المشهد الصوفـي (20) : عادات وتقاليد من داخل الزاوية العلمية

إن القراء اليوم المولعين بـ «تراث فن الملحون» الأصيل يريدون أن يتعرفوا – بدورهم – على بعض الجوانب الخفية من حياة فرسان الزجل بالمغرب، وهي جوانب جد هامة ومفيدة، ظلت مخزونة بين ثانيا الصدور، ومحفوظة في الذاكرة الشعبية زمانا غير يسير، وعلى تعاقب الأجيال المغربية ؛ وقد رصدنا من أجل توثيقها مجموعة من اللقاءات والمهرجانات الفنية أزيد من خمسة عقود خلت.
نعم، إن هذه المرويات التي تروى حول بعض شعراء الملحون على اختلافها في بعض المدن المغربية لا يزال يحفظها أهل الملحون بالتواتر، جيلا عن جيل، مما يجري في كل منتدى من منتدياتهم، وفي كل محفل من محافلهم. إنها مرويات تكشف عن خفايا إنتاجات هؤلاء المبدعين، وعن ألغازها، ومعمياتها، بل من أجل العمل على تقريبها من الأذهان، والأذواق، فيحاول الدارسون، والباحثون، تقديم ذلك سهلا ومبسطا إلى جمهور عريض من القراء والمولعين بفن الملحون؛ في كل غرض من أغراض القصيدة الزجلية –على تعدد أشكالها الفنية، وأجناسها الأدبية -. ومن الأسماء اللامعة في هذا الفن، اسم قد ظل– في كل وقت وحين- تردده الشفاه وتستشهد بمعانيه العقول والأرواح، بل يرن صدى بدائعه وروائعه في كل وسط من الأوساط، في الغدو ، والرواح.

 

