المغرب والمجال المتوسطي.. الهوية والتاريخ

ظلت البحيرة المتوسطية تشكل ضفافا مشرعة أمام مجمل التأثيرات والتأثرات المتبادلة التي صنعت للمنطقة هويتها الحضارية المميزة. وظل البحر الأبيض المتوسط مركزا للعالم القديم. فعلى ضفافه، ظهرت حضارات شتى مثل الحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة المصرية الفرعونية والحضارة الفنيقية والحضارة القرطاجية، وانبثقت من أقاصيه الديانات السماوية الثلاث، واحتضنت مجالاته إمبراطوريات كبرى كان لها دور مركزي في توجيه أحداث العالم، وانبثقت من مراكزه معالم الإشعاع الحضاري والعلمي والثقافي الذي صنع معالم نبوغ البشرية في مختلف مجالات العلوم والفكر والفن والإبداع. وبموازاة هذه العناصر المشعة في تاريخ المجال المتوسطي، عرفت المنطقة حروبا وصراعات ومآس لازالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا، وهي حروب وصراعات تندرج في سياق نزوعات التدافع الجيوستراتيجي بين القوى الكبرى التي أثرت في المسار العام لتاريخ المنطقة، انطلاقا من دوافع الهيمنة والتوسع الخاضعة لمنطق التدافع الحضاري بين الأمم والدول والزعامات. لكل ذلك، أصبح المجال المتوسطي مرآةً للعالم القديم الذي انتظمت في إطاره حياة الإنسان، ومصالح الدول، وسبل الارتقاء الحضاري، منذ ميلاد البشرية وإلى حدود نهاية القرن 16م، تاريخ انفجار ظاهرة الاكتشافات الجغرافية في سياق تبلور النظام المركنتيلي الذي اجتاح أوربا مع مطلع العصر الحديث.
لم يكن غريبا أن يشتغل المؤرخون بالبحث في أشكال التفاعل الحضاري بين شعوب المجال المتوسطي وحضاراته، بل وفي بلورة تصنيفات حول الهوية الثقافية لهذا المجال، جسدتها الكثير من الأطاريح الأكاديمية حول الموضوع، وعلى رأسها المشروع التأسيسي لأطروحة المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل حول البحر الأبيض المتوسط، وهو الذي وجد صدى واسعا له لدى مجمل المشتغلين برصد تحولات «التاريخ الطويل المدى» الذي جعل من المؤثرات الثقافية واللغوية والدينية والفنية المعيشية، أمورا سريعة الانتشار والامتداد عبر كل أصقاع بلدان البحر الأبيض المتوسط.
وجد المغرب نفسه في صلب هذه التحولات «الطويلة المدى»، فاعلا ومؤثرا ومستقبلا ومتأثرا. فكانت له إسهامات مركزية في رسم معالم مجمل التطورات السياسية والحضارية التي عرفتها الضفة الجنوبية للبحيرة المتوسطية، كما استقبلت مجالاته رياح التأثير مما فتح الباب أمام مجالات إدماج العناصر «الواردة» في إطار نظيمة «الأصل». فكانت النتيجة، تبلور معالم هوية متوسطية محلية تظل عنوانا للانتماء الحضاري لعموم ساكنة المغرب، وخاصة بمنطقة الشمال.
