النقاش الفلسفي الديني الحديث نقاش مفتعل
راكم الباحث والمفكر والناقد الجمالي إدريس كثير في مساره الفكري والبحثي ، تجربة نقدية وفكرية تترجمها غزارة إنتاجاته في الفكر الفلسفي والترجمة والجماليات وفي عدة حقول معرفية، التي نذكر من بينها: “أسئلة الفلسفة المغربي” و”آفاق ومفارقات فلسفية” و”في الحاجة إلى إبداع فلسفي” و “بلاغة الفلسفة..” و “هشاشة الفنون المغربية” و “نحو الفلسفة” و “البيان الفلسفي” و “بديع الجمال الإنساني” و”رسائل فيما بعد الحداثة”.
في هذا الحوار، نطرح مع الدكتور إدريس كثير واقع الدرس الفلسفي اليوم، المسافة التي اتخذها المثقف من العمل السياسي، بالانخراط أو التراجع، الترميق الثقافي أو «البريكولاج»، ومساهمة الفضاء الأزرق في تعويم الخطاب الثقافي، وهل من مداخل لإعادة الوهج إلى السؤال الفلسفي المحرّض.
p هل لا تزال الفلسفة بالمغرب تتمتع بالجاذبية نفسها بعد أن عقدت الدولة ما يشبه تصالحا مع تدريسها، وبعد تراجع قيمة الفكري والسياسي اليوم؟
n لنفحص أولا لماذا تراجع الفكر السياسي النقدي بالمغرب؟
في اعتقادي المتواضع إن انتقال السلطة سياسيا من الراحل الحسن الثاني إلى الملك محمد السادس، وقد تم الانتقال بإشراف سياسي معارض هو الأكثر نقدا لسياسة الملك الراحل، كان إعلانا عن براغماتية جديدة في المغرب.هذه السلطة الجديدة عملت على استقطاب كل الفعاليات السياسية و الثقافية، بما فيها القوى الأكثر جذرية، سواء من الجهة اليسارية أو الجهة الإسلاموية.وكانت المشاركة في التدبير السياسي هي عنوان المرحلة.وبسبب هذا الانخراط العام لم يجد الحراك المغربي قيادة تقوده وتوجهه، فاستوعبته هو الآخر الإصلاحات الدستورية وتلك المتعلقة بالأحوال الشخصية ومدونة الأسرة…وإذن تلاشت وانتفت المعارضة السياسية بين عشية وضحاها، وبرزت قيم منافية للمعارضة الناقدة والمحرّضة وسادت الانتهازية والزّلفى والوصولية. إذا أضفنا إلى هذا ضمور واضمحلال الإيديولوجيا كفكر ورؤيا بعد سقوط جدار برلين، واندثار الاتحاد السوفييتي وجنوح الصين الليبرالي ..سيتضح لنا مدى هول الشعور بالأسى والعبثية و اللاجدوى ودفع اللامبالاة إلى احتلال الصدارة في مواقف المثقفين والنخبة.
من المواقف الدالة على ضمور علاقة الفلاسفة المغاربة بالعمل السياسي نذكر حدث إسقاط عبد الله العروي في الانتخابات البرلمانية 1977 ، واعتزاله بعد ذلك واستقالة محمد عابد الجابري من المكتب السياسي لأكثر من مرة حتى قبلت آخرها سنة 1981وتجميد محمد سبيلا لنشاطه السياسي الحزبي …يبدو أن السياسة ـ على الأقل كما تمارس في المغرب ـ لا تتلاءم والفلسفة لأن هذه الأخيرة هي النقد بامتياز ورفض الدوغمائية والصنمية، وهي إزعاج الآخر «كذبابة سقراط» ، ورفض التطبيع مع البلادة والبلاهة…بسبب هذه المميزات كانت الدولة تقمع وتمنع الفلسفة تارة، وتارة أخرى تناوشها بمواد مجاورة لها كالتربية الإسلامية والدراسات الإسلامية، وأحيانا تغض الطرف وتقضي حاجتها بتركها.
