المظلّة في شريط «زياد»

 

أن يفوز شريط « زياد»، للمخرج الشاب «ياسين مجاهد»، وبطولة الطفل «زياد مقتدر»، بجائزة أحسن سيناريو في ملتقى طنجة السنيمائي معناه، من جهة، أنّه قد حصل الإنصات لخبايا المقول الصامت في الشريط بحسّ شاعري عميق، ومن جهة أخرى، الادراك المُصغي لموضوعة « اليتم «، وهي تحكم سلوك اليتيم في توهُجها الداخلي، وانعكاسها الباطني على نفسية اليتيم قبل انعكاسها على الآخرين التواقين لمحيط آمن وعادل.
« مكتوب عليك يا ولدي أن تتلقّى هذه الصفعة من القدر في بواكير عمرك الأخضر بلا سلسبيل التدلّل، ولا عسل الطفولة بكلّ روعته «. بهاتين الجملتين المقتضبتين لخّصت الناقدة المصرية منال عثمان شريط « سعد اليتيم « بكل روعة بطله الشاب الأسمر « أحمد زكي»، غير أنّه إذا كان شريط «سعد اليتيم « يهتم بتداخل وتشابك العلاقات الاجتماعية بالتركيز على مرارة الواقع الخارجي، لم يكن شريط « زياد « ليهتم بهذا الواقع المستهلك الى حدّ الضجر، بل كان تعبيرا عن العزلة الداخلية التي تمزّق الطفل الضحية، وليس البطل، في تجاوز للعزلة الخارجية التي من شأنها اللعب على الوتر الحسّاس لاستدرار عطف المشاهدين، وجلب شفقتهم في أفق التعاطف مع اليتيم، وأقصى ما تقصده التعبير عن قسوة المجتمع المعهودة، وضمان جزء كبير من نجاح الشريط. لذا انبرى شريط « زياد» الى التركيز على البطل الواحد والوحيد، وحواراته الداخلية الصامتة، لا يكلّم الا نفسه وهو يعالج ما تبقّى من زمن الأم. فبين العزلة والصمت ندخل العالم الداخلي للطفل، وهو يتأمّل في عزلته الكئيبة صورة للأم، وحدها الصورة بالألوان داخل مشاهد بالأبيض والأسود باعتماد تقنية القلب (L’inversion)، أو الاشتغال ب» الضد» لأن الأمر يتعلّق بالعالم الداخلي وليس الخارجي، وبوفاء مطلق لرؤية البطل وليس رؤية المشاهد، على عكس ما عهدناه من اعتماد الأبيض والأسود في كلّ « فلاش باك». وهي التقنية التي اعتمدها المخرج أيضا حين تركيزه على « المظلّة « من بين المتلاشيات داخل قبو المهملات ، وذلك لتسليط الضوء على ما يتفاعل داخل نفسية الطفل الذي يعيش فعلا قلبا لمقولة الزمن بين حاضر كئيب وماض مونع ، حينها تزهر الذكرى بالألوان ، ويحصل عيش الحاضر بالأسود والأبيض ، فتتغاير الألوان لتخلق تناغما (Contraste) يعكس حالة البؤس اليُتمي الذي يؤرق الضحية الصغير…بذا لم يكن البطل عملاقا بقدمين من طين، بل كائنا صغيرا بسيطا أعزل وسط متلاشيات، هي كل رصيده من زمن أمومي، يبحث فيه عن مظلّة بكل بعدها الرمزي الدال عن البحث عن واق يحميه قسوة الزمن وأهله ، والمظلّة ببريقها الألواني إنّما تستمدّ شعاعها من شعاع صورة الأم الغائبة/ الحاضرة بكل بريق الذكرى. لم يدخل الشريط في المآل الذي ينتظر اليتيم الصغير عادة داخل مجتمع قاس فاقد للقيم ليجعل منه المجرم المنتظر على غرار المألوف، بل ظلّ وفيا لعالمه الأصغر ورغبته الطفولية ذات العشر سنوات، فداخل عالمه الطفولي، وهو يعالج حاصلة نقوده الصغيرة، يستحضر بعمق صورة الأم الممدّة هناك داخل قبر معزول وسط العراء الطبيعي، في عزلتها ، هي الأخرى وسط الأرض الممتدّة المفتوحة على الفراغ…لم تكن الطبيعة الخارجية هي الأخرى رحيمة على الطبيعة الداخلية بل كان يغمرها البرق والرعد والسيل المنهمر بلا انقطاع ليزيد الأزمة الداخلية اشتدادا ، وعلى مرأى من مظلّة مكسورة انكسار الخاطر الصغير يزيد إصرار الطفل، بكل الزخم الأمومي، على ضرورة كسر الحاصلة لاقتناء مظلّة أخرى، فيُسلّط الضوء على فرقعة بشظايا تضاهي فرقعة الرعد في الخارج ، فتكشف عن قروش الذكريات الجميلة المخبّأة قرشا قرشا…بعدها يسلك الطفل المسرب الممطر أعزل الا من مظلّة تضمن الذهاب الآمن، ولا تضمن الإياب الممطر ، محمّلا بمظلّة. وبين قصف الرعد وعاطفة الذكرى لم يمسسه القطر: ألأن الطبيعة أدركت في لحظات تجبّرها أن الكائن الصغير أحقّ ببرهة صحو حتى وهو بين مخالب القدر؟ أم لأن الأمر يتعلّق بعالم داخلي عميق يقي نفسه بنفسه، ويصون إحساسه الداخلي النبيل من كل وابل خارجي؟ بالفعل فعالم « زياد عالم داخلي بامتياز يحصل فيه الاحتماء بدفء الأمومة، وقوّة الوشيجة الداخلية، ألم يقل باشلار: إن الهاجس الذي يجنح للصغر إنّما يجنح نحو العمق والاطمئنان؟ فداخل اختراق المسرب الممطر نحو القبر الأمومي يحصل التوكيد الرمزي على القوّة الكامنة في الذات النبيلة، قوة المقاومة والصمود، هي الغلاف الواقي، والذرع الحامي للكائن الأعزل، حتى وهو محاط من كل جانب بأهوال الطبيعة القاسية، بذا تحصل العودة الى قبرالأم بكل رمزية الألفة والحنان لتوضع المظلّة مفتوحة تقي القبر أهوال الطبيعة ، وتلتمس مظلّة أكبر لتقي عودة الطفل الى واقع يكاد يستحيل العيش بداخله دون مظلّات .


الكاتب : عبدالالاه رابحي

  

بتاريخ : 04/10/2022