المفكر والباحث الجمالي إدريس كثير: الثقافة المكرورة تجتر ذاتها إلى حد البلادة

بين القطيعة والاستمرارية، يتحدد الموقف من الحداثة

راكم الباحث والمفكر والناقد الجمالي إدريس كثير في مساره الفكري والبحثي ، تجربة نقدية وفكرية تترجمها غزارة إنتاجاته في الفكر الفلسفي والترجمة والجماليات وفي عدة حقول معرفية، التي نذكر من بينها: “أسئلة الفلسفة المغربي” و”آفاق ومفارقات فلسفية” و”في الحاجة إلى إبداع فلسفي” و “بلاغة الفلسفة..” و “هشاشة الفنون المغربية” و “نحو الفلسفة” و “البيان الفلسفي” و “بديع الجمال الإنساني” و”رسائل فيما بعد الحداثة”.
في هذا الحوار، نطرح مع الدكتور إدريس كثير واقع الدرس الفلسفي اليوم، المسافة التي اتخذها المثقف من العمل السياسي، بالانخراط أو التراجع، الترميق الثقافي أو «البريكولاج»، ومساهمة الفضاء الأزرق في تعويم الخطاب الثقافي، وهل من مداخل لإعادة الوهج إلى السؤال الفلسفي المحرّض.

p ثقافة المطابقة والتشابه التي ولدها مجتمع الاستهلاك تقتل الاختلاف وتصطدم بمحلية القيم والأخلاق.هل يمكن أن نتحدث والحالة هذه عن ازدهار قيم العقلانية والنقد مقابل تسييد البلادة؟

n الثقافة التي تنتج التطابق والتشابه ليست صنيعة المجتمع الاستهلاكي فقط، علما أن هذا الأخير في تطابقاته يعتمد التكرار والنمطية في منتوجاته. فالماركة المسجلة هي تلك التي تعاد صياغتها بنفس المقاس ونفس الشكل:كإنتاج سلسلة من السيارات المتشابهات أو بيع زمرة من المتماثلات من النقانق أو عرض المسلسلات الطويلة في حلقات كالمأكولات السريعة، والميل إلى ما هو ترفيهي في الثقافة كالوصلات الغنائية السريعة والسكيتشات واللقاءات الثقافية المضايقة بالضغط الزمني والاشهار المجاني… إنما هي أيضا من المجتمع الجاهل المنتج لما يشبه الثقافة التي تعتمد التقليد والمحاكاة والاقتباس. الثقافة المكرورة هاته تجتر ذاتها إلى حد البلاهة والبلادة ، وتخشى الاختلاف لأن المغايرة خروج عن الطريق المتبع في اعتقادها وخروج عن التقليد . الجهل هنا لا يطابق الأمية بقدر ما يرتبط بعدم الاطلاع على «ما هو متوفر ومتاح للبشرية».أنصاف وأصناف من المتعلمين لا يستطيعون القيام بخطوة في مغامرة ثقافية أو فلسفية حضارية غير محسوبة النتائج بمقياس قيم وأخلاق تليدة لا تستجيب للعصر ولا لمتطلباته.الاتباع هو منهجهم والسلف الصالح هو صلاحهم .لا يعتمدون العقل من حيث هو نبراس ينير ويستكشف الطريق غير السالكة ، يعتمد الذاتية والفردانية لا الجماعة وغالب الظن، يشك ويسائل ويبحث ليجلو مثبطات طريق البحث وليحصل على القاسم المشترك بين الناس .إنه بتوتراته وشكوكه من إخوان الشيطان في نظرهم.في مجتمع ينظر لواقعه ومستقبله بعيون السلف لا تكون نظرته استشرافية بل استرجاعية، ولا تجد العقلانية موطئ قدم لها فيه لأن الخرافة والاتكال هما مفتاح ما استغلق واستعصى.
جماع هذه الخصائص اللاعقلانية هو البلادة و الرداءة. لقد جعل نيتشة من مهام الفلسفة “إلحاق الأذى بالبلادة” وليس المقصود بها الخطأ ولا الغلط ولا حتى المستوى الأدنى من الذكاء، بل المقصود إنما هو “طريقة منحطة في التفكير”و على الفلسفة التشهير بها وفضحها أينما حلت وارتحلت.

