المصابيح مطفأة.. يبدأ العرض السينما في شعر حميد سعيد

بين جليد العزلة وحرائق الحضور والورد والرماد والماء والنخيل وغواية الكتابة، لا يكتب حميد سعيد شعراً، كما عهدنا الشعر في الأزمان كلها، وإنما هو إبداع يجمع ايقاع القصيدة ومفاجآت القصة وتقطيع السيناريو ولقطات الكاميرا والإخراج والمونتاج وحركة المسرح وانسياب الموسيقيين، وشجن الغناء وألوان الفن التشكيلي وشطحاته.
في كتاب «الشمعة والدرويش»(1)، الذي يجمع حوارات هشام عودة مع حميد سعيد، يقول في معرض إجاباته “أما سؤالك، هل أفكر بكتابة رواية؟ وقد سألني مثل هذا السؤال الكاتب العراقي شاكر نوري، في حوار نشرته صحيفة البيان الاماراتية، فقلت ما معناه، لم أفكر جدياً بكتابة رواية، وإن كانت مثل هذه الفكرة تخطر لي أحياناً، كما كنت قد عزمت على كتابة نصوص هي أقرب إلى القص القصير استوحيت منها علاقات متخيلة، أقمتها مع شخصيات روائية، أتوهم أني عرفتها في الواقع لا في النصوص، وفعلاً كتبت عدداً من هذه النصوص، نشرت منها نصاً عن علاقة متخيلة مع القبطان إيهاب بطل رواية “موبي ديك”، وآخر عن الأخوة كرامازوف ثم توقفت عن نشر ما كتبت (نشرها، في ما بعد، في كتاب أولئك أصحابي- الكاتبة). لكن في زمن النص المفتوح، حيث أصبحت الرواية، أقرب إلى النص المفتوح منها إلى الجنس الروائي، الذي اقترن برواية القرن التاسع عشر، فالاحتمالات كلها ممكنة وعناوين الكتابة كلها تتراءى لي وتحوم حول أصابعي”.
ويقول، أيضا، في الحوار نفسه: “وإذا كنت قد أدركت نزعة القص، التي تشير إليها في سؤالك هذا، فهناك سمات أخرى رآها آخرون في ما أكتب من نثر. ولطالما بدا لي، أن نزعة القص، كانت ولا تزال هي الأقرب إلى إدراك المتلقي فرداً وجماعة، وقد أشرت إلى ذلك بشيء من التفصيل وبمتابعة تاريخية، في الفصل الأول من “تطفل على السرد”.
وفي الحوار نفسه، يذكّرني – مشكوراً – في قوله “ أذكر أني سألت القاصة العراقية بثينة الناصري إن كانت تفكر بكتابة رواية، فأجابتني، إنني كاتبة قصة قصيرة، وكأن مجرد تفكيرها بكتابة رواية، يخدش صفاء انتمائها إلى هذا الجنس الأدبي. وكان بعض أساتذتنا ينصحنا أن لا نفرط في كتابة غير الشعر ظناً أن مثل هذا الإفراط ، هو تفريط بالطاقة الإبداعية”.
بالنسبة لي – كاتبة هذه المقالة – فقد أخلصت ومازالت للقصة القصيرة، التي تناسب مزاج شخصيتي، التي لا تلبث على حال، مدة طويلة، فأنا، مثلاً، أحب تغيير الأماكن، والتقاط الأفكار الجديدة، فكانت القصة القصيرة المكثفة أقرب إلى نفسي، ولكني مع كل هذا، أحاول كتابة الرواية الآن، وجربت كتابة سيناريو الأفلام القصيرة وأنتجت فيلمين روائيين قصيرين عن قصتين لي، وفيلم تحريك أيضاً عن قصة لي. القصد أن الأجناس الإبداعية تتداخل رغما عنا، حيث أن التعبير عن النفس أو عما نريد قوله، قد يضطرنا إلى استخدام الأساليب الإبداعية كلها ولا نتوقف عند قواعد وشروط لجنس واحد منها، لأن الجمود ليس من صفات المبدع، فكيف يكون مبدعاً من لا يتمرد على القوالب؟
والحق يقال إني لم أصادف مبدعاً استخدم أجناس الإبداع كلها في شعره، مثل حميد سعيد، وقد تناول العديد من النقاد كل شاردة وواردة في شعره، فليس هناك الجديد، الذي يمكن الحديث عنه، ولكني بسبب انغماسي، مؤخراً، في عالم السينما، سوف أتناول بعض لمحات الصورة السينمائية في قصيد حميد سعيد، مع أن الباحثة (جميلة عبد الله العبيدي)(2 ) خصصت جزءاً من أطروحتها (البنية الدرامية في شعر حميد سعيد) للملمح السينمائي لدى شاعرنا الكبير.
