي للمفاهيم المهيكلة لحقل تاريخ العلاقات المغربية الاسبانية، وأعاد تصحيحها بشكل يستجيب للموضوعية التاريخية وهي مفاهيم مرتبطة بالحقول المعرفية؛ الاجتماعية والدينية والجغرافية والثقافية.
ومن جهة أخرى عرج الباحث على إعادة قراءة البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمغرب قبيل الاحتلال بغية الوصول إلى الحلقة المفقودة في علاقة هذه البنى بمطامع الامبريالية وبخاصة المطامع التاريخية لدولة إسبانيا.
وعلى عكس الطرح الاسباني القائل بكون المغرب ظل ورقة ثانوية في ملف إسبانيا الخارجي، فإن الباحث صرح انطلاقا من وثائق فريدة أن المغرب ظل قضية أساسية في مواقف إسبانيا الدولية مؤكدا على حضورها بشكل طلائعي في قضية التوازن الدولي حول دولة المغرب وذلك من خلال البحث وتقصي الدقة في مواقف أولى الحكومات الاسبانية سواء المحافظة أو الليبرالية تجاه مسألة مصالحها به، وكذا من خلال دراسة الظرفية التاريخية التي نشبت على إثرها حرب مليلية سنة 1893، وحلولها الديبلوماسية سنة 1894 والتي لم تكن في صالح المخزن، حيث سعت إلى إضعافه وإذلاله. ولعل كل هذه الأحداث إنما شكلت الأرضية التي ستشتغل عليها الأحزاب السياسية متخذة من المغرب مسألة رئيسية ومخططة في ذات الوقت لتاكتيك التدخل العسكري وإخضاعه للاستعمار.
وبالمقابل فقد درس الباحث السياسة المزدوجة للأحزاب غير الحكومية وبخاصة الجمهوريين والاشتراكيين والأنريكيين والفوضويين التي كانت تدين الغزو الاسباني للمغرب في الظاهر، وبالتالي كانت تعارض سياسة النظام الملكي الحاكم، بينما كانت تخفي اعتمادها المسألة المغربية ورقة ضغط لتأجيج الشارع الاسباني.
ومن جهة أخرى خاض الباحث تقصي الأحداث المرتبطة بمؤسسة الجيش الاسباني الذي يعود له الفضل في عملية الضبط الاجتماعي للإسبانيين، وكذا ترويض الحكومات القائمة على خدمة المصلحة الاسبانية الامبريالية. ومن هذا المنطلق خصص الباحث محورا للخوض في دراسة أهم الفرق العسكرية الاسبانية؛ ويتعلق الأمر بجيش إفريقيا من خلال نبشه في جذوره وتحديد مواقفه من احتلال المغرب، كما بحث المؤلف في التركيبة الاجتماعية لهذا الجيش الذي كان يتشكل من المستضعفين والكادحين الذين فضلوا الانخراط في الجندية على عدم تأديتهم 1500 بسيطة لإعفائهم من هذه المهام.
ومن جهة أخرى خصص صاحب الكتاب حيزا للخوض في مواقف الكنيسة من مسألة احتلال إسبانيا للمغرب تحت شعار «احتلال المغرب حملة كاثوليكية مقدسة «. وقد سلط المؤلف الضوء على مسألة انقسام الرأي الاسباني ما بين مؤيدين لعملية الاحتلال المشكلين من الجمعيات اللاحكومية التي عبرت عن تضامنها من خلال جمعها لتبرعات خاصة بأسر ضحايا الحرب من؛ معطوبين، وقتلى، وجرحى. ومن جهة أخرى هناك موقف رافض للاحتلال الاسباني للمغرب ويتضمن في مجمله المدنيين المجبرين على حوض الحرب ضد المغرب وهي أسر مناهضة للاستعمار حيث خاضت إضرابات واعتصامات عمت شوارع إسبانيا.
المنهج المتبع في الدراسة
اعتمد المؤلف منهجا رصينا يقطع مع نتائج الطرح الكولونيالي المتضمن في الاستوغرافيات التي تناولت موضوع العلاقات المغربية الاسبانية وبخاصة الاستغرافية العسكرية الاسبانية ذات التوجه الاستعماري، والتي كانت حاضرة بقوة في الكتابة التاريخية عن هذه العلاقات، ومن جهة أخرى القطع مع الطرح الوطني الإسباني الذي أثبتت الوثائق محدوديته ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي؛ ويتعلق الأمر بالاستغرافية الاسبانية التقليدية، والتي ظلت تدافع عن عملية إخضاع إسبانيا للاستعمار الاسباني متخذة بذلك ذريعة استرجاع أمجاد إسبانيا التاريخية، ويقتضي هذا المنهج الموظف كما يصرح بذلك صاحب الكتاب الخروج باستنتاجات تدحض هذه الطروحات وتكشف محدودياتها، وعدم قابليتها للأجرأة من خلال اعتماد أرشيف متنوع وفريد يتضمن الوثائق الملكية المغربية مثل الظهائر والمراسلات المخزنية بالإضافة على طثائق العائلات، مثل وثائق الخزانة الداودية، كما اعتمد صاحب المؤلف على الأرشيف الأجنبي خاصة الأرشيف الاسباني الملكي بمدريد، ووثائق الأرشيف العام العسكري، وأرشيف وزارة الخارجية الاسباني، والأرشيف العام الإداري، والأرشيف المركزي بمليلية، ووثائق الخزانة الوطنية بمدريد، ووثائق الخزانة البلدية بنفس المدينة.
خلاصات وتركيب
تمكن صاحب المؤلف من إعادة كتابة تاريخ العلاقات المغربية الاسبانية خلال حقبة تاريخية تمتد من 1875 على 1912، وهو عكس النمط الذي كان سائدا لدى عدة باحثين تأثروا بالطرح الكلاسيكي لتاريخ هذه العلاقات، مما جعل نتائج أبحاثهم تتصف بنوع من المحدودية تاركة بياضات في ظل ندرة الوثائق أو صعوبة الوصول إلى منافذها، وقد نجح الباحث في تطبيق المنهج الجديد في التاريخ كما نظر له رائد الحوليات الفرنسية المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف، وحاول الباحث جاهدا، وهو المسلح بوثائق فريدة ومتنوعة، أن يجيب على عدة تساؤلات تشكل مربط فرس تاريخ هذه العلاقات؛ بل تشكل في بعض الأحيان الحلقات المفقودة في تاريخها ومنها؛ مؤسسة الجيش، ومؤسسة الكنيسة، وجمعيات المجتمع المدني من خلال جرد وتتبع مواقفها تجاه عمليات الاحتلال الاسباني للمغرب وإخضاعه في ظل وضعية دولية حرجة شهدتها بلدنا خلال العشرية الأولى من القرن العشرين.
(*) أستاذ باحث في تاريخ المغرب المعاصر