صدرت منذ سنة ونصف الطبعة الثانية، من الترجمة الفرنسية لكتاب الباحث المغربي شوقي هامل، الحامل لعنوان: «المغرب الزنجي» (البعض يترجمه حرفيا ب «المغرب الأسود» وهي ترجمة غير دقيقة)، ضمن منشورات «ملتقى الطرق» بالدار البيضاء، التي أنجزتها الفرنسية آن ماري تويسن. وهو كتاب إشكالي، معرفيا وأكاديميا، يقارب واحدة من أعمق وأهم القضايا الثقافية والفكرية والتاريخية، ليس بالمغرب فقط، بل في كل الشمال الغربي لإفريقيا، ضمن المجال الذي بلغه ما يمكن وصفه ب «الإسلام المغربي» بمرجعيته المذهبية المالكية وبمدرسته في العبادات والعقائد (الأشعرية على طريقة الجنيد)، التي تبقى موروثا أندلسيا بها، سجلت لاختلاف واضح وكبير عن كل التجارب التأطيرية والفكرية والمذهبية بالمشرق العربي والإسلامي. وهي موضوعة «العبودية» وتبعاتها من سلوكيات عنصرية ضد «الزنجي» الأسود بها.
الكتاب الذي صدر في الأصل باللغة الإنجليزية، للباحث الأكاديمي شوقي هامل، الأستاذ المحاضر بجامعة أريزونا الأمريكية سنة 2013، ضمن منشورات جامعة كامبردج، يقدم مقاربة علمية جديدة لموضوعة «العبودية» ضمن التاريخ الإجتماعي للمغاربة، تأسيسا على ما يمنحه التأويل للنصوص الدينية ضمن مدرسة فقه النوازل المغربية. وهي مقاربة أكاديمية تسجل اختلافها من مرجعيتها الأنغلوساكسونية، المختلفة تماما عن المرجعية «الأفريقانية الفرنسية»، التي لها منطلقاتها المعرفية وإسقاطاتها التأويلية. وهي مرجعية أنغلوساكسونية أمريكية بالتحديد، تجد سندها في كم وحجم الثقافة الأكاديمية الهائلة الدارسة لموضوعة «العنصرية والعبودية» السوداء كما تجلت في التاريخ الأمريكي منذ القرن 17 الميلادي حتى اليوم.
بالتالي، فإن مغامرة ترجمة أجزاء كبيرة من هذا الكتاب الأكاديمي الهام، إنما تهدف إلى محاولة تقديم مقاربة معرفية أخرى لموضوع شائك مثل موضوع «العبودية والزنوجة» بالمغرب، تاريخيا وثقافيا وسلوكيا، من مرجعية فكرية مختلفة عن تلك التي تعودناها ضمن المنتوج الجامعي باللغة الفرنسية. خاصة وأن نقطة «قوة» (إن جاز لنا هذا التعبير) مقاربة الباحث المغربي شوقي الهامل، كامنة في أنه أصلا متمثل للثقافة والمعرفة الأكاديمية الفرنسية في هذا الباب، بسبب كونه خريج جامعة السوربون بباريس، التي حصل بها على الدكتوراه في التاريخ، مثلما اشتغل لسنوات هناك ضمن «مركز الدراسات الإفريقية» حيث تخصص في دراسة واقع إفريقيا ما بعد الإستعمار بمجتمعاتها التي تدين بالدين الإسلامي.