من قصيدة (صباح بصري) من ديوان “مملكة عبد الله” (3) الراوي يقف داخل غرفة وينظر إلى ما بعد الشرفة، ترفرف طيور مذعورة بعيداً، يرى ثلاثة طلاب وامرأة ثم يتبين طالباً رابعاً. يقترب إلى داخل الشرفة ليرى، بنحو أفضل، المسافة ليست بعيدة لكنه متعب وفي الوقت نفسه غارق برفاهية غرفة مترفة في فندق جميل.
(طيور موسوسة
تتقي خوفها بالصعود المفاجئ
سيدة وثلاثة طلاب
لا
ها هو الرابع يظهر
كنت أريد تحري التفاصيل
لكن بعد المسافة
لا.. لا
المسافة ليست بعيدة
أنا متعب.. فرح
واقتربتُ من الشرفة
مترفة هذه الغرفة والفندق جد جميل)
وقد كتبت جميلة عبد الله العبيدي، في أطروحتها عن الدراما في شعر حميد سعيد، حول تكنيك السينما في هذه القصيدة بالذات، ما يأتي:”هذا المقطع- وكما هي الحرب – يدل على عدم الجزم وهو أيضاً غير مستقر، ففي البداية (سيدة وثلاثة طلاب) ثم ارتباك ونفي (ها هو الرابع يظهر والسبب في هذا الارتباك، هو أن المشهد مشهد متحرك، قابل للزيادة والنقصان ولنعد ترتيب المشهد بطريقة أخرى، بطريقة المخرج، لنوضح كيف يتكون المشهد هنا. المسافة تبدو بعيدة ولأن الكاميرا (كاميرا الشاعر) تسير، فالمسافة أصبحت (ليست بعيدة) ثم (سيدة وثلاثة طلاب) ولأن الكاميرا تسير أيضاً (فالرابع يظهر)”.
**
ولكن لعل أكثر قصائده القريبة من سيناريو فيلم قصير (رجل في السبعين وسيدة في؟) من ديوانه “ما تأخر من القول” (4) بطله رجل سبعيني يعاني من الوحدة وذاكرته ربما بدأت في التلاشي، أو لأنه تقدم في السن، بعيداً عن المحبوبة لسنوات كثيرة، فهو يتخيلها، في كل مرة، وفي كل امرأة يراها، لكنه لا يستطيع، حقاً، أن يتأكد من أنها هي. مقاطع القصيدة عبارة عن مشاهد متقطعة في أماكن مختلفة.
المشهد الأول: يلتقي امرأة في مشفى بعمان. يتساءل إذا كانت تعرفه ثم يفترقان.
المشهد الثاني: في الشارع، الذي يقيم فيه يرى امرأة يتبعها كلب. يسرع في خطاه وتتساءل هي: “أحقا لا يتذكرني؟”
وحسب ما ستؤول إليه النهاية، فهذا المشهد الثاني من بنات خياله الطامح لأن تتعرف عليه المرأة.
المشهد الثالث: في مقهى وامرأة تحرك الجمر في الأركيلة، وهو يتساءل إذا كانت هي. ثم غادرت وسمع خفق عباءتها وتذكر أنه صوت خفق عباءة محبوبته نفسه.
المشهد الرابع: في دائرة الهجرة يلتقي امرأة يعرف صوتها، منذ زمن سحيق. يتعارفان وهي مع أحفادها وتقول له إن أوسطهم سيزوره يوماً في المقهى. من المشهد لا نعرف إذا كانت هي محبوبته أو امرأة أخرى عرفها في الماضي.
