المسيرة الخضراء أعادت الأرض…والرؤية الجديدة تعيد الانسان

تعيش المملكة المغربية اليوم لحظة حاسمة في مسار نزاع استنزف نصف قرن من الزمن، وبعد ربع قرن من الحراك والتحرك الدبلوماسي الهادئ والمتواصل في دهاليز السياسة الدولية، بإشراف مباشر من رئيس الدولة. هذا العمل الدقيق والمتراكم أثمر اعترافًا دوليًا متزايدًا بمغربية الصحراء، ورسّخ مبادرة الحكم الذاتي كخيار واقعي وعملي تتبناه الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، بما يؤكد أن الصحراء لن تكون إلا في مغربها، وأن الحل السياسي لم يعد سوى طريق واحد: الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.
إننا اليوم أمام مرحلة جديدة من المسار: مرحلة يمكن وصفها بـ”الجهاد الأكبر”، وهي جهاد الوحدة الوطنية وترسيخ الإجماع الداخلي حول مستقبل الأقاليم الجنوبية. والجميع يدرك أننا نسير في اتجاه حاسم، خاصة بعد أن فتح عاهل البلاد باب التشاور مع الأحزاب السياسية، في خطوة تؤشر على توسيع دائرة المشاركة الوطنية في صنع القرار المتعلق بواحد من أكبر الملفات الاستراتيجية للمملكة. ومع ذلك، تبقى الدبلوماسية الرسمية الأكثر دراية بخبايا المرحلة المقبلة: مسارات التفاوض، تفاصيل الحل، الأطراف المؤثرة إقليميًا ودوليًا، والظروف التي يجب أن تُدار داخلها المرحلة الحساسة القادمة. فالقضية ليست مجرد ملف إداري أو رغبة سياسية، بل قضية أمة، ومسؤولية لا تُترك للصدفة، وتستلزم السرية والجدية والنفس الطويل، في إطار احترام اختصاصات كل مؤسسة تحت إشراف الضامن للوحدة الترابية، طبقًا للدستور.
وفي هذا السياق، يصبح من الضروري طرح سؤال مركزي: ما دور المجتمع المدني، والنخب السياسية، والإعلام، والبرلمان؟ فهذه المرحلة ليست دبلوماسية فقط، بل إنسانية، اجتماعية، وقيمية بامتياز. المؤسسات الوطنية كلها ستكون مطالبة بالانخراط في هندسة مرحلة جديدة عنوانها بناء الثقة وتهيئة المناخ لاستقبال الإخوة الذين سيعودون، لأن النجاح الدبلوماسي لا يكتمل دون نجاح مجتمعي قادر على احتضان الاندماج وإعادة لحمة الوطن. ويتطلب ذلك خطة تواصلية وترافعية متكاملة، تبتعد عن كل خطاب جارح أو مستفز، وتنسجم مع الروح الملكية الداعية إلى المصالحة والكرامة، لا غالب ولا مغلوب، انسجامًا مع ما تُجمع عليه كل التجارب الدولية التي تؤكد أن الصراعات الإقليمية تُحسم بإجراءات الثقة قبل أي شيء آخر.
إن المعاناة التي عاشها إخوتنا وأخواتنا في مخيمات تندوف، في خلاء بلا تنمية وبلا شروط حياة كريمة لنصف قرن، ليست مجرد صفحة سياسية، بل جرح إنساني عميق. أجيال بأكملها وُلدت بعيدًا عن الوطن الأم، بلا ذاكرة مشتركة، وبلا روابط اجتماعية تحفظ الشعور بالانتماء. ورغم ذلك، لم يكونوا يومًا أعداءنا، بل هم جزء من الأسرة المغربية الكبيرة، والظروف وحدها هي التي فرّقت، كما قد تعرف الأسرة الواحدة نزاعات أو خلافات. ولذلك، فإن العودة ليست مسألة “انتصار طرف على طرف”، بل استعادة الروابط التي انقطعت بفعل الزمن، وهذا ما لخّصه جلالة الملك في العبارة الجامعة: في الوطن لا غالب ولا مغلوب.
وإذا كانت المسيرة الخضراء التي قادها جلالة المغفور له الحسن الثاني قد حسمت ميدانيًا مسألة الأرض، فإننا اليوم أمام مسيرة جديدة ذات طبيعة مختلفة. هي مسيرة يقودها جلالة الملك محمد السادس لاستعادة الارتباط الإنساني والعاطفي، مسيرة تُعيد الدفء للعائلة المغربية الواحدة، وتفتح باب الاندماج والمصالحة، وتؤسس لمرحلة ما بعد النزاع بعقلانية وتبصر وروح وطنية عالية. إن التحولات التي نشهدها ليست فقط تحولات سياسية، بل هي تحولات اجتماعية تتطلب إعداد المجتمع لاستقبال جيل لم يعرف المغرب إلا من بعيد، وإعداد الدولة لتوفير الظروف القانونية والتنموية والنفسية لفتح صفحة جديدة قائمة على الكرامة والعدالة والإنصاف.
إن المغرب اليوم أمام فرصة تاريخية لإغلاق هذا الملف، ليس بانتصار سياسي فقط، بل بانتصار أخلاقي وإنساني، تُكتب فيه المصالحة بمداد الحكمة. فالمستقبل لن يُبنى على لغة التشنج أو الإقصاء، بل على رؤية تُعلي قيمة الإنسان، وتعيد تشكيل علاقة المواطن بوطنه على أساس الثقة والانتماء. وقد علمتنا الدبلوماسية والتاريخ أن كل النزاعات، مهما طال أمدها، تنتهي إلى طاولة الحوار، وأن الحكمة هي التي تمنح الانتصارات قيمتها، وأن الأوطان القوية هي التي تتسع لكل أبنائها.
إننا نقف اليوم أمام بداية مرحلة جديدة: مرحلة اندماج، بناء، واستعادة الروابط. مرحلة تحتاج إلى خطاب رصين، وإعلام مسؤول، وسياسة حكيمة، ومجتمع مدني قادر على الوساطة الإنسانية، وبرلمان مستعد لإنتاج تشريعات تؤطر المستقبل. هي مرحلة لا نقف فيها فقط على عتبة حل سياسي، بل على عتبة مصالحة وطنية تاريخية تعيد تشكيل الصورة الكاملة لوطن يتسع للجميع.
في النهاية، إن المسيرة الثانية، مسيرة استعادة العلاقات والأرواح، لا تقل رمزية ولا أهمية عن المسيرة الأولى التي حررت الأرض. اليوم نكتب مستقبلًا جديدًا، مستقبلًا يقوم على الكرامة والوحدة والعدل، ويقول لكل أبناء المغرب دون استثناء:
الوطن يتسع للجميع… ولا غالب ولا مغلوب.


الكاتب :  محمد الطالبي

  

بتاريخ : 17/11/2025