تشكل دراسة العبودية بالمغرب، مصدرا غنيا للتوقف عند كيفية تأثير المنظور الثقافي على التعبير الديني. لأنه بالتوازي مع التبرير الديني (الإسلامي) للعبودية بالفضاء المتوسطي، نستطيع العثور على سياقات تاريخية متطابقة في جهات أخرى، مثل إسبانيا. ذلك أن نص «المواجهات السبع» يقدم طروحات تعلن أن «الإستعباد هو من أفضع الأمور ومن أكثرها وضاعة التي يمكن أن تكون في حياة البشر»، وأن «الإستعباد هو أفضع أمور الحياة بعد الخطيئة». وفي تناقض مع المبادئ الواضحة للكاثوليكية، فإنه قد تم تبرير وجود مؤسسات العبودية، من خلال تآويل رجال دين اعتمدوا جملة «تبريرات» للإستعباد (للتعمق أكثر في هذا الأمر، يمكن العودة إلى الدراسة العميقة الموثقة التي اشتغلت على التقاطعات بين ما هو ديني وما هو ثقافي ضمن التمثلات المسيحية خلال تلك المرحلة التاريخية، للباحث روبر ويليام، التي هي بعنوان «الهندي الأمريكي في الفكر القانوني للغرب: خطاب الغزو»، الصادر ضمن منشورات جامعة أوكسفورد سنة 1990).
إن دراسة معمقة ل «المواجهات السبع» قد وضعت تحت المجهر تماثلات أخرى بين المواقف المسيحية والإسلامية في ما يرتبط بالعبودية. فقد كانت العبودية بالمغرب، مؤطرة ضمن ضوابط وقواعد التشريع الإسلامي للمذهب المالكي. ولفهم العبودية به، مهم ومركزي دراسة تلك التشريعات والقوانين استنادا على نصوص التشريع الإسلامي ومصادره الرئيسية، التي هي القرآن والسنة. ولقد سعيت إلى دراسة تلك المصادر المؤسسة للإسلام، بغاية تبيان التناقض والتبدل في وضعية الإماء المستعبدات كما هو مبين في القرآن والحديث، وبالأخص مكانة النساء في العلاقة مع العبودية ضمن المذهب المالكي، ضمن لحظة للتطور والإنتشار التي حققتها البنى السياسية الذكورية منذ بداية العهد الأموي.
لقد كتب تاريخ المغرب عموما، من أجل توثيق الماضي، وليس بهدف إعادة قراءة ودراسة التاريخ، عبر استحضار الخصوصيات الثقافية لغير العرب ولغير المسلمين (من أهل الذمة). وكذا مساهمة الأمازيغ ومشاركتهم، في ذلك، إلى جانب السود الزنوج واليهود والنساء ضمن إبداع الثقافة المغربية.
إن المركزية العربية، المتعاضدة مع المذهب المالكي قد نحتث التعابير الأدبية والخطاب السياسي عبر تاريخ المغرب منذ القرن العاشر. صحيح أن الإسلام كدين ينافح من أجل العدالة وتجاوز كل اختلافات الإثنيات واختلاف اللون والثقافات، لكن حين يتعلق الأمر بالعبودية، فإن التفسيرات تقبل بسرعة أمرا آخر مختلف، حيث إنها تفرض أو تخلق هويات للآخر «تدمجه ضمن العبودية». بل إنه يتم ترسيخ تلك الهويات، عبر التوكيد على تعدد التباينات الخاصة بالوثنية أو اللاإيمان.
إن وثائق تاريخية، مثل كتاب أحمد بابا التمبكتي «معراج الصعود إلى نيل حكم مجلب السود»، المنحدر من ميدنة تمبوكتو (وهو كتاب شرعي حول العبودية موجه إلى تجار العبيد المغاربة أساسا)، يقدم أمثلة حول نصوص قانونية توضح كيف أن الهويات محددة، قائمة وتابثة وكذا مغتصبة. مثلما أن نصوصا أخرى، مثل «دفتر مماليك السلطان مولاي اسماعيل» (توجد نسخة منه بالمكتبة الوطنية للمغرب بالرباط، ويتعلق الأمر بوثيقة قانونية تعالج مسألة امتلاك العبيد)، يقدم جردا متجانسا ونقديا في ما يتعلق بطبيعة العبودية بالمغرب خلال حكم ذلك السلطان في بداية القرن 18. وانطلاقا من ذلك السجل القانوني، يتضح جليا أن العبودية قرينة بالزنوجة.
