المفكر والفيلسوف محمد سبيلا .. فارس الحداثة وحارس الأنوار -17-

رحل عنا المفكر الكبير، والمناضل الاتحادي الأصيل، محمد سبيلا . وبرحيله، يفقد النضال الديموقراطي الذي أعطاه الفقيد أزهى أيام عمره والفكر الحداثي الذي اهداه عصارة عقله وتفكيره فارسا شهما دافع باستماتة عن أفق إنساني رحب وقيم كونية في خدمة المغرب الحر ، منذ فجر الاستقلال، كما يفقد المغرب والعالم العربي أحد المفكرين الكبار ورائد من رواد الحداثة بالمغرب.
انشغل الراحل، على نحو شامل، بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و»عقلنة» الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. كما كان يرى أن الانتقال الفكري والثقافي هو انتقال بطيء وعسير، أو بعبارة أخرى أن الزمن التاريخي وزمن التحول الاجتماعي يختلف عن الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن بطيء، والانتقال إلى الديمقراطية -الذي يعد رهان العالم العربي- دون الانتقال إلى ثقافة الحداثة، لأن هناك اقتباسا فقط لجزء من الحداثة، هو الحداثة السياسية.
وقد كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة «أقلام» و«آفاق الوحدة» و«الفكر العربي المعاصر» و«المستقبل العربي». كما ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة «مخاضات الحداثة» و«في الشرط الفلسفي المعاصر» و«حوارات في الثقافة و السياسة» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«الأصولية والحداثة»، وترجم كتاب «الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» للويس ألتوسير، فضلا عن «التقنية – الحقيقة – الوجود» لمارتن هايدغر، و«التحليل النفسي» لبول لوران أسون، و«التحليل النفسي» لكاترين كليمان.
في ما يلي، نعيد نشر مجموعة من المقالات والحوارات التي أنجزها الراحل، ونشرها في مجموعة من المنصات المغربية والعربية، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عنه وعن فكره..

 

التحولات الفكرية الكبرى للحداثة مساراتها الإبستيمولوجية ودلالتها الفلسفية (3)

 

