كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.
في خطابه عشية المسيرة الخضراء يوم 6 نونبر 1975 ، استدعى الحسن الثاني، في نفس الوقت، الوازع الوطني ( الذي يحيل على الراية، والوحدة الترابية وفكرة الحدود: انظر العروي) والسجل الديني والبعد الرمزي، لتصير المسيرة بذلك تعبيرا عن السيادة، وممارسة السلطة…. والمسيرة الخضراء يمكن اعتبارها الجواب الأكثر وطنية والأكثر «تمركزا غربا – غرب وسطى «( إذا ما استعدنا مصطلحات النقاش السائد أنذاك ) الممكن حدوثها، لأن الأمر يتعلق بالتواجد المادي الفيزيقي لمجال ترابي يعتبر ترابا وطنيا، والذي يُرمز إلى السيطرة عليه بتواجد الإدارة والجيش والساكنة والراية، وهي تجسد الوحدة الوطنية المستعادة حول الملك وشعبه الموحد إلى درجة أنها «تظل الى حدود الآن، رمزا مؤسسا للوطنية الملكية المغربية». كما أن اتفاقية مدريد (1976) وبناء الجدار الأمني في الثمانينيات يترجمان، بلا شك، تصورا واضح المعنى لحدود مستقرة ، محددة، وأرض تحت السيطرة المباشرة، إداريا وعسكريا، بيد أنه، في الآن ذاته، يعني وضع الجدار داخل الحدود بأن انقطاع الفضاء الترابي أي المكاني، أمر «عادي».. كما يحيل في الوقت ذاته على أن مفهوم التخوم قد أعيد إليه الاعتبار… لقد تم وضع تصور المسيرة الخضراء وتنفيذها باسم تصور امبراطوري للمجال الترابي.. وعليه، فالبيعة هي تعبير عن هذه الطريقة في حكم تراب معين لا تحتاج إلى سيطرة مباشرة، بل هي محكومة بطريقة غير مباشرة عبر الروابط التي تجمع بين السلطان وساكنة المنطقة.. عبر تعبئة الإسلام. وهي تستند إلى هندسة تجمع التقنيات الخاصة بالدولة – الأمة ، تعبئة الإدارة من أجل تجنيد وتأطير 350 ألف مشارك استعدادا لتأطير هؤلاء على قاعدة التقطيع الترابي للأقاليم والعملات، تلقين التأطير الجماهيري في مدارس الأطر التابعة للحركة الوطنية – والتقنيات الخاصة بالامبراطورية. كما أن هندسة التعبئة ومنطقها في الحركة يتيحان السيطرة على التراب بمعسكرات ولوجيستيك النقل والتغذية والصحة … أما هندسة التمثيلية فهي تتطلع إلى تكوين الشعب الذاهب إلى التراب المستعاد على صورة الجماعة، أي في إطار التنوع، زد على ذلك أن تعبئة المشاركين في المسيرة تمت قراءتها بدقة لكي تشمل كل التراب الوطني وكل الإثنيات، وكل الفئات الاجتماعية. ولا يمكن تفسير هذا الرهان «المجنون» ( هكذا وصفه الحسن الثاني بعد سنوات من ذلك ) إلا بهذا المزج بين الحجج والتمثيليات والمرجعيات والتقنيات، والتي تتمفصل بين بعضها البعض بطريقة لا واعية وغير متوقعة.
إن المسيرة الخضراء منعطف، إذ إلى حدود ذلك التاريخ كان البراديغم «الدولة – الأمة «هو المهيمن، في حين كانت الإحالات على السجل الامبراطوري من صميم الفولكلور، وكانت بيعة الداخلة في 1979 مناسبة لإخراج مثير للدهشة لمظاهر الجاه الامبراطوري. وقد جاءت في سياق الحرب التي وجدت فيها القوات المسلحة الملكية نفسها في مواجهة على المحك مع قوات الجيش الجزائري والبوليساريو.. كما جاءت كذلك في اللحظة التي كانت موريتانيا ستتنازل عن الأقاليم التي ورثتها بفعل اتفاقيات مدريد الموقعة في 14 نونبر 1975..
إن البيعة ذات رمزية قوية على مستويين، أي عبر طريقة إخراجها وعبر مضمون النص الذي يرافقها، وهو نص تتم صياغته بدقة عالية ويضع الإطار النظري البارز الذي يؤسس الرابط السياسي، معتبرا البيعة في شكلها عقدا اجتماعيا تأسيسيا، وذلك قبل أن يبدأ وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، والعديد من رجال التحليل السياسي في التفكير فيها بعد عشر سنوات من هذا التاريخ. وبطريقة من الطرق، فإن هذا النص يؤشر على بداية حركة متعمدة ومكثفة لإعادة ابتداع التقليد. وهذه الحركة ظاهرة بشكل كبير في الإخراج، والذي يميل في الوقت ذاته إلى فرض النظام على المجتمع وقد صار جماعة سياسية ، وتعبيرا عن القدرة الامبراطورية .
لقد دشنت البيعة دورة من البيعات المتنقلة، بعد الداخلة جاء دور الدارالبيضاء وفاس وطنجة وتطوان…. وهي تبرز هندسة التنقل التي تم تحليلها سابقا، حيث آلاف الأشخاص، في ملابسهم البيضاء، يدوسون آلاف السجاد ، يقيمون ويأكلون في شروط القصر الامبراطوري… وكل ذلك بفضل فاعل خاص سيصبح رجل النظام، الفارق، رحال السلامي «الممون» الذي سنتحدث عنه مطولا في نص آخر ( في هذا السياق، فإن الممون لا يتكلف فقط بالمأدبات، بل إنه يساهم في إنجاز المعجزة الملكية، حيث إنه يخلق من عدم وفي كل مكان ، بل خارج التراب الوطني، معسكرات التي تتحول إلى مدن تأوي الاحتفالات الملكية ).