المشهد الخامس: تخبره جارته أنها في صالون تجميل، التقت امرأة بغدادية عجوزاً، ولكن متزينة، وقد ذكرت لها اسمه فقالت “كان”. وهنا أيضاً لا نعرف على وجه الدقة (ولا هو يعرف) إذا كانت عجوز الصالون هي الحبيبة.
المشهد السادس: في مطعم يراها على عكاز تقول له إنها تقيم هنا، منذ سنين، وتشير بعصاها إلى منزلها وتسأله أن يزورها إذا استطاع. حين يذهب لزيارتها، بعد أسابيع، يخبره البواب أن الله توفاها.
المشهد السابع: البرد شديد في عمان يستدعي ذكرى حين كانا يتدفآن معا أيام البرد في بغداد. مع ملاحظة أن الجليد والبرد يرادفان في العديد من قصائد الشاعر، الوحدة والعزلة. فالإحساس بالبرد الشديد مفهوم لما عرف الراوي بموت الحبيبة. وهكذا انتفت خيالات رؤيتها كلها هنا أو هناك.
المشهد الثامن: كل مساء وهو في شرفته يرى ظلالاً تمرّ أمامه، يتخيلها حبيبته ويتساءل لماذا لا تسأل عنه ألم يكونا معا؟ ثم يوماً، وضوء النهار مازال ساطعاً، رأى الظلال فإذا هي بستاني الجيران.
المشهد التاسع: يدخل الراوي في تهويمات فيخيل إليه أنه يسمع صوتها في الهاتف وهي تسأله إذا كان هو، فيقول “ماذا تنتظرين من رجل بعد السبعين؟” ثم صار يراها ويتساءل “ماذا يبقى من سيدة في؟”.
المشهد العاشر: في المقهى، وهو يتخيل أنها خرجت من بيت وحيته ولما مدّ يده لمصافحتها، انتبه إلى صوت نادل المقهى، فأفاق من أوهامه إلى حاله الحاضر.
عشرة مشاهد تكون فيلماً قصيراً يستمر عشر دقائق، يصور الشعور بالوحدة وحاجة هذا الرجل السبعيني إلى رفيقته، التي فارقته، والذي مازال يراها في كل امرأة تصادفه، بل يراها حتى في الظل الماشي، وإذا لم يجد فهو يراها بعين الوهم.
أتخيل أنا أيضاً لو تحقق صنع هذا الفيلم الحلم لاستمتعنا بهذه الصور الشعرية الرائعة، ونحن نراها رأي العين. “1”
رجلٌ في السبعين.. وسيِّدةٌ في….؟
يلتقيان..
بمشفى في عمّان..
. . . . . .
أتعرفني..؟
. . . . . .

يفترقان..

“2”
في شارع فيصل فرحان الجربا.. حيث يُقيم
رآها..
يتبَعُها كلبٌ جبَليٌ حَذِرٌ..
أسرَعَ..
فابتسمَتْ..
وهي تقول.. أحقّاً لا يتذكَرُني؟
“3”
كان يُراقِبُها ..
وهي تُحرِّكُ جمرَ الأرجيلةِ..
هل هي؟
أم تلكَ امرأةٌ تشبهها..
. . . . . .
غادَرَت المقهى..
فتذكَّرَ خفقَ عباءتِها..
ابتعدَتْ..
. . . . . .
شخنا.. وتغيَّرت الدنيا
إلا خفق عباءتها.. ظَلَ كما كانْ
في قصيدة غرفة من ديوان “مملكة عبد الله” يصور الراوي حلماً بتقنية السينما. والمكان هو غرفة. يصحو فيها الراوي فيجد مصابيحها مطفأة فيعود إلى النوم، وهنا يتكشف الحلم عن ضياء يغمر الغرفة، فيعمد إلى الجدران ويغير ألوانها، ثم إلى لوحة امرأة كحيلة على الجدران فيغير من زينتها، ثم يمحو شبحاً متخفياً في خلفية الصورة ويضع بدله فتى أنيقاً ويقربه من المرأة، التي تبتسم سعيدة، ثم تخرج من اللوحة وترتب غرفته. يوقظه الضياء المتسلل إلى الغرفة فيرى كل شيء على حاله، والمرأة في الصورة ربما تبتسم ساخرة منه. يعود إلى النوم.
