المفكر والفيلسوف محمد سبيلا .. فارس الحداثة وحارس الأنوار – 18

التحولات الفكرية الكبرى للحداثة مساراتها الإبستيمولوجية ودلالتها الفلسفية – 4 – 

 

رحل عنا المفكر الكبير، والمناضل الاتحادي الأصيل، محمد سبيلا . وبرحيله، يفقد النضال الديموقراطي الذي أعطاه الفقيد أزهى أيام عمره والفكر الحداثي الذي اهداه عصارة عقله وتفكيره فارسا شهما دافع باستماتة عن أفق إنساني رحب وقيم كونية في خدمة المغرب الحر ، منذ فجر الاستقلال، كما يفقد المغرب والعالم العربي أحد المفكرين الكبار ورائد من رواد الحداثة بالمغرب.
انشغل الراحل، على نحو شامل، بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و»عقلنة» الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. كما كان يرى أن الانتقال الفكري والثقافي هو انتقال بطيء وعسير، أو بعبارة أخرى أن الزمن التاريخي وزمن التحول الاجتماعي يختلف عن الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن بطيء، والانتقال إلى الديمقراطية -الذي يعد رهان العالم العربي- دون الانتقال إلى ثقافة الحداثة، لأن هناك اقتباسا فقط لجزء من الحداثة، هو الحداثة السياسية.
وقد كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة «أقلام» و«آفاق الوحدة» و«الفكر العربي المعاصر» و«المستقبل العربي». كما ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة «مخاضات الحداثة» و«في الشرط الفلسفي المعاصر» و«حوارات في الثقافة و السياسة» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«الأصولية والحداثة»، وترجم كتاب «الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» للويس ألتوسير، فضلا عن «التقنية – الحقيقة – الوجود» لمارتن هايدغر، و«التحليل النفسي» لبول لوران أسون، و«التحليل النفسي» لكاترين كليمان.
في ما يلي، نعيد نشر مجموعة من المقالات والحوارات التي أنجزها الراحل، ونشرها في مجموعة من المنصات المغربية والعربية، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عنه وعن فكره..

 

 