عرفت زاوية العلمي – رحمه الله – إحياء المناسبات الدينية – كما يشير الأستاذ الباحث محمد أمين العلوي في المرجع المذكور سابقا، صفحة : 435، وهي مناسبات روحية، تعنى في الأساس – بالاحتفال بذكرى مولد الرسول – عليه السلام – في 12 ربيع الأول من كل سنة قمرية، كما يحتفل مريدو الزاوية وأتباع الشيخ بليلة السابع منه؛ ويعرف هذا الاحتفال سرد صحيح الإمام البخاري – رضي الله عنه -، و «الجمع السعيد» الذي يمهد لإقامة موسم «المولى ادريس الأكبر» بمدينة زرهون – رعاها الله –
ودكر الأستاذ في مُستَلَّته المشار إليها أنه ينظم الفقراء العلميون حفل الجَمع التَّمهيدي «الجمع السعيد» في بداية فصل الصيف من كل سنة ، تهيئا للذكرى السنوية للفاتح الأشهر، المولى إدريس الأكبر – رضي الله عنه – ، وتحديد تاريخ إقامة «موسم العلميين» الذي أسسه العلمي ؛ وحول هذا التأسيس يقول الشاعر ، أبو محمد عبد القادر العرائيشي، في قصيدة نقتطف منها ما يلي :
وَاتَّبـــع أسْـــــرارَ مَدْحِ الـْعـَلـَمـي ** إذ بها نــال مُـنـَاهْ وَوَصَـــــلْ…
شَيْخـنـَا مَوْلاي عَـــبْد القَادَر بــ ** ــنْ مْشِيشْ ذي عـُـلـُوم وَعَمَلْ
لا تـُحِدْ عـَنْ نـَهـْجِهِ فـَهـْوَ الـَّذِي ** أسَّسَ الـْمَوْسِمَ فِينـَا لـَمْ يَــــزَلْ…
ويحضر الجمع جمّ غفير من المدعوين من مختلف الحيثيات، ومادحون، ومسمعون من عدة مدن مغربية، ويفتتح الحفل بتلاوة سورة “يس”، والصلاة “المشيشية” ، وتتخلله الأمداح النبوية، والابتهالات، والأدعية، والمواويل والإنشادات “الصوفية” وقصيدة “التوسل” للعلمي، ويختم بالدعاء لأمير المومنين، والأمة العربية، والإسلامية ؛
ولم يفت الأستاذ الباحث محمد أمين العلوي، أن أشار في معرض هذا الحديث عن عادة “إحياء المناسبات الاجتماعية بمدينة مكناسة الزيتون” وعن الدور التعليمي والفني بداخل زاوية العلمي، وأيضا عن تدريس العلم، وتعليم قواعد التجويد والسماع، إلى جانب تعليم قواعد النظم، والإنشاد ؛ وعن علاقة الزاوية العلمية بالسلطة المركزية، ذكر الأستاذ المذكور ما يلي :
وصلت علاقة الزاوية العلمية بملوك الدولة العلوية في عهد مؤسسها إلى مستوى رفيع متميز، بدليل ما ورد عند ابن زيدان، من أن السلطان مولا عبد الرحمن بن هشام “ كان من خاصة محبي المترجم (العلمي) ومعتقديه، يذهب لزيارته كلما حل بالحضرة المكناسية، ويستشيره في كل مهم عنَّ له ، ويقف عند حد إشارته، وقد شاهد له كرامات، وخوارق عادات” ؛ كما أن العلمي كان يقابل احترام السلطان ومحبته إياه بغير قليل من القصائد، يقدمها في مدحه، ومساندة حكمه، والوفاء للدولة العلوية، والدعاء الصالح له ، والدعاء على مُناوئيه، وهذه بعض الأمثلة من هذه القصائد :
طَالـَتْ بْسِيدي هذا الغيبة وتْوحَّشتْ بْهـَاهْ ** وْلا قـَدْرْتْ لَلـْفـْرَاقْ مْعـَاهْ…
وبالرغم من انقطاع العلمي عن النظم ، حيث لم يعد يعنى به في أواخر حياته “أبدى استعداده ولبى رغبة السلطان، لما طلب منه إنشاد بعض قصائده تبركا، واعتبرها أمرا تجب طاعته، فارتجل القصيدة التي لازمتها ما يلي :
مَنْ صَرْخـْـتـُو لـَحْمَاكْ * قـْريبَة وَمَقْامَكْ عـَلاَّه * حُبّْ غِيرُو لا تـَسْتَحْلاهْ…
ومطلعها كالتالي :
عـَشْقْ لـَجْمـَالْ طَبْعْ غـْريزْ
افْمَنْ هُــــــــــــوَ الـْبيبْ …
وترد بعض الاستشهادات ، على ما يؤكد وفاء العلمي للدولة العلوية وملوكها :
لـُذ ابْجَدّْ لـَشْرافْ لـَهْـمـَامْ السّلطـَانْ **ابَنْ عَبْدْ الله كـَوْكـَبْ الـْغـَرْبْ الـْجَـــوَّأنْ
وقوله – أيضا – في قصيدة “ الجمهور “ ما يلي :
وَانْصُرْ يـَا ذَا الـْجَلالْ الإمَـامْ السُّـلـْطـَانْ ** وَشْرَحْ صَدْرُة، وَكـُنْ لـُو سْنِيدْ وَعـْوينْ…
وما قصيدة “وَرزيغة» التي يصف فيها الأحداث التي وقعت في ضواحي مكناس سنة : 1235، إلا عربون وفاء ، وإخلاص للسدة العالية بالله، المولَى سليمان – رحمه الله- .
***
ومن اللطائف التي ذكرها بعض رجال الملحون في شأن تحويل دار العلمي، إلى زاوية يمارس فها المريدون والأتباع أذكارهم، وأورادهم، ويتناشدون فيها ما كان يبدعه العلمي من أشعار من حين لحين، أنه رأى في المنام، أن المولى إدريس الأكبر، – رضي الله عنه – أمره بثلاثة أشياء ؛
1 – أن يصلي الجمعة بضريحه ما حييي؛ ومعه جماعة أثيرة من مريديه وأتباعه ؛
2 – أن يخفي اسمه في أزجاله، كلما حاد بها عن الصواب، والهدي المستقيم ؛
3- أن يحول داره التي يسكن فيها ، إلى زاوية مفتوحة، تتلى في رحابها أزجاله، ووظائف القـَوم ، إلى ما شاء الله تعالى ؛
فاستيقظ العلمي مبتهجا بما رآه، وسمعه، فتعهد في حينه بما أمره به المولى ادريس الأكبر – رضي الله عنه – ، وأخبر – بذلك – فورا أخته الشقيقة للاخديجة التي تتلمذت على يديه ، إلى أن توفيت- رضي الله عنها – ، وقبرها بجوار أخيها على يمين الداخل للقبة عليه دربوز من خشب، وكانت من الصالحات، وظهرت لها كرامات عديدات ، وفيها يقول العلمي ما نصه :
نـَصْرُو خْـلـيلـْتي تـَاجَة ** تـَاجْ الرّْيَامْ، خـَدُوجْ
تـَسْـتَاهـَلْ النَّصَرْ زينـَة ** لاسَـــمْ ، لَلاَّ خْديجـَة
وحين ارتبطت جماعة الشيخ عبد القادر بزاويته التي وجدت فيها مبتغاها وتنفست فيها الصعداء، ازدانت بروادها الكـَثر، الذين أقبلوا عليها من كل حَدب وصوب، ومن مختلف جهات المعمور، لشهرتها، وشهرة رائدها الشيخ العلمي – رحمه الله – ؛ وكان شيوخ هذه الزاوية العامرة يوصون كافة المريدين بحفظ أشعار العلمي، وفهمها ؛ وذات يوم قال العلمي لأحد جلسائه – وقد سمعه يخاطب غيره بقوله : لقد أذنت لك – بأمر من شيخي – بقراءة الأوراد، والأذكار، وإنشاد الشعر ؛ فقال العلمي – رضي الله عنه – : فهل يفهم تلميذك هذا، ما يحفظ من أورادنا، وأذكارنا، وأشعارنا ؟ قال : نعم، فقال الشيخ : أمهله حتى يحفظ، ويدرك بنفسه مغزى، ومقاصد ما يحفظ، كي لا يغدو عندنا كالببغاء، يقلد، ولا يدرك !!
ومرة سمع العلمي من أحد حفاظ شعره، ينشد قصيدة من قصائده، وحين ردد البيت التالي:
مَا انتَ شي غايَبْ نـَرْجَاكْ يَالـْجَليلْ ** ولا انْتَ شِي عَـاجَزْ تـْعذرْ يَا لْمُولىَ
قال للمنشد : لك حلاوتُه وعذوبتُه، ولغيرك إدراكـُه ومَعناه.


الكاتب : عبد الرحمن الملحوني

  

بتاريخ : 23/04/2022