المغارس الفنية والأنطولوجية في ديوان «أنا لاأحد» للشاعر محمد العياشي

في قلب الحركة الشعرية والأدبية العربية المعاصرة، تمثل دواوين الشاعر محمد العياشي أحد المرتكزات التي تتميز بقوة التأسيس مع الحفاظ على القيود في محاولتها طرح الأسئلة المنهجية عن علاقة التراث بالحداثة. فكتابات الشاعر ليست خيطا مقطوعا من الدرس الشعري والأدبي العربي التراثي والمعاصر فحسب، بل اختار شاعرنا –وعن سابق تصميم- لنفسه توجها أصيلا في الشعر لا يمكن إسقاطه، فمضى في دواوينه يرسم فرادة خط شعري يقيم ضربا من التوازن التاريخي بين الجذور الضاربة في أعماق التراريخ والفروع الناهضة على سطوح الحاضر .
ولعل ما ساعد شاعرنا في كل هذا الاكتناز أنه جاء من قراءات متعددة تراثية ومعاصرة عربية وغربية في أفق المساهمة في إنضاج تجربته الشعرية المتفردة. وبهذا ينفي الشاعر محمد العياشي اعتبار الشعر الموزون قناة فنية متجاوزة بعدما تعددت أصوات الحداثة وما بعدها. فرغم السائد الشعري الآن واصل الشاعر في رسم ملامح مشروعه الشعري المتفرد الذي ينفي القطيعة بين الشاعر والجمهور بوصفها قطيعة تتذرع بانتهاء زمن الشعر الموزون. وبذلك كان نظمُه سابحا ضد التيار السائد بشعره الموزون وخطابه الذي يروم تحقيق المعادلة الصعبة بين مطالب الجمهور وفنية الكتابة على نحو تجدد فيه المواثيق الشعرية التراثية صداها الأعمق من خلال لاءات الرفض للواقع الشعري الذي يسير في اتجاه المحاكاة العمياء لبعض القوالب الفنية والأساليب الشعرية الغربية.
لعل لاءات الرفض الصاعدة في الترسيمة الشعرية لمحمد العياشي نجدها بارزة في ديوانه الأخير والموسوم ب «أنا لا أحد». فالمتن الشعري للديوان يعبر عن نظرة استكشافية مُطعمة بحس الاعتداد بهوية شعرية تحصن موقفها وتدعم مكانتها من كتابة فنية يهبها المتن تخومية ترتقي إلى مستوى تحديات العصر. فالأنا الشعري محكوم بمخالفة أشباهه باستثنائيته المتمثلة في القدرة على الإيحاء والتدليل الأكثر حيوية وحرية عن قبضة السياق الحضاري وقضايا العصر . فقارئ الديوان سيستتشعر ذوبان الصوت الشعري للأنا في الآليات التي رسخها الشعر العربي الموزون دون أن ينجرف تحت إغراءات الحداثة والمدارس الشعرية الوافدة، بل سيراه يفيذ من الوافذ بصهره في بوثقة تمنح الذات الشعرية أمكنتها المجهولة. إنها تكوينية الذات الشعرية غير القابلة للتكون الحاسم والنهائي في صيغة إلا وهي منخرطة في معاناة جدلية تعمل قصائد الديوان على تجلية جوانبها المختلفة. فالأنا وصيغة الرفض التي يحملها عنوان الديوان والعديد من القصائد بداخله مثل: لا أحد- اللاطريق- لا أسأل- لا أعد أعوامي- لا للنكوص- إلى اللامكان- إلى اللا أين… تدع الأنا تبارح سكونيتها لتُحقق نقلتها إلى ما ليس من ذلك الأحد أو الآخر وإليه. وكانها تريد الانعتاق من الإقامة حيثما هو، دون الاشتقاق من هيئته شبيها لها.