هكذا أصبح مبدأ الذاتية محددا في كل مجالات الفعل، ومحددا في كل أشكال الثقافة الحديثة. فالحق والأخلاق أصبحا قائمين على الإرادة الحالية الحاضرة للإنسان في حين أنـها كانت من قبل مدونة ومملاة على الفرد. كما أصبحت الذاتية أساس المعرفة العلمية التي تكشف أسرار الطبيعة بقدر ما تحرر الذات العارفة، فالطبيعة تصبح جملة قوانين شفافة ومعروفة من طرف الذات. وعلى وجه العموم فإن الحياة الدينية، والدولة، والمجتمع، وكذا العلم والأخلاق والفن تبدو جميعا كتجسيد لمبدأ الذاتية. هذا المبدأ الذي يظهر كذاتية مجردة في الكوجيتو الديكارتي أو الوعي الذاتي المطلق لدى كنط28.
ومن زاوية أخرى فإنه يمكن القول بأن الأنشطة المعرفية في مجال العلم والأخلاق والفن كانت قد تمايزت واستقلت معاييرها الداخلية، كما أن دائرة المعرفة كما يقول هيجل، قد تمايزت عن دائرة الإيمان، وكل هذه الدوائر ظلت بمثابة تعبير عن مبدأ الذاتية29.
السمة الأساسية الملازمة للذاتية هي العقلانية بمعنى إخضاع كل شيء لقدرة العقل التي هي بحث دؤوب عن الأسباب والعلل، ومن ثمة الارتباط الحميم لمبدأ السبب أو العلة بمبدأ العقل (Principe de Raison). وهذا المبدأعبرعنه لأول مرة ليبنتس في الصيغة التي تقول لا شيء بدون علة، وبفضله يصبح كل من الواقع الطبيعي والواقع التاريخي معقولا أو عقلانيا (أو قابلا للتفسير) بالنسبة للذات30.هكذا يصبح كل شيء ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏مفحوصا ‎‎‎‎‎ومفهوما بل ومحكوما من طرف العقل. وعبره يتحقق الإنسان من سيادته النظرية على العالم الذي يغدو شفافا وخاليا من الأسرار31.
هذه العقلانية الحسابية الصارمة أو الأداتية سواء في مجال المعرفة العلمية والتقنية أو في مجال الإدارة والتسيير هي شكل من أشكال السيطرة والقوة، ومن ثمة ارتباط العقلانية بالسيطرة سواء تعلق الأمر بالسيطرة الكوكبية للتقنية المنفلتة من عقالها أو بالنـزعة الكليانية السياسية. إن العقلانية الأداتية سيطرت على الطبيعة عبر السيطرة على الإنسان، وسيطرت على هذا الأخير عبر السيطرة على الطبيعة بواسطة التقنية، فالحداثة في عمقها مشروع تندغم فيه بصورة رفيعة إرادة الهيمنة بإدارة التحرر.
ترتبط بالعقلانية الأداتية وما ينتج عنها من سيطرة، سمة فلسفية أخرى أساسية تسم العصور الحديثة وهي غياب المعنى32،وانتفاء المقاصد الغائية الكبرى التي كانت تشد وتزين العالم التقليدي. فنتيجة اكتساح ثقافة الحداثة لكل القطاعات الاجتماعية، وعقلنتها لكل مستويات الوجود الاجتماعي هي خسوف المعاني الكبرى، أوبتعبير ماكس فيبر افتقاد العالم لسحره (Ent zauberung). ورغم أن هيدجر يستعمل مصطلحا آخر (Ent Gotterung) للتعبير عن نفس الفكرة فإنه يجمل في النهاية هذه السمة في لفظ العدمية، ويعني بـها افتقاد القيم العليا لقيمتها، وغياب الأهداف الكبرى، وانعدام الجواب عن السؤال البسيط: لماذا؟33والعدم المعني هنا حركة تاريخية أصيلة وليست رأيا لهذا الفرد أو ذاك وليس حتى ظاهرة تاريخية بين ظواهر أخرى، بل هو بالأحرى، في جوهره، الحركة الأساسية في تاريخ الغرب الحديث34.وغياب المعنى، الملازم للعصور الحديثة، ليس سمة منعزلـة، بل هو الوجه الآخر لانتصاب الذاتية معيارا، ولظفر العقلانية الأداتية التي تشكل “عالما مروضا”، ولانفلات العلم التقني، وتحوله إلى أداة سيطرة على الطبيعة والإنسان، لدرجة يبدو معها أن “غياب المعنى ناتج عـن الطابع النهائي الحاسم لبداية الميتافيزيقا الحديثة”35.
ولعل النعوت التي تطلق على عصرنا هذا عصر الموضة، عصر الفراغ، عصر التفاهة والهشاشة (la médiocrité, l’ephemère) تعكس صدى هذه السمات المتحدث عنها، والتي وازت في نشأتـها تبلور مفهوم الحداثـة نفسه كما نجد ذلك لدى الشاعر الفرنسي بودلير الذي يعرف “الحداثة بأنها ما هو عابر، وفرار fugitif وعارض contingent..” (بودلير: رسام الحياة الحديثة). إلا أن هذا الفراغ الناتج عن غياب المعـاني الكبرى غالبا ما ” يتم ملؤه باستكشاف تاريخي وسيكولوجي للأساطير”36،وباستثمار أقانيم جديدة كالإيديولوجيات اليوتوبية الكبرى الواعدة بالسعادة والحرية والمساواة، والأبطال الجماهيريين لهذا العصر في مختلف المجالات كأبطال الرياضة والسياسة والسينما والغناء والموضة.
الحداثة ومفعولاتـها