p الولوج إلى الحداثة وتدبير علاقتنا بالآخر والعالم ،هل يمكن للقطائع أن تجسره،أم أن إرث التراث والتاريخ يعيقان هذا الهدف؟

n أعتقد بداية أن علينا حسم إشكالية الأصالة والمعاصرة أو التراث والحداثة. ولنعد في الأمر إلى فلاسفتنا.أقصد عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري. مواقفهما من ذات الإشكالية متعارضة.الأول يعتبر التراث من الماضي ولّى وانصرم، ويجب القطع معه.مع أسئلته وأجوبته لأنها من الماضي ولا يمكنها معالجة إشكالاتنا الراهنة، ولا يسعنا سوى تحمل هذا الإرث كذاكرة وتاريخ. وعلينا تحقيق قطيعة معه لا رجعة فيها. أما الثاني فيعتبر التراث رغم كونه من الماضي مازال قائما بيننا ويجب بعد دراسته ونقده الاستفادة منه، ومما هو مشرق فيهو سابق لعصره. ويمكن لدروسه أن تفيدنا في ما نحن فيه أو عازمون عليه.
بين القطيعة والاستمرارية يتحدد الموقف من الحداثة المرجوة وكذا من الحداثة الغربية.
هذه الأخيرة لمعت فلسفيا مع ديكارت و مع الكوجيطو “أنا أفكر إذن أنا موجود”، وشعريا مع بودلير”البحث عن الجمال فيما هو زائل لبلوغ الدائم جماليا” ثم استقلال العلوم عن الفلسفة بتحديد موضوعها ومناهجها .استقلت الفلسفة الحداثية بهذا الموقف العقلاني عن اللاهوت والدين.فبالتركيز على الذات الإنسانية والعقل الإنساني والقدرة على التفكير واعتماد العلوم في تفسير الظواهر في ما سمي بالتنوير ابتعدت الحداثة الغربية عن تصورات الكنيسة العتيقة. في نفس السياق (ديكارت) يمكن القول إن ابن رشد حقق نفس المطلب لما ربط الصلة بين الله المتعالي والعالم الدنيوي عن طرق العقل الفعال.[ ألم ندرك ذلك في حينه؟…]
ستتطور الحداثة الغربية مع تطور مجتمعاتها وستعرف مراحل كبرى في سياقاتها: المرحلة الصناعية، المرحلة التكنولوجية والمرحلة الرقمية..وستتكيف مع مستجداتها وتغتني بمكاسبها إلى أن استنفدت مهامها، أو كادت لتظهر صيغة أخرى من صلبها سميت بما بعد الحداثة (للإشارة أول من استعمل هذا المصطلح في النقد الأدبي هو المصري حسن إيهاب في كتابه “تقطيع أوصال أورفيوس . نحو أدب ما بعد حداثي”. 1971) ما بعد الحداثة استوعبت الحداثة وأضافت إليها ما لم تستثمره في مسيرتها. تاريخنا الفكري لا يمكنه أن يعرف نفس المسار.”لأن الحداثة الغربية هي جماع منظومة فكرية تحققت تاريخيا في المجتمع الغربي الحديث ولم تتحقق لا قبله ولا في غيره من التجارب وقد تحققت موضوعيا في المجتمع الأوربي الحديث بالتحديد”. فما السبيل الى تحقيق حداثتنا؟ هل نبقى على استمرارية الماضي في حاضرنا أم نقوم بالقطيعة معه؟ القطيعة لا تعني التنكر للماضي وللإرث فهو ذاكرتنا، لكن إشكالاته لم تعد هي إشكالاتنا وأجوبته لا يمكنها أن تكون صالحة لنا. فالتاريخانية تفرض هذا النوع من الزمنية لا التزامن.”القطيعة التاريخية حاصلة في واقعنا بفعل الاستعمار، يجب الاعتراف بها والانطلاق منها.” ولكي نؤسس حداثتنا لا تكفي القطيعة ولا الاستمرارية، ولا تكفي التاريخانية ولا تدخل الدولة ولا المجتمع المدني، بل لا بد من معرفة حداثة الآخر واختبارها في أهم عنصر من عناصرها ألا وهو “الاعتراف”المتجلي في مفاهيم “الآخر” و”الغيرية” و “الاختلاف”..تلتبس حداثة فلاسفة الاختلاف (ليفيناس،ليوطار، ديريدا)حين تفكر في الفلسطيني الآخر المختلف. ليفيناس ينفي أن يكون الفلسطيني هو آخره ويعدم له”صفة الوجه” الذي يمنع أي نوع من القتل ويرتبك حين يواجه بمثل هذه الأسئلة. ويعتبر ليوطار أن “المختلف” هو العجز عن الحديث لوصف الهول الذي وقع لليهود (المحرقة) “، وهو نزاع لا يمكن حله بسبب غياب قاعدة حكم فاصلة بين طرفي النزاع”. أليس ما يحصل الآن في القطاع و الضفة الغربية “محرقة جديدة”؟ و يصاب ديريدا بالحرج ويتحدث عن المستحيل الذي لا يمكن تفكيكه بين الأنا (اليهودي)و الآخر(الفلسطيني).حدود هذه الحداثة وما بعدها أي وعيها الشقي بلغة الخطيبي هو المنفذ الذي يسمح لنا بالمساهمة من جهتنا كآخر في الحداثة.