أعاد، خلال العقود الأخيرة، عدد من الباحثين الجامعيين قراءة البنى التاريخية القائمة المتعلقة بالمجتمع المغربي، مركزين على قدرة المبادرة الخاصة بالمجموعات التابعة له. ولقد قدم باحثون جامعيون غربيون ومغاربة، مثل ديبورا كابشان (من خلال دراستها القيمة بالإنجليزية «معلمو روح السفر: نشوة موسيقى كناوة المغربية في السوق العالمية للفن» الصادرة سنة 2007 ضمن منشورات جامعة ميدلتون)، سنتيا بيكر (من خلال كتابها بالإنجليزية «نحن عبيد حقيقيون، إسمغان حقيقيون: ذاكرة تجارة الرقيق عبر الصحراء بمنطقة تافيلالت بالجنوب الشرقي للمغرب» [كلمة «إسمغان» كلمة أمازيغية وتعني «العبيد» مثلما تعني «السود» – م-]، الصادر سنة 2002 ضمن العدد 4 لمجلة دراسات شمال إفريقيا، الصفحات من 97 إلى 121)، بوعزة بنعاشير (كتابه «الزنوجة بالمغرب والمغرب العربي» الصادر سنة 2003 ضمن منشورات لارماتون بباريس)، ومحمد الناجي (من خلال كتابه «خدمة السيد» الذي سبقت الإشارة إليه والإحالة عليه من قبل). فجميعهم قدموا مقاربات جديدة تبرز معالجة مختلفة (يتعلق الأمر فيها ببروز نظم القوة ضمن النظام الإسلامي)، كما وجدت وطبقت ضمن الخصوصيات المحلية والدنيوية لمجتمع ما، أكثر منها خطابا دينيا. إن تلك الدراسات الجديدة، قد وضعت الأصبع على دور الأفراد المسلمين الفاعلين عمليا ضمن العناصر المشكلة والمؤطرة لمجتمع إسلامي حيوي، بدلا من المقاربة التقليدية، التي لم تكن ترى للأفراد سوى كفاعلين ثانويين ضمن راية الإسلام. لقد سمح تحليلهم للمجموعات المهمشة إلى إنهاض الحيوية المعقدة ما بين الإدماج والإقصاء الثقافي، بدلا من من الإرتكان إلى الفرضية الخاطئة التي أرادت أن تجعل من الإستيعاب نوعا من الإمتصاص الأحادي الجانب ضمن النسيج المجتمعي.
إن التموقع ضمن روح البحث الجامعي العلمي لهؤلاء الباحثين، هو الذي يجعل بحثي يستهدف إبراز الدور المنسي للسود بالمغرب. بالتالي، فإن دراسة وتحليل خصوصيات مؤسسة العبودية بهذا البلد، تجعل دراستي تنقل إطار المقاربة من العام إلى الخاص. إن هدف هذا الكتاب، في العمق، هو إعادة مساءلة القراءات التقليدية للعبودية في الإسلام وفي المجتمع المغربي. ولقد اشتغلت على كيفية أن مفهوم الإدماج باسم الإسلام قد تم توظيفه كمصدر للإمتياز أكثر منه مصدرا للتمييز.
إن ما يمهني أكثر، هنا، هي ثقافة الصمت (من خلال رفض إطلاق النقاش المتعلق بالعبودية، والمواقف العنصرية، وأسئلة النوع، بشكل علمي عمومي). وأن هدفي هو إيجاد النصوص المقموعة حول العبودية بشمال إفريقيا المسلمة.. وأضع موضع المساءلة القراءات التقليدية لإدماج أفارقة إفريقيا الغربية السود بالمغرب، من خلال تفكيك المفاهيم الجاهزة، مع التركيز على قدرات المبادرة الخاصة بأولئك الذين تم استعبادهم، والتحقيق في علاقاتهم كمرؤوسين مع المؤسسات القائمة والسياسات المرتبطة بالسلطة والنوع والعرق والهوية.