إن الذين يعملون جاهدين على قبر الفلسفة الآن ليست هي الدولة إنما هم أعداؤها التاريخيون من أصوليين وإسلامويين بسبب «المعتقد»علما بأن الفلسفة لا تخالف المعتقد، ولا تمسه بسوء إنما تهاجم الدوغما وإبداء الرأي والدوكسا التي تشوهه. أما الذين يئدون الفلسفة في مهدها فهم بعض أصحابها «و ظلم ذوي القربى أشد مضاضة» لا لشيء إلا لأنهم يبحثون عن البسيط في الفهم. هذه التبسيطية في الشرح والتسطيحية في التبليغ هي التي تقتل روح الفلسفة .ولأنهم لا يقرأون ويكتفون بما هو شائع ولا يبحثون ويقتصدون بحث غيرهم في التبليغ ويجعلون من الفلسفة لازمة تتكرر في كل فصل ووقت. وفي مرافق أخرى يريدون مجاراة التطورات الطارئة على الفلسفة لدى الآخر وركوب الصعاب في مساءلة العلوم والبيولوجيا والإيتيقا والرقميات دون إدراك واقع الحال لديهم، ودون مساءلة أنفسهم وشرطهم الفلسفي. حصيلة هذا الواقع أنها لا تمتّ للفلسفة بشيء، دروس نمطية في الثانوي ومحاضرات ماراطونية في الجامعة. وبينهما هناك اجتهادات ضئيلة، سواء على مستوى الترجمة أو على مستوى الكتابة الفلسفية ..طبعا لا نغمط حق خميرة تجتهد ديداكتيكيا على مستوى الثانوي وأخرى أكاديميا لا تني ولا تفتر تقدم الجديد على الصعيد الفلسفي. جاذبية الفلسفة تتوقف على هذه الخميرة لمّا تبدع في الفلسفة، لا باعتبارها مادة تدريسية، ولا باعتبارها مادة أكاديمية وإنما باعتبارها إبداعا للمفاهيم وللتصورات.
شعلة الفلسفة تكمن في الفلسفة ذاتها، يجب إذكاؤها والمحافظة عليها وهّاجة في وجه الظلاميات المختلفة.
p أخذ موضوع علاقة الدين بالفلسفة حيزا هاما من النقاش لعقود. ألا يبدو هذا الأمر متجاوزا الآن، وأن النقاش يجب أن ينصب على إشكالات أكثر جوهرية كالدولة والحق وتجديد العقد الاجتماعي، بالنظر إلى التحولات التي يشهدها العالم خاصة أن الحديث يدور اليوم عن تكريس مفهوم الدولة الاجتماعية ؟
n صراع الدين والفلسفة ليس وليد الآن. لنا في تاريخ الفلسفة الإسلامية مجادلات ونقاشات وصراعات عديدة تجسدت وتمحورت حول مفهوم الخلافة: خلافة النبي محمد (ص).فالفرق الكلامية (الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة والأشاعرة) تركت لنا متنا كلاميا (علم الكلام هو الدفاع عن الشريعة بالحجج العقلية والنقلية) غنيا حول شروط الإمامة ومقتضيات الخلافة والحكم على مرتكب الكبيرة، والجبر والاختيار، والعقاب و الثواب والعدل الإلهي.. يمكن اعتبار هذا المتن اللاهوتي الكلامي الآن متنا في الفلسفة السياسية بمعناها الحديث وهي المجادلة في قضايا طبيعة الحكم السياسي ومسألة العدالة والانتخابات والتدبير السياسي .النقاش الفلسفي الديني الحديث نقاش مفتعل، منذ الإخوان المسلمين. يريدون الجواب عن إشكالات عصرهم بالعودة إلى أجوبة الماضي وحلول هذا الماضي. وهذه السكيزوفرينيا لا يمكنها إلا أن تنتج كآبة تراجيدية . هي بالضبط ما تسببوا فيه من إرهاب منذ قيام دعوتهم إلى الآن. النقاش الحقيقي للمسألة الدينية هو الذي ينطلق من الفصل بين الشأن الديني والشأن السياسي.الدين هو السلوك القويم للمتدين مع نفسه (الأخلاق) ومع الآخر(المعاملة) ومع الله (العبادة)، أما السياسة فهي صراع مصالح الناس الدنيوية . الدين المعاملة . السياسة المناورة. تأمل أشكال المناورات السياسية (أي التدبير السياسي لأمور الناس)هو موضوع الفلسفة السياسية من حيث هي دراسة للمسائل المتعلقة بالسلطة السياسية والدولة والحكومة والقوانين …
لا يمكننا مقاربة هذه الموضوعات بمفاهيم لاهوتية قديمة ولا بإشكالاتها كما وضعت في حينها..إن الدولة الاجتماعية أو دولة الرعاية الاجتماعية (برفيدونس) شكل جديد من أشكال الدولة فرض كتدبير بسبب أنظمة التقاعد والرعاية الاجتماعية لذوي الحاجات الاجتماعية وإشكالية المرأة …يتطلب من ذوي الاختصاص احتساب المعاملات الاقتصادية والاجتماعية القمينة برفاه المواطنين في ترابهم الوطني.للأسف خارج الدراسات القانونية والحقوقية والسياسية لا نملك من الدراسات السوسيولوجية إلا القليل والذي لا يواكب تطور الموضوعات وتواترها (ربما بسبب إغلاق معهد السوسيولوجا 1960/1970). نكاد لا نملك ما يمكن إحصاؤه من الدراسات المتصلة بالفلسفة السياسية بالمغرب إلا نادرا..