التفسير السوسيولوجي يرجع نشأة الحداثة إلى الدور الفاعل للمنشأة الرأسمالية والإدارة البيروقراطية كمؤسستين عقلانيتين، عقلنت أولاهما العملية الاقتصادية، وعقلنت الثانية نظام تسيير المجتمع. يرى ماكس فيبر أن هناك علاقة داخلية حميمية بين العقلانية والحداثة. وإذا كانت العقلنة اتخذت طابعا مؤسسيا منظما في الاقتصاد والإدارة، فإنـها مع ذلك عملية شاملة اكتسحت المجتمع الغربي كله. وقد أدت عملية نزع الطابع السحـري عن العالم إلى تفكيك التصورات التقليدية وتولد ثقافة دهرية من طلب المسيحية نفسها. وفي سياق هذه العملية تطورت العلوم التجريبية، واستقلت الفنون، وتشكلت دوائر الثقافة خاضعة لمعايير داخلية خاصة مرتبطة بالممارسة17. وبعبارة أخرى، وأخذا بتأويلات هابرماس لنظرية الحداثة عند فيبر، فإن العقلنة لم تقتصر على إضفاء طابع دنيوي على الثقافة، بل دفعت أساسا إلى تطور المجتمعات الحديثة. لقد تمايزت البنيات الاجتماعية الجديدة، وتباينت المجالات الثقافية متمحورة حول مركزين ناظمين ومنظمين لنمط الحياة الجديدة وهما النشأة الرأسمالية والجهاز البيروقراطي للدولة، اللذين هما مركزان متنافذان من الناحية الوظيفية. وقد اكتسحت الأنشطة العقلانية بالقياس إلى غاياتـها في مجالي الاقتصاد والإدارة الحياة اليومية، وأشكال الحياة التقليدية، تلك التي كانت متمحورة حول التنظيمات الحرفية، وفككتها بالتدريج كبنيات وكثقافة18.ومن ثمة الأهمية القصوى والحاسمة لكل من الاقتصاد والسياسة في المجتمع الحديث.
يربط ماركس نشأة الحداثة بالرأسمالية كنظام اقتصادي، وبالبورجوازية كقوة بشرية تحديثية. ففي “البيان الشيوعي” يكيل ماركس أعظم المدائح للبورجوازية من حيث أنـها “عندما استولت على السلطة وضعت حدا للعلاقات الإقطاعية والبطركية والعاطفية”، وأدخلت تغيرات ثورية على أدوات وعلاقات الإنتاج، “فهذه الانقلابات الثورية المستمـرة في أساليب الإنتاج، وهذا التزعزع غير المنقطع في النظام الاجتماعي بأسـره، وهذا القلق والاضطراب الدائبان، كل ذلك يميز عصـر البورجوازية عن العصور السالفة كلها”. إن سائر العلاقات الاجتماعية المتوارثة، الجامدة المتجلدة، وما تجره وراءها من مواكب الأوهام والأفكار القديمة المبجلة تكنس وتندثر، أما التي تـحل محلها فتشيخ ويتقادم عهدها قبل أن يصلب عودها. فكل ما هو صلب يتبخر، وكل ما هو مقدس، يدنس”. بل إن “البورجوازية تجتاح الكرة الأرضية بأسرها، تحثها الحاجة إلى الأسواق الجديدة دائما”. لقد أخضعت البورجوازية الريف للمدينة، وخلقت مدنا عظيمة، وزادت بصورة مفرطة سكان المدن على حساب سكان الأرياف وبذلك انتـزعت قسما كبيرا من السكان من بلاهة حياة الحقول.
وقد خلقت البورجوازية قوى منتجة أكثر عددا وأعظم جبروتـا كما خلقت سائر الأجيال مجتمعة. فقد قامت بإخضاع قوى الطبيعة والآلات وتطبيق الكيمياء على الصناعة والزراعة والملاحة بالبخار، والسكك الحديدية، والبرق الكهربائي وعمران قارات كاملة، وحفر القنوات للأنهار. وفي عهدها اتحدت مقاطعات بكاملها بمصالحها وقوانينها وحكوماتـها وتعريفاتـها الجمركية المختلفة واجتمعت في أمة واحدة وفي مصلحة وطنية وطبقية واحدة وراء حبل جمركي واحد19.
وعلى وجه العموم فإن المادية التاريخية ترجع التحولات الاجتماعية إلى التناقض بين علاقات الإنتاج القائمة وقوى الإنتاج الجديدة، إلا أن ماركس في هذا النص من “البيان” يسند إلى البورجوازية، بروحها الثورية الإدارية المغامرة، كل التحولات الكبرى التي شهدتـها أوربا بالانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، مما يجعل موقف ماركس في هذه المسألة مراوحا بين إيلاء الأولوية في التغيير للعنصر الإرادي البشري أحيانا وللعوامل البنيوية التقنية والاقتصادية أحيانا أخرى.
هناك نموذج آخر للتفسير مختلف كليا نجده لدى كبار الفلاسفة الذين يرجعون التحولات الكبرى في تاريخ المجتمعات، وفي التاريخ البشـري عامة إلى تحولات فكرية وفلسفية, فهيدجر يرى أن المصادر التاريخية لثقافة ما أو لمجتمع ما يحدده مسبقا فهم كل ما يمكن أن يحصل في العالم20،وهو الفهم الذي يلزم ويوجه كل مجموعة بشرية إلزاما وتوجيها ضمنيا أشبه ما يكون بحتيمية قدرية مضمرة. وهذا الفهم المسبق تتضمنه الميتافيزيقا. فهي التي “تؤسس عصرا وتمنحه من خلال تأويل محدد للموجود، ومفهوم معين عن الحقيقة مبدأ تشكله الأساسي”21.وهذا قانون فلسفي يشمل كل العصور ” فكيفما كانت الطريقة التي يتم بـها تأويل الموجـود، سواء كروح بالمعنى الوارد لدى النـزعة الروحية، أو كمادة وقوة بالمعنى الوارد لدى الاتجاه المادي، أو كصيرورة وحياة، أو كتمثـل، أو كإرادة، أو كقوام جوهري (Substance)، أو كذات فاعلة، أو كطاقة، أو كعود أبدى لذات الشيء، فإن الموجود يظهر كموجود على ضوء الوجود”22.وهذه الفكرة نجدها متداولة في الفلسفة الألمانية منذ هيجل الذي كان قد اعتبر تاريخ الفلسفة مفتاحا لفلسفة التاريخ كما أن تاريخ الغرب الحديث حسب هيدجر يجسد أساسه في تاريخ الميتافيزيقا الغربية، التي تشكل “التاريخ المخفي للغرب”23.
وحتى إذا كان من العسير، من خلال المنظور الهيدجري، أن نرجع نشأة الحداثة إلى “فاعل”، لأن الأمر عنده يتعلق بتحولات قدرية في معنى الموجود وتصور الحقيقة، أكثر مما يتعلق بفعل فاعل، فإن ممن الممكن، من باب المجاز، اعتبار ديكارت (وكذا ليبنتس) هو بطل الحداثة ورائدها. علـى الرغم من أن هيدجر يتتبع جذور نشأة العقلانية الحديثة إلى التحول الذي حدث مع أفلاطون، والذي تجسد في الانتقال من الفيزيس إلى الايدوس. ففلسفة ديكارت تجسد هذا التحول الكبير الذي دشن مطلع العصور الحديثة وجعل الذات “مركزا ومرجعا للموجود بما هو كذلك. وذلك لم يكن ممكنا إلا بشروط تحول معنى الوجود كليا (…) إذ أصبح ينظر إلى الموجود في كليته على أنه لا يوجد حقا، ولا يكون موجودا إلا إذا كان محط تمثل وإنتاج (…). وأصبح يُبحث عن وجود الموجود ويعبر عنه في الوجود ـ المتمثل للموجود”24.
يربط هيدجر إذن نشأة الحداثة بالحدث الفلسفي المتمثل في جعل الذات مركزا ومرجعا. لكن مضمون هذه الذات المرجعية هو العقل والإرادة، وهو كونـها عقلا حاسبا وحسابيا بالمعنى اللاتيني لكلمة Ratio. هذا العقل الحسابي ـ الأداتي ـ حسب تسمية رواد مدرسة فرنكفورت، يجد تعبيره في العلم كمنظور حسابي وكمي للأشياء المدركة والقابلة للاستعمال25،وفي التقنية كتحريض للطبيعة وإرغام لـها على أن تسلم طاقتها وتكشف أسرارها.
يبدو من خلال استعراض المواقف المختلفة من مسألة فواعل الحداثة أنه حتى وإن اختلفت الفئات ومن ثمة المؤسسات التي يكل إليها المفكرون دورا مولّدا أو محركا للحداثة (الرأسماليون، الإداريون، المثقفون، الساسة، العسكر…إلخ) فإنه يكاد يكون هناك نوع من الإجماع على تبلور ثقافة عقلانية شكلت الأرضية الفكرية والإيديولوجية الحافزة على انطلاق مخاض الحداثة.

