المغاربة و«مصطلحات المرض».. من لغة للإخبار والتواصل إلى أداة لـ «تعزيز» الألم؟

يغيب في توظيفها استحضار إمكانية تعميق أوجاع المرضى

 

انتقاء المصطلحات، توظيف الكلمات، صياغة الجمل … كلها خطوات ضرورية من أجل تقديم نصّ يغري بقراءته، أو الاستماع إليه حين النطق به، ولفسح مجال أكبر يتيح التتبع والتأمل في مضمونه. نصّتكون أفكاره مترابطة فيما بينها، ويعبّد الطريق أمام القارئ لفهم ما ظهر من معنى وما استتر من رسالة.
إن تحرير موضوع لا يكون بالضرورة أمرا تلقائيا وعفويا، ولا يقف عند تدبيج كلمات «محايدة» يمكن أنيأتي بها الصحافي من هنا وهناك، فيقحمها بشكل فجّ في مضمون النص،لأن من شأن ذلك أن يتسبب في صدمة للقارئ، بسبب سوء وضعف توظيف لقاموس تم استقدامه عنوة من مجال مختلف، وتم «استغلاله» في سياق آخر، فقط لأن هناك من اعتاد أن يقوم بهذا الفعل بشكل «عفوي» حتى أصبح ضمن خانة المألوف، المأسوف عليه.
مصطلحات تنتزع من حقلها انتزاعا، للدلالة على «جسامة» وضع معين، وبهدف منح الفكرة «قوّة» أكبر و «وقعا» أعظم، حتى وإن تسببت في «أزمة» لقارئ من القراء، أو مستمع من المستمعين، خاصة تلك التي تنهل من القاموس الصحي، الذي تعكس مصطلحاته في كثير من الحالات مظاهر المعاناة والضعف والوهن والإنهاك،وتكشف عن آلام لا متناهية في العديد من المواقف، التي لا تقف عند حدود ما هو عضوي، بل تمتد إلى ما هو نفسي، الذي يتسبب في أزمة قد تظل ملازمة لصاحبها طيلة حياته.

كثيرة هي الكلمات التي تكون عنوانالكل وصم وتمييز، وتقوّض كل المجهودات المبذولة لتعزيز وتطوير ثقافة حقوق الإنسان، وتكرّس لتفرقة مبنية على أساس اللون أو الجنس وما يتفرّع عن هذا الأخير من سلوكات، وغيرها من أشكال الاختلاف، التي تجد طريقها إلى مجال الإعلام، مشاهدة، سمعا وكتابة، وفي لغتنا اليومية.
تعابير يتداولها العديد من الأشخاص بكل تلقائية، كما هو الشأن بالنسبة لتلك التي أشرنا إليها، القادمة من مجال الصحة، دون استحضار لوقعها وآثارها على من يحسون بها أكثر من غيرهم، الذين لا يجدونها أسلوبا صالحا وقابلا للوصف.

«عقم» اللغة

تتعدد التعبيرات ذات المدلول الصحي، التي يتم الزج بها عنوة، في العديد من المقالات الصحفية والنشرات الإعلامية المختلفة، التي يمكن أن تقتحم أذن المستمع أو تصطدم عين القارئ بها، في سياق غير السياق. ويعتبر مصطلح «عقيم» أحد هذه المصطلحات التي يتم توظيفها في كثير من الحالات، من طرف إعلاميين وسياسيين وغيرهم، للدلالة على غياب الجدوى والفائدة وانعدام النتيجة المرجوّة من نقاش/حوار معيّن.
مصطلح، قد يمر مرور الكرام على فئات عريضة من الأشخاص، خلافا لمن اكتوى بناره ولهيبه، وعانى عضويا ونفسيا، وتكبّد المشاق ماديا ومعنويا، الذي تستفيق جراحه ويتم إحياء آلامه ضدا على رغبته وإرادته. متلقّ تختلف في تلك اللحظة درجة إحساسه بالجرح الدفين، ويكون الفرق جليّا بين من استطاع مواصلة الحياة، رجلا كان أو امرأة رفقة شريك أو شريكة الحياة، وقررا التكفل بطفل أو طفلة، أو اتفقا على دعم بعضهما البعض وأن يعيشا مقتنعين بأن باب الإنجاب قد أوصد في وجهيهما، وبيناللذين وقع شرخ كبير في حياتهما وانفصلا، بعد أن عاشا قصة حب اعتقدا بأنها ستكون مقدمة لحياة سعيدة، يتحلّق أطفالهما حولهما في مختلف مراحلها، لكن جاءت الأقدار بغير ما كانا يمنّيان النفس.

