إن القراء اليوم المولعين بـ «تراث فن الملحون» الأصيل يريدون أن يتعرفوا – بدورهم – على بعض الجوانب الخفية من حياة فرسان الزجل بالمغرب، وهي جوانب جد هامة ومفيدة، ظلت مخزونة بين ثانيا الصدور، ومحفوظة في الذاكرة الشعبية زمانا غير يسير، وعلى تعاقب الأجيال المغربية ؛ وقد رصدنا من أجل توثيقها مجموعة من اللقاءات والمهرجانات الفنية أزيد من خمسة عقود خلت.
نعم، إن هذه المرويات التي تروى حول بعض شعراء الملحون على اختلافها في بعض المدن المغربية لا يزال يحفظها أهل الملحون بالتواتر، جيلا عن جيل، مما يجري في كل منتدى من منتدياتهم، وفي كل محفل من محافلهم. إنها مرويات تكشف عن خفايا إنتاجات هؤلاء المبدعين، وعن ألغازها، ومعمياتها، بل من أجل العمل على تقريبها من الأذهان، والأذواق، فيحاول الدارسون، والباحثون، تقديم ذلك سهلا ومبسطا إلى جمهور عريض من القراء والمولعين بفن الملحون؛ في كل غرض من أغراض القصيدة الزجلية –على تعدد أشكالها الفنية، وأجناسها الأدبية -. ومن الأسماء اللامعة في هذا الفن، اسم قد ظل– في كل وقت وحين- تردده الشفاه وتستشهد بمعانيه العقول والأرواح، بل يرن صدى بدائعه وروائعه في كل وسط من الأوساط، في الغدو ، والرواح.
يعتبر هذا اللون من الزجل المغربي الملحون، فنا رائعا من فنون «المَديح»، اعتنى به عناية خاصة جل فرسان الزجل بالمغرب ؛ وعلى رأسهم، الشيخ عبد القادر العلمي – رضي الله عنه – ؛
نعم، إن فن المَديح – على تنوعه، واختلاف مشارب القائمين به -، جاء في «ديوان الملحون» ممثلا في الألوان الشعرية الآتية :
1 – مدح الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفيه أبدع شاعر الملحون مجموعة من الموضوعات : التصليات، المولد النبوي، المعجزات، ملاحم الغزوات …
2 – مدح آل البيت – رضوان الله عليهم، وفي هذا اللون الجميل، تدخل عناية العلمي – على وجه الخصوص – واهتمامه بالمولى إدريس الأكبر، كما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا …
3 – مدح الأولياء والصالحين، وقد خصص شاعر الملحون لهذا اللون قصائد متفردة من فرائد ما قيل في هذا الموضوع بالذات، وأخرى كان يجمع فيها مجموعة من الأولياء، تسمى عند أهل الملحون ب «الجمهور» ؛
ولقد هام سيدي قدور العلمي بحب المولـَى ادريس الأكبر، واعتبره في طليعة العظماء من الأشراف الذين اعتز المغرب بوجودهم، وفاخر بأعمالهم لصالح الدين ، وتمتينه في الآفاق، ونشر مبادئه ومقاصده دينا، ودنيا ؛ نعم، فلقد دعا الشاعر المكناسي (العلمي) لزيارته والاحتماء بحماه وولائه، وطلب – أيضا – أن تقام له المواسم، إشادة بكرامته، ومناقبه، هذه المواسم التي تعرف بفضله، وتنوه بجلائل وعظيم منجزاته، مما قام به وهو يؤسس أول دولة عربية، إسلامة في ربوع المغرب ؛ لنستمع إلى العلمي، وهو في الأبيات الآتية يمدح المولـَى إدريس الأكبر :
يـَا حْفيدْ المُصطفى يالغَوث الهْمَامْ * غِيتنا يَا مُولايْ ادْريسْ بَالـكْرَايَمْ
صَارَخْنِي يابْـنْ عَبْد الله يَالُّسلْطَانْ * يـَا مَنْ المُثنـَّى الحَسَنْ غِيرْ عَنـِّي
مَا نْزُولْ على عَطْفَكْ في الضْريحْ كيْطـَانْ *
نـَرْتْجَى وَدْ احْسَانـَكْ وَقـْتْ مَا اوْصَلـْنِي
يَا هْلالْ هَلْ الرَّافـَة والوْفـَا والحَسَانْ *
إلَى اتْرُوقْ بَلا شَكْ النَّالْ مَا في ظِنـَّى
اشكَاي لكْ ارْفـَعـْتـُه سَمْعُوهْ جَلْ الاقـْوَامْ *
يـَا شْفـَايَة الحْسُودْ إلـَى ارْجعتْ حـَاشَمْ