(أفتح عينيّ
مصابيح الغرفة مطفأة
أغمضها
استحضر ضوءً يفتح لي أفقاً
فأغيّر ألوان الجدران
أستبدل وجه المرأة في اللوحة
ثم أخفف من غلواء الكحل بعينيها
أطرد هذا الشبح المتخفي.. خلف شجيرات يابسة
وأخطط وجه فتى.. بملابس طيبة
وأقربه منها
تبتسم المرأة.. تخرج من أسر اللوحة
أرقبها
وهي تغير ترتيب أثاث الغرفة
أسعد بالنور الآتي من نافذة قرب سريري
أصحو
أضواء كابية
ألوان نابية
صحف..
وكؤوس فارغة
اللوحة قائمة
وامرأة اللوحة.. تضحك
هل كانت تسخر من حلمي
أغمض عينيّ
أعود إلى النوم).
في تقنيات السينما هذه ثلاثة مشاهد: الأول الراوي نائم ويصحو فيجد الغرفة، التي يعرفها مطفأة المصابيح. المشهد الثاني: مشهد الحلم وفيه تغيير كبير. حيث دبت الحياة في المرأة وخرجت من الإطار إلى غرفته وبدأت في ترتيبها كناية عن التعايش معا. المشهد الثالث: الراوي نائم يوقظه ضياء النافذة يرى كل شيء على حاله يعود إلى النوم.
وهذه القصيدة الحلم، تقترب دلالتها من القصيدة السابقة، حيث يعيش الراوي (الشاعر) حلماً لا يتحقق. وأتخيل لو نفذت فيلماً فسوف يدخل الجرافيك وتقنيات الإيهام والتحريك مدخلاً واسعاً.
أما المقطع الأخير من قصيدة (ليلة الصيادين) من ديوان (مملكة عبد الله)، فهي فيلم روائي قصير يموج بالحوار والحركة والنهاية الصاخبة:
(إبق مكانك
سأحاول أن أصل النهر
اتبعني.. إن اطلقتُ رصاصة
وأطلقْ حين أثني
وليطلق عبد الله.. على الضفة الأخرى إطلاقة تنوير
وتقدم
وليتقدم بعدك كل الأصحاب
وأحذر
تسقط قنبلة.. قنبلتان.. ثلاث
تقدم
تسقط قنبلة
ويسود الصمت).
ومن (معلقة البصرة) من ديوان (مملكة عبد الله) أيضاً هذا المقطع:
(أرأيتم وفيقة؟
ها هي تجمع أطرافها من شظايا القنابل
تنهض.. تقترب الآن
تبحث عن مقعد فارغ
جلست).
وبعين كاتبة سيناريو – إذا جاز لي التبجح بهذا الوصف – فهذا المقطع أثير لدي لأنه يجمع بين سيناريو وتنفيذه. تعلمنا في كتابة سيناريو الأفلام أنه يجمع بين وصف الشخصية وتحركاتها والحوار. ويكون وصف الشخصية بالفعل المضارع. وهنا وفيقة (تجمع، تنهض، تقترب، تبحث) ثم (جلست) فعل ماضي ويبدو هنا ناشزاً ولكنه ضربة مبدع حقيقي. (جلست) كأنها كلمة (النهاية) في فيلم وفيقة.
وفي مقطع أول من قصيدة (بيت كاظم جواد) من ديوان (مملكة عبد الله) أيضاً، وصف للمكان المهجور، فهناك معطفان (هل كان يعيش فيه شخصان؟) على مشجب مترب، وأرائك سوداء وقطط سوداء (مستريبة) كأنها غريبة وتسللت إلى المكان، الذي فارقه أهله. حتى الكتب فارقتها المتون ولم يبق سوى الهوامش، ولكن في الجو أثر ذكريات بعيدة سعيدة وألق في عيون. جو المكان غريب وغامض ومظلم ومثير للهواجس، وفجأة تطرق الباب! فيلم إثارة كامل الأوصاف:
معطفان على مشجب مترب
الأرائك سوداء
والقطط المستريبة سوداء
والحزن أسود.