«سرطان» الرشوة والتعمير وغيرهما

«السرطان»، لفظ مرعب، اقترن في أغلب الحالات بالموت لا بالحياة، والحال أن الشفاء منه بات ممكنا. «إسم طبي» يتم توظيفه في سياقه الصحي، فيدلّ ضمنيا على الألم وحجم المعاناة المتعددة الأبعاد، خاصة في ظل التفشي الواسع للمرض في المجتمعات، بسبب تغير نمط العيش والمشاكل المرتبطة بالتغذية واتساع رقعة الضغط والقلق وغيرها من العوامل المساعدة، الوراثية وغيرها، مما يجعل الحديث عن هذا الداء محفوفا بالحزن، حتى أضحى الكثير من الأشخاص لا يستطيعون نطقه والتلفظ به، علما بأن هناك الكثير من الحالات التي استطاعت مقاومته وتمكّنت من تحدّيه والتغلب عليه.
مصطلح، انتُزع هو الآخر من الحقل الصحي، وأصبح يوظف للتعبير عن عدد من المعضلات اليومية ذات الوقع الاجتماعي، التي يتم تقديمها من خلال هذا الاستعمال على أنها غير قابلة للعلاج أو للتعبير عن حجم انتشار ظاهرة ما. ونجد في هذا الإطار من يتحدث عن كون الرشوة قد «استشرت كما يستشري السرطان في الجسم»، متناسيا أن هناك العديد من المتلقّين يعانون من هذا الداء، وقد يكون لهذا التوظيف اللغوي وقع سلبي عليهم في أوج» الحرب النفسية «التي تدور رحاها مع المرض، مما قد يحبط من عزيمتهم وقد يكون لذلك وقع غير منتظر؟
تعبيريجد أثره كذلك حين يتم الحديث عن الزحف العمراني على الفضاءات الخضراء، وعن «أسمنة» المدن وتداخل العالم القروي بالحضري، فيتم اللجوء إلى هذا المصطلح وتوظيفه في حالات متعددة مرتبطة بهذا الموضوع، ونفس الأمر يتم القيام به في عدد من المواد الإعلامية التي تتحدث عن الباعة الجائلين، وغيرها كثير من الأمثلة التي حين توصيفها يتم إقحام لغة من خارج «اللغة» الطبيعية!

«الخميس الأسود»

يقفز الكثير من مستعملي تعبير «أسود» على دلالات اللون المرتبطة بالجمال والجاذبية والأناقة والتحدي ليتم ربطه بما هو سلبي، فيتم إقحامه وتوظيفه للدلالة على ما هو غير طبيعي، يخرق القانون، يؤدي إلى الألم، يعكس التخريب وغيرها من التفاصيل غير السوية. وتعتبر أحداث التخريب التي رافقت إجراء مقابلة في كرة القدم في وقت سابق، بين فريقي الرجاء البيضاوي والجيش الملكي، نموذجا لهذا التوظيف الذي هو عنوان على الوصم والتمييز، الذي يخلّف بالضرورة وقعا غير طبيعي في نفوس من لهم لون بشرة غير بيضاء، كما لو أن كل قبيح وكل ما هو شنيع مرتبط بالسواد، ممايعتبره الكثير من المتتبعين أنه يعبر عن قصور في توظيف اللغة من جهة، وتسرع في «إصدار أحكام» من جهة ثانية، والحال أنه يمكن تفادي أية إساءة، وإن كانت غير مقصودة، بقليل من التريث والاجتهاد اللغوي.

