المشهد الصوفـي -14- أثر رباعيات الشيخ عبد الرحمان المجذوب في أشعار الشيخ عبد القادر العلمي – الجانب الصوفي

إن القراء اليوم المولعين بـ «تراث فن الملحون» الأصيل يريدون أن يتعرفوا – بدورهم – على بعض الجوانب الخفية من حياة فرسان الزجل بالمغرب، وهي جوانب جد هامة ومفيدة، ظلت مخزونة بين ثانيا الصدور، ومحفوظة في الذاكرة الشعبية زمانا غير يسير، وعلى تعاقب الأجيال المغربية ؛ وقد رصدنا من أجل توثيقها مجموعة من اللقاءات والمهرجانات الفنية أزيد من خمسة عقود خلت.
نعم، إن هذه المرويات التي تروى حول بعض شعراء الملحون على اختلافها في بعض المدن المغربية لا يزال يحفظها أهل الملحون بالتواتر، جيلا عن جيل، مما يجري في كل منتدى من منتدياتهم، وفي كل محفل من محافلهم. إنها مرويات تكشف عن خفايا إنتاجات هؤلاء المبدعين، وعن ألغازها، ومعمياتها، بل من أجل العمل على تقريبها من الأذهان، والأذواق، فيحاول الدارسون، والباحثون، تقديم ذلك سهلا ومبسطا إلى جمهور عريض من القراء والمولعين بفن الملحون؛ في كل غرض من أغراض القصيدة الزجلية –على تعدد أشكالها الفنية، وأجناسها الأدبية -. ومن الأسماء اللامعة في هذا الفن، اسم قد ظل– في كل وقت وحين- تردده الشفاه وتستشهد بمعانيه العقول والأرواح، بل يرن صدى بدائعه وروائعه في كل وسط من الأوساط، في الغدو ، والرواح.

 