السمات الفلسفية

يربط العديد من الدارسين نشأة الحداثة بمبدأ الذاتية. وهذا المفهوم متعدد الدلالات فهو يشكل مضمون ما سمي بالنـزعة الإنسانية. ومن ثمة فهو يعني مركزية مرجعية الذات الإنسانية وفاعليتها وحريتها وشفافيتها وعقلانيتها. كان هذا المفهوم يحيل لدى هيجل على دلالات أخرى يوجـزها هابرماس في أربع دلالات ملازمة :
1 ـ الفردانية، وتعني أن الفرادة الخاصة جدا هي التي لـها الحق في إعطاء قيمة لادعاءاتـها.
2 ـ الحق في النقد، ويعني أن مبدأ العالم الحديث يتطلب أن على كل فرد أن يتقبل فقط ما يبدو مبررا ومقنعا.
3 ـ استقلالية الفعل، فمن خصائص العصور الحديثة تهيؤها لتقبل ما يفعله الأفراد والاستجابة له.
4 ـ الفلسفة التأملية ذاتـها، فمن خصائص العصور الحديثة كذلك عند هيجل أن الفلسفة تدرك الفكرة التي تجتاز وعيا بذاتـها26.
يرى هيجل أن مبدأ الذاتية هذا بدلالاته المختلفة قد فرضته الأحداث التاريخية الكبرى : الإصلاح الديني، والأنوار، والثورة الفرنسية. فمع الإصلاح البروتستاني لدى لوثر أصبح الإيمان الديني مرتبطا بالتفكير الشخصي، وكأن العالم القدسي قد أصبح واقعا مرتبطا بقرارنا الشخصي. فهذا الإصلاح قام على التأكيد على سيادة الذات، وأبراز قدرتها على التمييز والاختيار باعتباره حقا من حقوقها، في حين كان الإيمان التقليدي قائما على ضرورة الإتباع والخضوع للقوة الآمرة للتراث والتقليد. كما أن الثورة الفرنسية وإعلان مبادئ حقوق الإنسان قد فرضت مبدأ حرية الاختيار، بمقابل الحق التاريخي المفروض، كقاعدة أساسية للدولة27.


الكاتب : n محمد سبيلا

  

بتاريخ : 18/08/2021