تتميز الحداثة بأنها تحول جذري على كافة المستويات: في المعرفة، في فهم الإنسان، في تصور الطبيعة، وفي التاريخ. إنها بنية فكرية كلية. وهذه البنية عندما تلامس بنية اجتماعية تقليدية فإنـها تصدمها وتكتسحها بالتدريج ممارسة عليها ضربا من التفكيك ورفع القدسية.
تستخدم الحداثة أساليب رهيبة في الانتشار والاكتساح. فهي تنتقل كالجائحة في الفضاءات الثقافية الأخرى إما بالإغراء والإغواء عبر النماذج، والموضة والإعلام، أو عبر الانتقال المباشر من خلال التوسع الاقتصادي أو الاحتلال الاستعماري أو الغزو الإعلامي بمختلـف أشكـاله إلى غير ذلك من القنوات والوسائل.
وعندما تصطدم الحداثة بمنظومة تقليدية فإنـها تولد تمزقات وتخلق تشوهات ذهنية ومعرفية وسلوكية ومؤسسية كبيرة، وتخلق حالة فصام وجداني ومعرفي ووجودي معمم. وذلك بسبب اختلاف وصلابة المنظومتين معا. فللتقليد صلابته، وأساليبه في المقاومة والصمود أمام الانتشار الكاسح للحداثة، وطرائقه في التكيف معها ومحاولة احتوائها ؛ كما أن للحداثة قدراتـها الخاصة على اكتساح وتفكيك المنظومات التقليدية، وأساليبها في ترويض التقليد، ومحاولة احتوائه أو استدماجه أو إفراغه من محتواه. فالصراع بين المنظومتين صراع معقد وشرس بل قاتل. وقد سبـق لي أن تحدثت في مكان آخر عن العلاقة الاستعارية بين التقليد والحداثة. فكثيرا ما يتلبس التقليد لبوس الحداثة ليتمكن من التكيف والاستمرار بينمـا تتلبس الحداثة بالتقليد أحيانا لتتمكن من أن تنفذ وتفرض نفسها. وهذا التزاوج نشهده في كافة مستويات الكل الاجتماعي، نشهده في التلاقح بين منظومتي القيم،وفي المستوى الإدراكي، والسلوك الفردي،في المعرفة،في الاقتصاد وفي السياسة. ففي المجال السياسي مثلا يحصل تمازج بين مصدرين للشرعية السياسية: الشرعية التقليدية المستمدة من الماضي، والتراث والأجداد، وشرعية المؤسسة العصرية القائمة على أن الشعب هـو مصدر السلط. وهذا التمازج والاختلاط يطال الخطاب السياسي والإيديولوجي، والسلوكات السياسية، ويطبع المؤسسات السياسية، والثقافـة السياسية برمتها. وهو على الرغم من كل مظاهر التعايـش تمازج صراعي في عمقه.
هذه الحالة البينية هي حالة طويلة الأمد إذ أنها لا تحسم بتحويل إرادي للمؤسسات أو للمنظومات القانونية بل عبر تحولات بعيدة المدى. وانتقال منظومة ثقافية تقليدية إلى الحداثة هو في الغالب انتقال عسير مليء بالصدمات الكوسمولوجية، والجراح البيولوجية أو الخدوش السيكولوجية للإنسان، وكذا بالتمزقات العقدية لأنه يمر عبر “قناة النار”، أي عبر مطهر العقل الحديث والنقد الحديث.
وكل ثقافة لم تتجشم مثل هذه المعاناة المرة تظل تراوح مكانها على عتبة الحداثة، وفي عدم قدرة على الحكم على نفسها بسبب عدم قدرتها على رؤية ذاتـها من الخارج، وهذه القدرة لا يمكن اكتسابـها إلا بموضعة الذات وإخضاع المسلمات لمحك العقل والنقد، والحد.

 


الكاتب :  محمد سبيلا

  

بتاريخ : 19/08/2021