عندما يضع الدارس والباحث ما أبدعه الشيخ عبد الرحمان المجذوب للتأمل والنظر، فإنه يجد بين يديه تلك الإشارات التي أشرنا إليها في الحلقة السابقة.
فالجانب الصوفي في هذه الرباعيات قد استفاد منه الشيخ عبد القادر العلمي في القصائد التي جاءت مرموزة تحمل الوجهين: الوجه الخفي عند الشاعر والوجه الظاهر بما تحكم به العامة من دلالات الألفاظ. وهذه بعض الاستشهادات التي تضمنتها بعض الرباعيات في ما يخص جانب (المحبة).
وذلك قوله :
أهـْـلْ المحبَّة ﮔــالـُو لـِي ** إذا ابْــــــــــلاكْ الله بـهـَا
مْقـَامْهـَا عـَالِ، غـَـــالـِي ** أهل لـَكـْتـُوبْ حـَارُو فِيها…
وهي – في رأيه – قسمة عادلة بين البـشَر :
المحبَّة بَـــنْــتْ الرّْضَى ** اللـِّي حَـــــبّها مَـلـْكـَاتـُه
مـَا خْطَاتْ حَتـَّى وَاحَدْ ** وْكـُــــلّْ وَاحَدْ كِيفْ جـَاتـُه
وهو يحب كل الكائنات، من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، مركزا على مبدأ التسامح في قوله بالنص :
اللـِّـــــــي حَبـَّـــــــــكْ حـبـُّه ** وفي مْحَبْتُه كـُــنْ صـَــافِي
واللِّي كـَــرْهـَــكْ لا تـَـسْـبُّه ** وخَلـِّيه ، يَلـقـَى الـْعـْـوَافِي…
* * *
فالشاعر في هذه الصورة الزجلية يركز على فضيلة الحب التي تقود صاحبها إلى مكارم الأخلاق. وفي تأملات الشيخ العلمي في بعض قصائده الصوفية ومن بينها قصيدة الشافي التي جاءت معبرة عن وجدان العلمي في شتى مناحي الحب:
سُئِلَ ذات يوم عما تضمنته هذه القصيدة من درر معاني الحب أجاب قائلا: خلوت إلى نفسي يوماً قبل نظم هذه القصيدة، داخل زاويتي، فخرجت في صورة وجدانية خلاف سابقتها في الدخول؛ وتذكرني هذه الخلوة بخلوة الرسول في غار حراء حين أخذ يتأمل أحوال مجتمعه العربي، وما كان يعاني من فساد الأخلاق، وعبادة الأصنام، و فتور العلاقات الإنسانية، فخرج من غار حراء عليه السلام – بمصباحين منيرين:
مصباح أضاء له الطريق إلى الله، ومصباح أضاء له الطريق إلى الحياة؛ لقد خرجت من خلوتي بمصباح (الحب)، فكانت هذه القصيدة (الشافي) تعكس هذا الوجدان وعلمتني كيف أرسم الحب النبوي الكريم. وهذا تُجليه الأبيات الآتية:
***
مَنْ يَسْتَهَلْ الْـمَدْحْ مَنْ غِيرْ الْعَدْنَانْ
الْعَرْبِي الّهَاشْمِ احْمَدْ سِيَّدْ تُقْلِينْ؟
صَلاَّ اللَّهْ وُعْلِيهْ مَا هَلَّتْ لَـمْــزَانْ
وعْدَادْ الْمِيْتِينْ وَعْدَدْ الْحِيِّــينْ
وعَدْمَا فَتْخُومْ سَبْعَتُ أَرْضِينْ…
***
وبعد هذه الجولة الفسيحة في كتاب : الرباعيات الصوفية لسيدي عبد الرحمن المجذوب – رحمه الله -، والتي قدمنا من خلالها نماذح زجلية في الموضوع، ينتقل بنا المؤلف إلى دوحة باسقة من حقول وفضاءات هذا المؤلَّف القيم ؛ وهذه المرة يتحدث إلينا عن أسرة المجذوب ، وعن شيوخه وتلاميذه وأصحابه ، وعن ثقافته الصوفية ومذهبه، ثم يعرج بنا لنشاركه في سياحة صوفية ممتعة ، تبدو – من خلالها – إشراقات نورانية من شخصية الشيخ عبد الرحمن المجذوب في وجوهها المتعددة والمختلفة.
فهناك رباعيات في الإشارات العرفانية، والحقائق الذوقية، ومنتقيات من رباعيات المحبة، وأخرى من حالات النفس الإنسانية وعيوبها، وأدرانها ، وعن الروح وأحوالها؛ وعن محبَّة الشيخ، وآداب الصحبة، وعن التنبؤ، والإخبار بالمغيبات، مما يسمَّى في ديوان الملحون بـ «الجفريات»؛
ثم يختم المؤلف هذه الباقة العطرة الصوفية بمجموعة أخرى من رباعيات المجذوب، وهي آخر مشهد من إبداعاته التي استعرضها في الكتاب المذكور، تحت عنوان : «الإرادة ، والقضاء، والقدر…»؛ ومسك ختام هذه الجولة في كتابه ، قوله بالنص: الكامل:
« .. هذه الرباعيات، هي خبرة مركزة، وخلاصات معرفية موجهة للمعاملات، وللسلوك القويم، وتكاد – لذلك – تعتبر حصرا مضمون جميع الأساطير، والخرافات المؤسسة للوعي الديني، وللاجتماع البشري، وبالتالي للمدنية، والحضارة والأخلاق، والأسرة «. «للتوسع في الموضوع ينظر المرجع المشار إليه أعلاه»
**********
وسئل الشيخ عبد القادر العلمي مرة أخرى عَمَّا أحسه من مشاعر الحب حين أفرغ من قصيدة التوسل.
فأجاب قائلا: كان اليوم مشرقا وكان الجو معتدلا ولكن أحسست أن هناك ثقلا على نفسي، فلم أجد سوي أنني مقصر في الحب النبوي رغم ما جادت به مشاعري في قصيدة الشافي، في وهذه اللحظة الكئيبة بعدما أديت صلاة الصبح، نظرت إلى السماء وعلى أديمها ما تناثر من نجوم وقلت:

يَا لْوَاجَدْ بَالصَّرْخَا عَنْدْ ضِيقْتْ الْحَالْ
جَلْ مُولاَنَا عَنْ شَبْهْ الْمْثَالْ عَالِي
غِيثْنِي يَتْفَاجَا كُرْبِي انْلُوحْ لَهْوَالْ
خَاطْرِي يَتْهَنَّـا قَلْبِي يْعُودْ سَالِي
لِينْ يَرْكُنْ مَنْ بَارَتْ لُوا جْمِيعْ لَحْيَالْ
وْعَادْ مَنْزَلْ دِيوَانُ بَالْكْدَارْ مَالِي؟
ادْخِيلْ لِكْ آمُولَايْ ابْلَنْبْيَا وْلَرْسَالْ
ادْخِيلْ لِكْ آسِيدِي بِجَاهْ كُلّ وَالِي
ادْخِيلْ جَاهْ السَّادَاتْ الصَّالْحِينْ لَفْضَالْ
كَافَّا لَقْطَابْ الَجْرَاسْ وَالْبْدَالِي
الحربَة: يَامَنْ ابْلَانِي عَافِينِي اِرْحَمْتْكْ النَّالْ
خَفّ تُقْلِي يَا رَبِّي يَرْتْخَا اعْكَالِي


الكاتب : عبد الرحمن الملحوني

  

بتاريخ : 18/04/2022