المشهد النقدي المغربي بعيون الناقد نجيب العوفي: أومن بالبراكسيس النقدي والمتابعة النصية بدون شوفينية وطنية

سكوت النقد أو فتوره هو في أحيان كثيرة ضرب من النقد الصامت

شكلت فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الفارط، فترة انطلاق الحراك النقدي الأدبي الحديث في المغرب، بالدلالة المزدوجة لصفة(الحديث ) هنا: الدلالة الزمنية التاريخية، والدلالة الثقافية المفهومية، حيث كان النقد الأدبي المغربي في هذه الفترة الحساسة، على موعد مع تيار الحداثة يعمّ الأوساط الثقافية والأدبية، ويحرك السواكن والثوابت في الفكر والإبداع.
وقد كانت مرحلة السبعينيات والثمانينيات مرحلة ذهبية للنقد المغربي الحديث وورشا حافلا وهائلا لاجتهاداته وتجلياته النظرية والمنهجية والنقدية، حيث تفاعلت وتناسلت المناهج الحديثة على اختلاف مشاربها ووُضع النتاج الأدبي المغربي، بشعره وقصته وروايته، على المحكّ، بجرأة نقدية مشهودة، لا تهادن ولا تحابي ونذكر هنا أعمال عبد الفتاح كيليطو والراحل محمد مفتاح ، نجيب العوفي، عبد الحميد العقار، سعيد يقطين، أحمد بوحسن، إلا أن تراجع هذه الفورة النقدية اليوم أو اتجاهها نحو المشرق يدعونا الى التوقف عند أسباب هذا الخفوت ورصد التحولات التي عرفها هذا النقد منذ السبعينيات إلى الآن، والحاجة الى تجاوز هذا الوضع من خلال عودة هذا النقد ، بعد طوافه الطويل في ماراطون النظريات والمناهج النقدية الغربية، لمساءلة هويته والأنفتاح مجدّدا عبر النقد المزدوج ، على مرجعيته التراثية البعيدة والقريبة.
في هذا الحوار يضيء الناقد الرائد نجيب العوفي، بتجربته الطويلة والثرية ومساهماته الفارقة في تمتين الأساس النقدي للنص الأدبي المغربي، هو المعروف بتعدد مراجعه الفكرية بين التاريخ وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم النفس وعلم اللغة، يضيء بعض عتمات هذا المشهد النقدي المغربي والعربي، التي لا تنفصل عن هنات المشهد الإبداعي ككل، خاصة أمام ديمقراطية وسائل التواصل الاجتماعي التي فتحت الباب على مصراعيه أمام الكتاب والشعراء.

p النقد إضاءة لطرائق الكتابة ومغاليقها أمام القارئ وصولا به إلى» لذة النص»، هل مازال ممكنا تحقيق هذه المهمة مع الأشكال التجريبية في الكتابة اليوم؟

n طالما أن هناك أدبا يُنتج ، وبأية طرائق يُنتج هذا الأدب ولو كانت موغلة في التجريب والابتكار، فإن هناك نقدا في الاستقبال والتلقّي. هناك غرفة انتظار نقدية مفتوحة. والأشكال الأدبية والنصّية اليوم أكثر حاجة إلى النقد، إن لم أقل إلى المُراقبة النقدية بما يعنيه مصطلح نقد من حمولة دلالية كلاسيكية – تقييمية ، خاصة بعد أن تجدّدت وتنوعت أشكال الكتابة والتعبيرالأدبي، ودخل الأنترنيت مدجّجا بشبكات التواصل الاجتماعي على خط الأدب . وأضحى هناك حضور وسلطة للأدب الرقمي .
وهذا ما يقتضي في نظري انخراطَ النقد في هذا الغمار الجديد وانتحاءه منحى رقميا استجابة لهذا المتغيّر الحضاري الذي لا مندوحة عنه دون أن يفقد بالضرورة هويته وسويته كنقد أدبي .
فالنقد الرقمي فرع من النقد الأدبي وتجلّ من تجلياته، وليس ناسخا أو متجاوزا له .
وبدهي أن هذا النقد الرقمي يقتضي جهازا نظريا ومنهجيا ومفاهيميا ومصطلحيا ملائما لمتحوّله ومتغيره. يقتضي بعبارة جيل دولوز (صندوق أدوات ) على مقاس المقام .
ولحد ّالآن، لا يزال هذا النقد في طور المخاض والولادة ولم تستبن معالمه وسيماه كفاية . لكن في مُكنة النقد الأدبي بمفهومه السائد الموروث أن يمارس مُراقبة أدبية ولغوية ونحوية وفكرية على رُكام وعُرام النصوص التي تُنشر على شبكات التواصل الاجتماعي، لكبح « السيبة « الأدبية التي تجتاح اللغة العربية عبر الأنترنت. وهذه مهمة تاريخية في غاية الأهمية .
ولذة النص التي أومأت إليها في السؤال حسب بارت ، تتعلق بلذة القراءة حين يكون النص ببساطة « لذيذا « سائغا في اللسان والأذن والعين والفكر، أي متوفّرا على رصيده الخاص من الجمالية والشعرية. وهذا لا يتأتّى إلا للمبدعين القابضين على ناصية الإبداع والكتابة، أي القادرين على كتابة (النصوص ) وتحقيق ( النصّية ) للنص .
ولذة النص / القراءة تستدعي عطفا لذة النص / الكتابة، أي الكتابة عن القراءة . وهو ما يستدعي ويبرّرحضور النقد . وما النقد في أبجديته الأولية سوى التعبير عن الارتياح أو عدم الارتياح تجاه النص المقروء.
والنص الذي لم يُقرأ ولم تفتضّ شفراته من طرف القارئ / الناقد، يبقى نصا مخبوءا في صَدفته، مبنيا لمجهوله .
وكما أن القارئ عادة لا يقتني إلا الكتاب الذي يهواه، فإن الناقد أيضا لا يكتب إلا عن الكتب والنصوص التي تستميله وتثير لديه أسئلة .
وأيضا، فإن من حقّ الناقد أن يعبُر وينتقل من لذة القراءة إلى لذة الكتابة عن القراءة ، ليمارس هو الآخر حقه في « الأدبية « . فالأدب هنا هو الهاجس والقاسم المشترك بين المُبدع والناقد .