إن طابع المنافحة الذاتية لشاعرنا يجعل القارئ يحس بالمأزق الوجودي والعبث المميز لقصائده والمأخوذة بوازع قهري أو مضني بما يشغله داخليا. والحق أن محمد العياشي لا يركن لشيء اسمه الحقيقة، بل يعترف بما تمليه الأحاسيس المنبثقة من تصدعات الروح، والأفكار النابعة من تشنجات القلب وتوترات الأعصاب. فوحده الشاعر المتحرر من كل ثقافة تسلطية خارجية، والمكتسب للقدرة على التقاط حركية الوجود والمشي على هامشها، متكلما لغة مترعة بالشك، يستطيع بلوغ نبض الأشياء ووجودها الحسي العيني الناطق.
فكل قصيدة من الديوان تخرج عن كونها تعبيرا لتتحول إلى أفعال نداء تذكرنا بالشاعرة الأمريكية إميلي ديكنسون حين قولها «أنا لا أحد فمن أنت؟ هل أنت لا أحد؟ إذن غدونا اثنين فاكتم سرنا». إنه البحث الميتافيزيقي الضال عن الملجأ في عين الاغتراب والذي تبوح به العديد من قصائد الديوان عبر عناوبنها مثل ملاذ، وهذيان، وذبول، وتشاؤم، وأفول… ليقرع القارئ في القصائد الموالية موائد الراح وكؤوسها التي تنتظره، كما لو كانت قائمة هناك ومُعدة لاستقبال الغريب «اللاأحد» منذ ابتدأت غربة الكائن الوجودي. عندها تتحرك مرئيات التشتت الظاهري والتشظي الغائم لمسارب انفلات تلك الأنا الشاعرة وتيهانها ضمن تعرجات القول الشعري لتفصح عن الرؤيا التي ينطلق منها شاعرنا وآفاق تجربته الشعرية والمتمثلة في الفوز بالمسكن الشعري واحتراف المبيت في بيوت الشعر المقدس براحه. وكأن الراح تأتي بالحياة بالكينونة لحظة الانتشاء بالسكر الذي تنطوي مواعيده على نظم زخارف العالم شعريا.
فشاعرنايطلب المعنى ويتحرق من أجله ليسجل إمكانية لقائه عند معانقة لحظات السكر الشعري والارتواء من كؤوسه، فيكون القصيد موضوع اشتهاء يحرك رغبة القارئ ويفتح شهيتة لمجالسة شاعرنا على مائدة الشعر المُعدة لاستقبال الغرباء.
في الأخير،لا أغالي إن قلت إن قصائد ديوان شاعرنا تمد جسور الأصوات في طبيعتها التحاورية غير المباشرة لتتحول إلى نداءات تخفي شحنة تمرد لافتة، لأن الجاري من ينابيع القول الشعري للديوان يمثل مسيرة محارب عبر سيرة مُغترب. فالديوان وثيقة وجودية تعكس التوترات التي تصيب روح شاعرنا، والتمزقات التي تعصف بقلبه في كل لحظة عند محاولة الانعتاق من السياجات الدوغمائية. فالديوان صرخةمتمردة ضد مأساوية العالم الذي يستدعي تدخلا سريعا وإسعافا مستعجلا، غير أن تلك الصرخة ما تلبث أن تتحول إلى رغبة أكيدة في مواجهة الفوضى العارمة عبر اتجاه شعري تواصلي يغرف من حرارة المعادلات الموسيقية والثروة الشعرية لموروث الجمهور العربي الذي يربط بين الوزن والإيقاع دون الفصل بين الموسيقى والغناء. فبقدر ما كان تبنيه اللافت لأهمية الثروة الموسيقية للبحور الشعرية التي تخدم رؤيته التواصلية الإيجابية للتراث، بقدر ما كان مخلصا للحداثة وروح عصره بوصفها شاعرا ميتاحدوديا يشتغل بقضايا الأنسنة على الصعيد العالمي، وشاعرا عابرا للشخصي تُجسد فيه الأنا حالة الانقداف الوجودي لتؤلف تطورا لحركة تدريجية وفقا لقانون التكامل المؤَسَّس على مبدأ الامتداد الجوهري للواحد الساري في شمولية الخطاب الشعري للديوان.


الكاتب : مراد ليمام

  

بتاريخ : 13/07/2023