ليس سوى الذكريات مكللة بالمباهج
ليس سوى ألق في العيون
كتب فارقتها المتون
الهوامش محمومة بالذي كان
مهمومة بالذي سيكون

صحف وهواجس
من يطرق الباب في أول الليل.
+++
ومن أجواء الغموض والإثارة السينمائية هذا المشهد الأخير، الذي يعج بالحركة من (موت المغني) في (مملكة عبد الله):
جاء
تخبّ به فرس
بيضاء
ينزل عنها.. تختفي
يتبعها.. فأناديه
يختفي
هل سمع النداء
هل سمع النداء؟
++
وكأن الراوي، هنا، واقف ينتظر مجيء الفارس فيجيء على فرس بيضاء، مثل ما نرى في الأحلام أو الأوهام، ينزل عن الفرس، التي سرعان ما تختفي. يتبعها فيختفي هو الآخر. يناديه الراوي من دون جدوى، فيتساءل إذا كان قد سمع النداء ويكرر “هل سمع النداء”؟ أقرب إلى سيناريو فيلم صامت يوحي بما يعتمل في نفس الراوي من توق إلى رؤية الغائب.
هناك مشهد سينمائي كامل في مقطع من قصيدة (غرناطة) ديوان (الأغاني الغجرية)5:
الراوي وسيدة في غرفة فندق كما يبدو، والاثنان ينتظران شخصا ما أن يأتي، والجميع متخفون عن الحراس. يستطلعان من نافذة الفندق فتنتقل الكاميرا إلى وصف المشهد على الأرض، ثم الشخص المنتظر يأتي متخفيا بين ماء نافورة والسياج، تطلب منه المرأة أن ينزلا لملاقاة القادم باحتراس. لكن الراوي يتلكأ لنفض الغبار عن حذائه (فات الوقت – كنت أنفض الغبار عن حذائي) وهي عبارة قد تثير السخرية عن هذا، الذي يلمّع حذاءه في هذا الوقت الحاسم والخطير، وقد طفرت إلى رأسي جملة (وهل هذا وقته؟) ولكني أدركت ان الشاعر ربما قصد بها أحد شيئين أو كليهما: أن يكون هذا الشخص منغلقاً على نفسه لا يهتم بالآخرين أو ما حوله وكل ما يهمه هو العناية بشخصه ومظهره، أو أن هذا التأخر للقيام بشيء في غير وقته المناسب قد أنقذه من المآل، الذي آلت إليه الأمور في نهاية القصيدة، حيث تخرج المرأة وحدها فيقبض عليها حراس مدججون بالسلاح:
(أسألها
تسكت
من نافذة الفندق تستطلع.. لم يأت
يمر الوقت
هل داهمه الحراس؟
في الشارع.. طير أسود
وفي الحديقة المجاورة
نافورة ونخلتان.. يقف القادم بين الماء والسياج
في يديه غابة من القصائد
احترس
لننزل الساعة.. فات الوقت
كنت أنفض الغبار عن حذائي..
خرجت
في باحة الفندق.. كان الحرس المدججون بالسلاح
رفاقها إلى جزيرة النحاس).
++
تفاصيل في (صورة السيدة) من ديوان (الأغاني الغجرية)
عربات وقار وسيدات بدينات مزينات ومخبرون وقبل نهاية القصيدة يضع ملاحظة شعرية داخل صندوق (ملاحظة سيستفيد منها المخرج حتماً: تقف السيدة في الوسط.. حيث يقسم المسرح الى قسمين.. في الواجهة عميلات.. عملاء.. وجهاء وصحف أنيقة. في القسم الخلفي من المسرح.. فقراء، بنادق، وكتاب الثورة القادمة).
نعم كان المسرح في وجدان الشاعر حميد سعيد حتى أنه، مؤخراً، نشر (ثلاث مسرحيات)(6) فالشعر والمسرح صنوان، منذ قديم الزمان.
كما أنه كان معنياً بالفن التشكيلي لأن الشعر في أصله لوحة كلمات يرسمها بالحبر، مما حدا بالناقد (حمدي مخلف الحديثي) أن ينشر كتاب (القصيدة التشكيلية في شعر حميد سعيد) (7).