p كيف تفسرون هذه الثانية المتناقضة: مشهد إبداعي متنام مقابل مشهد نقدي يتضاءل يوما بعد يوم لصالح النقد الإخواني؟

n هذا السؤال يشتمل على عبارات ثلاث أساسية تحتاج إلى تفكيك : مشهد إبداعي متنام – مشهد نقدي يتضاءل – نقد إخواني .
لا مراء في حضور إبداع مغربي متنام مع الأيام، سواء على صعيد الشعر أو السرد بجنسيه القصة القصيرة والرواية .
على المستوى الكمّي – التراكمي لا خلاف واختلاف على الحراك الإبداعي المشهود والمرصود في السنوات الأخيرة على يد أجيال جديدة تكاثرت عَددا ومَددا . لكن على المستوى الكيفي والأدبي، أي على مستوى إبداعية هذا الإبداع ، يثور الخلاف وتكرّ سُبحة المساءلة .
فليس كل ما يُنشر على الناس من شعر ونثر وسرد وتجارب كتابية تجريبية ، ممْهورا بطابع الجودة والإبداعية ويستوفي شرائط النشر، بما يحيلنا من جديد إلى قول المتنبي :
أعيذها نظرات منك صادقة / أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وقول شوقي ( إذا كثر الشعراء قلّ الشعر) .
ومع ذلك، فقد حظي الإبداع المغربي في سنيّه الأخيرة وبقضّه وقضيضه كما قيل، بقراءات ومقاربات نقدية متفاوتة المستوى والعدد .
ولا يعزُبُ عن الذهن هنا، أن سكوت النقد أو فتوره ، حسب تعبيرك، هو في أحيان كثيرة ضرب من النقد الصامت .
والصمت ليس دائما علامة الرضا، بل قد يكون أيضا علامة على عدم الرضا .
من هنا يضع كثير من المبدعين أوزار الإبداع وأعطابه على كاهل النقد والنقاد، ويتهمونهما بالقصور والفتور وما شابه، وأحيانا بالإخوانية علما بأن للنقد حرية التجوّل بين النصوص، كما للإبداع حرية ابتكار النصوص.
ومعظم المبدعين الذين يجأرون بالشكوى من النقد الإخواني، لا إخوان لهم .

p تميزت تجربتكم النقدية بالاشتغال على الحلقة المفقودة التي بدون دهشتها لا يَصِلُ النص إلى ذروة الإمتاع، ألا يمكن اعتبار الامر محاولة للخروج من عباءة النظرية الصارمة والبحث في روح النص؟

n حسب فهمي لفحوى السؤال، فإن الحلقة المفقودة في كثير من القراءات النقدية هي النص. وأفكر هنا بخاصة في القراءات الشكلية والمنهاجوية النظرية التي تغلّب أسئلة المنهج واستراتيجية القراءة على حساب أسئلة النص العضوية والأدبية. وهذه ظاهرة رصدنا بوادرها منذ سبعينيات القرن الفارط، وما تنفك تتناسل بهذه الصيغة أو تلك في أفق ما وُصف ب «ما بعد الحداثة « حيث لا تزال الأقنعة المستعارة حاضرة، ولا تزال النصوص تربة خصبة للاستعراضية المنهجية والنظرية والثقافية .