« جنس لغوي»

لا يتعلق الأمر هنا بالأجناس الصحفية، وإنما بالمصطلحات المستعملة للتعبير عن ممارسات يعرفها «الحقل الجنسي» ولوصف المعنيين بها، التي ينادي عدد من الفاعلين المدنيين بإعادة النظر فيها واستبدالها بأخرى أقلّ «حدّة»، تقوم على احترام حقوق الإنسان في بعدها الكوني، التي قد لا يتفق معها البعض بسبب مرجعيات معينة، لكنها تندرج، في نظر المعنيين، ضمن خانة الحقوق التي يجب احترامها.
ويدعو الفاعلون في الحقل الصحي المرتبط بمجال محاربة فيروس فقدان المناعة البشري، نموذجا، إلى الحديث عن ممتهنات الجنس، والرجال الذين لديهم علاقات جنسية مع الرجال، والعابرين الجنسيين وزوجي الجنس، وغيرها من المصطلحات التي يمكن توظيفها في المواد الإعلامية عوضا عن أخرى، تؤدي أحرفها إلى توسيع دائرة الوصم وتتسبب في نوع من النفور عند فئة عريضة من القراء والمستمعين.

لغة ولغات

مع التطورات التي عرفتها المجتمعات، تعددت «اللغات» والحال أن اللغة واحدة، فأصبح لكل أسلوبه للكلام والوصف والتعبير، وبتنا نجد أنفسنا أمام اللغة الأم، التي تعتبر المنبع الذي من المفروض أن يتزود منه الجميع، وأمام «لغات» تستعمل في مواقع التواصل الاجتماعي، وأخرى في الشارع، وثالثة في بعض المنتديات، إلى جانب لغة إعلامية، تتأسس على اللفظ والمعنى، بعضها يحرص على أن تكون لغة سليمة، واضحة، لا تخلق لبسا وغموضا للقارئ والمستمع، ولا تفتح أبواب التيه أمامهما، والبعض الآخر يتبنى تعابير وإن ابتعد معناها وكبر وقعها، لإيصال رسالة ما بغض النظر عن «كلفتها».
وضع يتطلب فتح نقاش عميق، في إطار التكوينات المستمرة، لنساء ورجال الإعلام بشراكة مع هيئات وتنظيمات ومؤسسات، من أجل رفع الوعي بشكل أكبر بالعديد من القضايا التي يتم تناولها إعلاميا من زاوية أحادية وبعيدا عن الشركاء المفترضين، فيمضي بذلك كل في مسار بعيد عن الآخر، وتضيع الغاية المشتركة، المتمثلة أساسا في نشر رسالة هدفها التحسيس والتوعية، وسط «أشواك» الكلمات التي قد يكون بعضها «داميا».

*****************

كفى من المصطلحات التي تثير الرعب

عزيزة غلام

بالنسبة إلي شخصيا أجد حرجا كبيرا حين أكون في مكان عمومي ويجري استعمال مصطلحات أو تعابير لها صلة بمشكلتي الصحية للتعبير عن أمور ووقائع وأحداث، يعتقد معها المتكلم أنها الكلمة الأنسب للتعبير عن قصده.
مصلحات يتم توظيفها إعلاميا بالخصوص، وفي النقاش العام في مختلف الفضاءات، التي بات التعامل معها مألوفا، من قبيل كلمة عقيم، فنجد في هذا الإطار توظيف تعليق «حوار عقيم» للدلالة على أنه لم بفض إلى ما هو مفيد ولم يأت بنتائج إيجابية.
هذه الكلمة تهزني دائما، ولست وحدي، فالكثير ممن يسمعونها وتقتحم آذانهم وتصطدم بها أعينهم يعيشون نفس الحالة، لهذا أسعى دائما لكي يغيرها المتكلم ويعوّضها بمصطلح آخر، فأقول مع نفسي ربما يجد المتكلم تعبيرا أو كلمة أبلغ للتعبير عما يريد قوله وان يخلص إليه دون أن يمس جرحا لدى شخص مريض.
مثل هذه المواقف تجعلني أفكر في حقيقة الوصم الذي يشعر به عدد ممن يعانون من أمراض أخرى، حين نستعمل مصطلحات لا نعي وقعها على نفسية المصابين، مثل المرض الخطير، المرض الخايب، المريض الله يستر، المرض القاتل،…. وغيرها من المصطلحات التي توقظ الوجع أو تثير الرعب والخوف في نفوس الآخرين، لهذا من المهم جدا الحذر واليقظة حين استعمال مصطلحات قد تمس الحياة الصحية لشخص ما، فتفقده الثقة في الشفاء والتعافي، وقد تعجل بإصابته بأمراض أكثر صعوبة أو باضطرابات نفسية لمجرد ربط كلمة بواقع معين.