نعم، فهو – أي المولى إدريس الأكبر – من أعلام التاريخ، ومن الشخصيات ذات المقام العالي في الصلاح والولاية، وفي العلم والدراية، وأنه – رضي الله عنه – من أقطاب المعجزات الكـُبرى لما أبداه في حركاته السياسية ، والاجتماعية، والدينية، وقد تساءل الكثير : كيف فر هذا الرجل العظيم مع خادمه راشد من مركز الخطر الذي كان يتهدده، بعد فشل أخيه محمد في موقعة «فخ» ؟ وكيف مر من مناطق الخلافة العباسية دون أن يمسه مكروه ؛ نعم، فلقد مر من هذه المناطق الحرجة، وهو تحت عيون بني العباس وأرصاد الموالين لخلافتهم ؛ ويصل إلى أرض المغرب سالما يحمل بين يديه مصباحان : مصباح أضاء له الطريق إلى إنشاء دولة عربية، إسلامية فوق هذه الأرض الطيبة التي تدين بالولاء لآل البيت، وعترة الرسول ، – صلى الله عليه وسلم – ؛ ومصباح ثان أضاء له الطريق ليعد أنصارا ويهئ أعوانا لاستمرار نفوذ مملكته، وإحداث مؤسسات داخل المغرب توطد هذه المملكة الشريفة النسب، العظيمة الأثر في نشر الإسلام، والدعوة جهارا لحماية آل البيت، وتأصيل وجودهم بالمغرب، إلى جانب إخوانهم الأمازيغ، فتم الفتح، ودخل الناس أفواجا في دين الله في الجبال والسهول دون إكراه ولا تضييق، حتى جاء الحق وزهق الباطل ؛ فتناسلت فوق هذه الأرض المغربية دول جاءت كلها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله ، شعارها : الحب، والتوحيد، والأمن ؛ وعاشت الدولة الإدريسية عربية مستقلة، وارثة للخلافة العلوية طبقا لما كان أهل البيت، والمغاربة جميعا قد اتفقوا عليه واعتمدوه ؛ ويمدح العلمي المولى إدريس الأكبر، واصفا إياه بصفات المجد، والتأييد :
يـَا مْـقـَامْ الـْخيرْ وكهْف الحْسَانْ وَالجُودْ*
يَالقـُطْبْ السُّلطَانْ الْخَافـْقَة بنُـــوده
يَالـْحسَني القرشي الـْهاشْمِي المَرْشُودْ *
يَالـْوَارثْ الفـْضَلْ والحَلـْمْ مَن اجْدُودُه
اسْنيدَتْ المْسَاكـَنْ وَالغُربَة وكـُلْ مَفْقُودْ *
غـَانْيين وفـُـــــقـْـرَة بَحْـــمَاكْ كـَــيْـلُودُو
اهـْلَ المُدن وقـْرياتْ والسَّاكْنين الخـْيامْ *
والاقطـَارْ الاَّنَعــــــــــــــرف ليهم آسَمْ
كـَافـَّة تـَرْغـَبْ واتنَادِي ابْفَصْحْ الكـْلامْ *
وكَافَّة تـرْحَمْ مَنْ فـَضْلْ الغْنِي الرَّاحَمْ
يـَا حْفِيد المُصطفى يَالغَــــوتْ الهْمَامْ *
غِيثْـنـَا يـَا مُولايْ ادْريسْ بَالكـْـــــرَايَمْ
– على عتبة ديوان العلمي : الأغراض الشعرية نموذجا:
لقد جاءت أغراض قصائد العلمي، بين دفتي ديوانه الشعري متفرقة لا يجمع بينها، إلا إبداعات الشاعر في كل غرض من هذه الأغراض؛ وعندما يقبل الناقد على هذه الإبداعات الجميلة، فقد يسكنه هاجس التأمل فيما حوته من أدبيات، لكن هناك خيطا ناظما يمكن أن يتبينه هذا الناقد الأمين، من خلال تنقله في نقده من موضوع ، إلى آخر فنراه باحثا بين السطور عن معالم وقسمات الشاعر في زهوه بمفاتن الحياة تارة، وعن مكامن وخفايا نفسيته الجريحة تارة أخرى ؛ وفي نهاية المطاف بين خمائل هذه الأدبيات، لم تكن أغراض قصائد العلمي، إلا بنت تربتها المغربية الأصيلة، خاطبت مخيلة الشاعر وألهمته في جميع الأفكار، والآراء، وهي التي –أيضا- حملت سحنة محيط جماعته الشعبية العريضة، ومظاهر من أمزجتهم، ومشاعرهم، في السراء والضراء ؛ نعم، هي معارك أدبية رائدة، قد أفرزها الزمان، والمكان إلى حين ؛ فلم يكن هناك سبيل للاستعارة من جهة أخرى، أبدا، لأنها مغربية قحة ، نبتت وتجدرت أصولها زمانا غير يسير، وهي ما انتفعت به الأجيال على تعاقبها بعد أن تبدد الزبد جفاء وذلك عن طريق ما وصلها من دواوين على التوالي مـــن هنا، وهناك، وإلى اليوم.
استهل الدكتور عباس الجراري مقدمة ديوان الشاعر سيدي قدور العلمي بقوله : «غالبا ما تعترض جامعي دواوين الشعر ومنتخباته بعض المسلمات التي تمس في معظمها منهج الاختيار، وما يقتضي من مقاييس، وإجراءات ؛ وإدراكا منا في أكاديمية المملكة لأهمية هذا الأمر، وما قد يكون له من تأثير على مختلف مراحل إنجاز المشروع الذي نحن بصدده عن «موسوعة الملحون» ، فقد بادرنا إلى إثارته منذ المنطلق، لاسيما وقد توافر لنا ما يناهز ستة آلاف قصيدة لنحو خمسمائة شاعر ؛ وهو تراث ضخم، ليس من السهل إصداره كله، أو التصرف فيه، أو حتى الانتقاء منه بقصد نشره وتقديمه للمعنيين وسائر القراء، من غير أن يكون ذلك خاضعا لبرنامج علمي محدد ومضبوط !!.