في سياق الاهتمام الأكاديمي المغربي المنفتح على خصوبة التركيبة المتوسطية للانتماء المغربي، يندرج صدور الكتاب الجماعي المعنون ب»المغرب والمجال المتوسطي: تاريخ مشترك وتفاعل مستمر»، ضمن منشورات الجمعية المغربية للبحث التاريخي، سنة 2019، بتنسيق للأستاذين بوجمعة رويان وعبد المالك ناصري، في ما مجموعه 288 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب، في الأصل، تجميع لأعمال الأيام الوطنية الرابعة والعشرين للجمعية المذكورة، والتي احتضنتها شعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان. ولقد أوضحت الكلمة التقديمية الإطار العام الذي تندرج فيه سياقات هذا الإصدار، عندما قالت: «لقد أثبتت الكثير من الدراسات في العلوم الإنسانية والاجتماعية أن هناك صلات وثيقة بين المغرب ومجاله المتوسطي، وكان هناك إجماع على أن التاريخ المشترك أسهم بدور كبير في توضيح معالم هذه الصلات، فكان المغرب في خضم ذلك مشاركا في الكثير من فصول هذا الانفتاح الذي كان اختياريا تارة واضطراريا تارة أخرى. إن هذا الواقع الذي صاغه التاريخ ويسرت الجغرافيا تبلوره ملك مشترك لكافة شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط. ولمحاولة إلقاء المزيد من الضوء لتوضيح صورة المغرب في هذا الفضاء، ارتأت الجمعية المغربية للبحث التاريخي… أن تسهم في استحضار هذا الماضي المشترك، لاستشراف مستقبل تنكفئ فيه الصراعات السياسية لصالح التعاون والتكامل بين شعوب هذا الفضاء المتوسطي، في أفق وضع أسس متينة لعلاقات يطبعها التعايش والتساكن، المفضيان إلى حد التداخل الخلاق الذي يرنو إلى تحقيق تنمية تخدم الإنسان وتحمي المجال…» (ص. 6).
تتوزع مضامين الكتاب بين محورين متكاملين، احتوى أولهما المعنون ب»أوجه التماثل والتفاعل في المجال المتوسطي»، على دراسة لمليكة الزاهدي حول تاريخ المتوسط المشترك بصيغة المؤنث من خلال نموذج شخصية مارتي فرانسيشيني أو «للا الضاوية» زوجة السلطان محمد بن عبد الله (1757- 1790)، ودراسة لأنس الفيلالي حول المشترك الموسيقي بين المغرب والعالم المتوسطي خلال العصر الوسيط، ودراسة لمحمد دروا حول عناصر التلاقح الثقافي المتوسطي انطلاقا من متع «الكلمات المتقاطعة». ومن جهته، اهتم محمد المنتفع بموضوع تماثل الأطعمة الغذائية وفنون الطبخ بين المغرب والمجال المتوسطي خلال العصر الحديث. وتوقف عبد العزيز الطاهري عند موضوع صورة الإسلام والمغرب في ذاكرة شمال المتوسط. وعاد محمد أبرهموش للنبش في موضوع الاستغاثة بالموتى في المغرب وأوربا خلال فترات الأزمات، مركزا على نموذج تداعيات وباء الطاعون الأسود الشهير.
وفي القسم الثاني من الكتاب والمعنون ب»الفضاء المتوسطي عبر التاريخ»، نجد دراسة لحميد عرايشي للنبش في المقاربات والأطروحات والإشكاليات المنهجية الخاصة بذكر موريطانيا، أو «المغرب القديم»، في الإسطوغرافيا المعاصرة. واهتم خالد سرتي بالبحث في واقع جزر البليار باعتبارها نافذة للمغرب المرابطي على المجال البحري المتوسطي. واهتم عبد الرحمن بشير بموضوع الحضور المغاربي بجنوب فرنسا خلال العصر الوسيط. وعاد مصطفى غطيس للبحث في قضايا السفر وظروف الملاحة في البحر المتوسط من خلال كتابات رحلية مغربية، واهتمت زينب حمودة بتشريح مكونات الفضاء العام للمجال الطنجي باعتباره أرضية لتلاقح الثقافات المتوسطية. وختم امحمد بنعبود مضامين الكتاب بدراسة، باللغة الإنجليزية، ساهم –من خلالها- في تقديم رؤية تركيبية للأبعاد الجيوستراتيجية لتطور تاريخ المجال المتوسطي.
وبهذه المواد الثرية، استطاع الكتاب تقديم نتائج آخر الاجتهادات الأكاديمية ذات الصلة بالأبعاد الحضارية للمجال المتوسطي، كانتماء وكهوية وكحضارة وكثقافة، وقبل كل ذلك، كمصير مشترك بالنسبة لأجيال اليوم والغد.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 16/04/2022