p توهج الفكر الفلسفي المغربي ارتبط منذ مدة بالمشاريع المقدمة من طرف رواد الدرس الفلسفي المغربي بمختلف مرجعياتهم:الجابري ،سبيلا،طه عبد الرحمن،الحبابي.. هل يمكن اليوم الحديث عن مشروع فلسفي واضح المعالم يشتغل عليه المهتمون بالدرس الفلسفي؟

n المشاريع الفلسفية الكبرى التي ألمحت إليها:”الشخصانية “ للحبابي، و»مشروع رؤية جديدة للتراث» للجابري، و»الحداثة و التاريخانية»للعروي، و»التداولية الإسلامية»لطه عبد الرحمن، و “الحداثة و ما بعد الحداثة” لمحمد سبيلا… كلها تقريبا بدأت بكتابات جزئية ودروس جامعية، محاضرات مقالات ثم انضمت إلى كتاب.هذا شأن “التراث و الحداثة”و شأن”مدارات الحداثة”.
هذه المشاريع توهجت في ظرفية ملائمة للتوهج والإشعاع .فالحبابي كان الفيلسوف المغربي الوحيد في زمانه والجدال الشرس الذي دارت رحاه على صفحات ملحق جريدة «المحرر» بين العروي و الجابري مازال ماثلا أمام أعيننا، و النقد اللاذع الذي كال العروي لطه عبد الرحمن شاهد على هذا التوهج الفلسفي. الظرف الآن تبدل كما أشرت إلى ذلك سابقا و المشاريع الفلسفية الكبرى تحتاج إلى تراكم و إلى فجوات وقطائع وانفتاحات فكرية ليسهل أمر بزوغها..كل من يجتهد في المجال الفلسفي إلا ويحمل طي كتاباته و لو بطريقة غير مخطط لها إرهاصات مشروع فلسفي قد يرى النور وقد لا يراه.
كان هايدجر حين يسأل عن نسقه الفلسفي، ينفي وجوده . أو يقول:”حتى و إن وجد هذا النسق فهلا لا يهمني. ما يهمني هو إعادة النظر في الأسئلة التي وضعت سابقا والبحث لها عن مقاربات مغايرة”.
الفلسفة من حيث هي نسق لا تاريخ لها، فهي تعيد تكرار نفسها وأسئلتها من داخلها باستمرار. وإن طرأ وتغذت من خارجها، فلكي تنمي ذاتها أساسا.


الكاتب : حاورته: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 01/09/2023