p ولأجل الاقتراب من النص والإنصات إليه واجتناب التعالم عليه، تحركتُ منذ زمني النقدي الأول في محيط ومجرّة من النصوص الأدبية مختلفة أشكالها وألوانها وطُعومها وأجناسها ، جاعلا النصوص همّي الأول وشغلي الشاغل .
فأنا إذن وبلا استعراضية، أومن بالبراكسيس النقدي، أي المتابعة النصية – الميدانية للنتاج الأدبي المغربي الحديث بخاصة وبدون شوفينية وطنية، منذ طلائع الستينيات من القرن الفارط إلى الآن ، لأجل جعل الأدب والنقد جزءا لا يتجزأ من النسيج الثقافي للمجتمع ، وليسا محصورين فقط في مدرجات الجامعة ومنتديات النخبة .
كأنّي حالم هنا ب «الناقد العضوي « قياسا على عبارة غرامشي، أو « المثقف النقدي « قياسا على عبارة ادوارد سعيد .

يلاحظ أن الحركة النقدية المواكبة للإبداع الشعري، وخاصة قصيدة النثر بالمغرب، تتسم بالفتور. هل السبب يرجع الى طبيعةقصيدة النثر المتحررة من شروط الشكل، وهل الوقت قد حان كما صرحتم في وقت سابق لإعلان حالة طوارئ نقدية على الشعر؟

n ربما أذهبُ عكس هذا الرأي . فأغلب القراءات والمقالات التي تُكتب عن الشعر في طلائع الألفية الثالثة ، تدور في فلك قصيدة النثر . وذلك لسبب بسيط ، وهو أن قصيدة النثر هي التي ملأت المشهد الشعري وشغلت الأجيال الجديدة التي تحرّرت في أغلبها من شرط التفعيلة والوزن .. ولا أقول « قيدهما « كما هو رائج في الاستعمال .
فالتفعيلة والوزن الإيقاعي حِلية للشعر ومكوّن أساس للشعرية ، حتى لدى منظري الحداثة الشعرية الغربية كجان كوهن وهنري ميشونيك، فما أدراك بالشعرية العربية المجبولة بموسيقى اللغة العربية التي خلبت أذن العالم .
وقصائد النثر التي تملأ المشهد الآن ليست على مستوى مشرف من الجودة والشعرية. بل إن أغلبها لا يختلف عن الكلام العادي الذي يجري على الأقلام والألسن ويفتقد الإحساس باللغة معجمها ومجازها، وهو شرط أساس للنص الشعري موزونا كان أم نثريا . وهذا ما حدا بي في مناسبة سابقة إلى ضرورة إعلان حالة طوارئ شعرية التي أشرت إليها .
والحق أن قرّاء الشعر أنفسهم يخامرهم الإحساس ذاته تجاه ما يقرأون ويعلنون عنه جهارا نهارا .

p ألا ترون أن الحركة النقدية العربية، وضمنها المغربية، بحاجة الى تجديد أدواتها ومقارباتها بما يناسب مدونتنا العربية وشروط إنتاج نصوصها؟

n الحركة النقدية العربية بعامة، والمغربية بخاصة ، كانت سبّاقة إلى إلى الأخذ بأسباب وأهداب الحداثة النقدية – التنظيرية منذ طلائع السبعينيات من القرن الفارط .
والمرحلة هذه كانت تعيش ازدهارا حداثيا نقديا عالميا بدأت مقدماته وأراهيصه قبلئذ مع الشكلانيين الروس والواقعية الماركسية والبنيوية الفرنسية واللسانيات والسيميائيات الحديثة والتفكيكية .. الخ .
ويبدو الآن كأن ثورة النظريات والمناهج والمفاهيم الأدبية والنظرية والنقدية، قد سكَن وطيسها بعد الثورة الإعلامية والتقنية الحديثة .
ومع ذلك فالحراك النقدي العربي والمغربي قائم ومستمر . وهناك محافل عربية مشكورة تعيد الاعتبار للشأن الثقافي العربي المهمش والمقصي، في الغمار الداكن للهجمة الجديدة للسياسي على الثقافي .
وأظن أن الحراك النقدي العربي بعد طوافه الطويل في ماراطون النظريات والمناهج النقدية الغربية، مُطالب بالعودة لمساءلة هويته والأنفتاح مجدّدا عبر النقد المزدوج ، على مرجعيته التراثية البعيدة والقريبة ، لتأسيس أو إعادة تأسيس نظرية نقدية أدبية عربية ، لا غربية ولا شرقية .
نظرية عربية الوجه واليد واللسان، كما قال المتنبّي ذات يوم .

 


الكاتب : حاورته : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 18/08/2023