ولكن في ديوان “مشهد مختلف” (8)، قصيدة (مقامات بغدادية) يفتتح المشهد برسام يقف أمام لوحته، وحين نقرأ القصيدة ونعيش أجواءها وصورها، نجد، برغم أن بطل القصيدة فنان تشكيلي، ولكن لا يمكن لصوره التلاشي داخل اللوحة وما يستجد فيها من خياله وأوهامه، لا يمكن أن تكون (تقنياً) من أساليب الفن التشكيلي أو المسرح، وإنما السينما بألاعيبها في التلاشي والمزج والقطع بالمشاهد.
(يقف الرسامُ أمامَ مُربّع لوحته..
يدفعُ عنها الأبيضَ.. بخطوط متشابكة وبألوان متداخلةٍ..
ويُشكِّل منها.. ما يتخيله فردوسَ طفولته
وقفَ الرسام أمامَ مُربع لوحته..
كان الأبيضُ يمتد بعيداً في العتمة.. والريشةُ تفتح بابَ الأسرار
لكن في أعماق اللوحة.. نُذرٌ بالإعصارْ
تلك مدينتُهُ..
هذا النهرُ وذاك الجسُر وهذي الأشجارْ
ذلك بيتُ حبيبته..).
ثم تستعرض القصيدة من خلال عيني الرسام ولوحته مقامات وأغاني بغدادية شهيرة. فهذه القصيدة البديعة تصلح، تماماً، لفيلم غنائي يستعرض الشوق إلى بغداد وأغانيها ومقاماتها، من خلال لوحة يرسمها فنان ثم يتسلل، من خلالها، إلى ذاك الزمان.
هذا غيض من فيض، فليست هذه القصائد هي التي ظهر فيها تأثير السينما كما أراه، ولكن في أغلب شعره، هناك قصة وهناك سيناريو وحوار وإخراج أيضاً.
ليس الأديب حميد سعيد بشاعر فحسب، وإنما كتب السرد بأشكاله: ذكريات في (ذاكرة لا) و(أوراق الحرب) و(الكشف عن أسرار القصيدة) وكتب الرسائل في رسائله المتبادلة مع الشاعر سامي مهدي وأصدقاء آخرين. وكتب المسرحية (ثلاث مسرحيات) وكتب المقالات. وربما فاتني أن أذكر كتباً أخرى سردية له، ولكني سمعت منه، مرة، أثناء زيارة لي إلى بغداد في التسعينيات، أنه يواظب مع العائلة على مشاهدة الأفلام وبخاصة الأجنبية على التلفزيون في أوقات فراغه، ولابد أن توالي المشاهد وزاوية الصورة والتقطيع والإظلام وتوزيع الظلال والضوء، والحوار، والانتقالات الفجائية والمونتاج والمزج والتلاشي، ذلك كله من تقنيات السينما قد تسلل إلى ذائقته الإبداعية حتى من دون تعمد. أو ربما يكون بقصد، لأن مما يغني إبداع الكتابة سواء سرداً أم شعراً، هو تشكيل الصورة بمختلف تقنيات الإبداع البصري، باختصار تحويل الكلمة إلى صورة متحركة مرئية، وهي لغة هذا العصر.

الهوامش

1 – الشمعة والدرويش: حميد سعيد يتحدث- هشام عودة – دار دجلة 2011
2 – البنية الدرامية في شعر حميد سعيد – جميلة عبد الله العبيدي – بحث اكاديمي/ ماجستير، لم ينشر في كتاب
3 – ديوان (مملكة عبد الله) دار الشؤون الثقافية – ط2-1988
4 – ديوان (ما تأخر من القول)
5 – ديوان (الأغاني الغجرية) الأعمال الكاملة – مطبعة الأديب – جزء 1- 1984
6 – ثلاث مسرحيات – دار أزمنة – 2018
7 – القصيدة التشكيلية في شعر حميد سعيد – حمدي مخلف الحديثي – دار بيرم 2014 – تونس
8 – ديوان (مشهد مختلف) – ط١ دار هبة – 2018 عمان، ط٢ دار الصوت للصحافة والنشر 2019 إسطنبول – تركيا


الكاتب : بقلم : بثينة الناصري

  

بتاريخ : 20/11/2020