* رئيسة جمعية الحالمين بالأمومة والأبوة «مابا»

 

*****************

ابتعدوا عن هذه الأوصاف رأفة بمرضى السرطان

محمد شروق

ظل السرطان على امتداد عقود مرتبطا بالموت حاملا لتمثلات معينة في أذهان الناس. وبما أن الأمر بتعلق بمرض كان علاجه مستعصيا قبل تطور طب السرطان واكتشاف وسائل الكشف والعلاج، فإنه كان ومازال يحمل أوصافا ونعوتا مثل «الحي» و»الخايب» و»الخبيث» و»اللعين» و»الفتاك»..بل إن وسائل الإعلام بمختلف أشكالها تبنّت هذه الأوصاف وصارت توظفها بحسن نية، دون أن يكون هناك إدراك بأن لهذه الأوصاف ضررا سيئا ووقعا سلبيا على نفسية المريض. كل هذا رغم أن كل من يتكلم عن السرطان يضع نسبة مهمة للجانب النفسي والذهني في العلاج من هذا المرض الذي يلقبه المرضى بالداء الجبان.
ما وقع هو أن المجتمع بما فيه وسائل الإعلام لم ينتبهوا إلى التطور الكبير الذي عرفه طب أو علم السرطان.. وهو التطور الذي يؤدى إلى نسبة مهمة في نسبة الشفاء. وعلى مستوى اللغة، عندما نبحث في مختلف اللغات لا نجد هذه الأوصاف التي تتردد في اللغة العربية فالمرض يحمل اسما واحدا هو السرطان cancer.. وحتى لما نبحث عن أصل وصفه في اللغة العربية بالخبيث، فإن المعني هو الورم الذي ينتشر maligne في حين هناك الورم الحميد وهو الذي يبقى محدودا في مكانه.
وتحاول جمعيات السرطان خاصة التي أسسها مرضى سابقون حاملون للتجربة أن تتواصل مع وسائل الإعلام من أجل تجنب الأوصاف المضرة لنفسية المصابين بالمرض الجبان. ومع ذلك، فإن السرطان الحقيقي و»الفتاك» و»الخبيث هو الفقر والعوز وضعف الإمكانيات أمام غلاء كلفة العلاج.
إن السرطان الحقيقي هو أن يعجز المريض عن أداء ثمن فحص سيني «سكانير»، وأن يؤجل العلاج بسبب عجزه عن جمع مبلغ يشتري به دواء بآلاف الدراهم. السرطان الخبيث هو الذي يصيب مواطنين في المناطق المعزولة التي لم يصلها الطبيب بعد. فكيف لمواطن قطع مئات الكيلومترات للخضوع للعلاج الكيميائي المعروف باسم «الشيميو»، والذي يدوم ساعات ويسبب انهيارا تاما للجسم، كيف له أن يعود إلى بيته البعيد عبر وسيلة نقل تفتقر لأبسط شروط الراحة؟
السرطان الفتاك هو الذي يصيب امرأة تخاف أن يعلم زوجها بالخبر، وإمكانية بتر أحد ثدييها، فيرميها إلى الشارع مثل ورق «كلينيكس».
رسالة إلى نساء ورجال الإعلام: رأفة بمريضات ومرضى السرطان، حين تتناولون هذا المرض في برامجكم ومقالاتكم، تجنبوا جميع الأوصاف الهدّامة لنفسيتهم ومعنوياتهم، أما عندما تتكلمون عن ظواهر اجتماعية مشينة، فلا تقارنوها بالسرطان.. وتأكدوا أنه بفضل تطور طب السرطان، أصبح هذا المرض مزمنا مثل جميع الأمراض المزمنة القابلة للعلاج.

*رئيس جمعية «نحن والسرطان»


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 08/11/2022