p الدرس الفلسفي اليوم أصبح مجرد خطاب ثقافي يكتفي بشرعنة الخطاب السياسي والتحليل العائم. لماذا في نظركم ولصالح من تميل كفة هذا التراجع، وهل من مداخل لإعادة الوهج إلى السؤال الفلسفي المحرّض؟
n الاستقطاب والاستيعاب الذي مارسته البراغماتية المشار إليها في السؤال الأول لم تكن له آثار سلبية على المستوى السياسي فقط :تدجين أحزاب اليسار ودفعها للانخراط في اللعبة السياسية من موقع الضعف لا من موقع القوة، بل كان له آثار فادحة على المستوى الثقافي .استوعبت هذه الذرائعية كل ما يمكن استيعابه..فأنتجت لدى البعض حالة من اليأس والتبرم واللامبالاة …وأفردت عند البعض الآخر حمّى الانخراط في ما يعود على النفس بالنفع في المناصب والمنابر والمجتمع المدني و التقرب من أصحاب القرار، فسخروا أقلامهم في ما يرضي مطامعهم وانتظاراتهم….
ثم هناك عاملان اثنان ساهما في هذا التسيب الثقافي :الأول هو هجرة الأقلام المغربية إلى مجلات ومنابر مشرقية سخية والثاني هو تعويم الخطاب الثقافي وابتذاله في وسائل الاتصال الاجتماعية.في العامل الأول وكأن المثقفين المغاربة غادروا ساحة المعركة الثقافية الوطنية لخوض المعركة بالنيابة في ساحة عربية أخرى، جريا وراء مستحقات مادية لا غير.في العامل الثاني هم الذين وصفهم أمبرطو إيكو:” بالأغبياء الذين عوّضوا دردشة الخمّارات ونقلوها إلى الحائط الأزرق وزقزقة العصافير (تويتر)، ومحركات التواصل الرقمي وكيف الحال(واتساب)…هذا عن لماذا ؟ وكيف أصبح الخطاب الفلسفي بالنيابة أي لا يعبر أصالة عن نفسه. أما من يستفيد من هكذا وضع، فأولا الترميق (بريكولاج) الثقافي وثانيا الجهل، ثم كل الأعداء القدامى والمحدثين وكل من من مصلحته أن يبقى المجتمع في غياهب الاتكال والخرافة وغياب الذوق. فالبراغماتية رغم كونها فلسفة فهي لا تؤمن سوى بالمصلحة :”معنى العبارات لا يكمن إلا في نتائجها العملية”، ومعنى الحياة لا يوجد سوى في ما نجنيه منها من ربح ومنفعة. لا يمكن للحال أن يبقى على حاله إلى الأبد.. ولا بد لتلك الخميرة التي ألمعنا إليها سابقا أن تأتي أكلها في اللحظة المناسبة، ولا بد للتاريخانية أن تنتصر في آخر المطاف لأن قانون حركة الأجيال والأفكار والحضارات هو التطور والتجاوز ونفي النفي..لذا لا يمكن رسم سيناريوهات لما سيكون عليه المآل فلسفيا في المستقبل. ولكننا مع ذلك لا نشتم الآتي.