من «الحداثات» إلى الحداثة 1
رحل عنا المفكر الكبير، والمناضل الاتحادي الأصيل، محمد سبيلا . وبرحيله، يفقد النضال الديموقراطي الذي أعطاه الفقيد أزهى أيام عمره والفكر الحداثي الذي اهداه عصارة عقله وتفكيره فارسا شهما دافع باستماتة عن أفق إنساني رحب وقيم كونية في خدمة المغرب الحر ، منذ فجر الاستقلال، كما يفقد المغرب والعالم العربي أحد المفكرين الكبار ورائد من رواد الحداثة بالمغرب.
انشغل الراحل، على نحو شامل، بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و»عقلنة» الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. كما كان يرى أن الانتقال الفكري والثقافي هو انتقال بطيء وعسير، أو بعبارة أخرى أن الزمن التاريخي وزمن التحول الاجتماعي يختلف عن الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن بطيء، والانتقال إلى الديمقراطية -الذي يعد رهان العالم العربي- دون الانتقال إلى ثقافة الحداثة، لأن هناك اقتباسا فقط لجزء من الحداثة، هو الحداثة السياسية.
وقد كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة «أقلام» و«آفاق الوحدة» و«الفكر العربي المعاصر» و«المستقبل العربي». كما ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة «مخاضات الحداثة» و«في الشرط الفلسفي المعاصر» و«حوارات في الثقافة و السياسة» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«الأصولية والحداثة»، وترجم كتاب «الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» للويس ألتوسير، فضلا عن «التقنية – الحقيقة – الوجود» لمارتن هايدغر، و«التحليل النفسي» لبول لوران أسون، و«التحليل النفسي» لكاترين كليمان.
في ما يلي، نعيد نشر مجموعة من المقالات والحوارات التي أنجزها الراحل، ونشرها في مجموعة من المنصات المغربية والعربية، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عنه وعن فكره..
لا يتعلق الأمر في هذه الورقة بالنقاش الدائر في الغرب حول ما إذا كان الأمر يتعلق بحداثة أم بحداثات، وذلك من خلال التساؤل عمَّا إذا كان ما يطلق عليه الحداثة المفرطة أو ما بعد الحداثة أو ما فوق الحداثة أو الحداثة المتأخرة أو الحداثة الثانية أو الحداثة المتقدّمة ، هي مصطلحات تعبير عن الظاهرة نفسها (أي الحداثة) بتسميات مختلفة، أم أنَّها تصف وتسمي شيئاً آخر يختلف كليَّاً عمَّا اصطلح عليه تقليديَّاً بالحداثة، وبالتالي عمَّا إذا كانت هناك حداثة واحدة أم حداثات متعدّدة. وهكذا فإنَّنا لن نعرض إلى هذا النقاش الحاد إلا في حدود ملامسته وتأثيراته على مآل تصوُّر الحداثة في ثقافتنا العربيَّة والمغربيَّة.
للحداثة مظهران أساسيَّان تتبلور من خلالهما ديناميَّاتها المختلفة: الصورة السياسيَّة والصورة الفكريَّة.
يتعلق الأمر هنا بالتساؤل حول توجُّه فكري بدأ يسود في ثقافات الجنوب بصفة عامَّة وبالثقافة العربيَّة على وجه التحديد، مؤدَّاه أنَّ هناك حداثات لا حداثة واحدة، وأنَّ الحداثة الغربيَّة (المتعدّدة الصفات والسمات) هي ذاتها حداثة متعدّدة، وأنَّ لكلّ مجتمع حداثته الخاصَّة بمجرَّد اندراجه أو انخراطه في سيرورة الحداثة الكونيَّة، وذلك بالتساؤل عن مدى الصدقيَّة المعرفيَّة (الإبستمولوجيَّة) لهذا التوجُّه، وعن الأسباب المختلفة المولدة له.
في العقود الأخيرة بدأت تتبلور في الحقل السياسي والثقافي العربي فكرة مفادها أنَّ البلاد العربيَّة والبلدان النامية على العموم ليست بلداناً متخلفة كما كان ذلك التصوُّر سائداً في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بل إنَّها دخلت في مراحل نمو كثيفة ومتسارعة ممَّا جعلها تدخل بدرجات متفاوتة في مجال الحداثة.
وبتواز وتواشج مع هذه الفكرة تبلور تصوُّر ملازم مفاده أنَّ اندراج أو انسلال هذه المجتمعات في درب الحداثة يعني أنَّه ليس هناك نموذج واحد فريد للحداثة بل توجد نماذج عديدة، وهو أمر يعطي سنداً فكريَّاً قويَّاً، وربَّما يضفي المشروعيَّة من جهة لفكرة دخول هذه المجتمعات دروب الحداثة، ومن جهة أخرى لفكرة تعدُّد الحداثة ذاتها.
مقصدنا في هذا البحث هو إخضاع هذه المسلّمات والبداهات لتحليل ولفحص نقدي لتبيان مدى صدقيَّة أو عدم صدقيَّة، مشروعيَّة أو عدم مشروعيَّة مثل هذا التصوُّر، وذلك في محاولة للإجابة عمَّا إذا كانت الحداثة حداثات، وهل سيرورة التاريخ المحلي (المغربي – العربي – الإسلامي) هي من الحداثة إلى الحداثات أم من الحداثات إلى الحداثة؟
في منشأ الحداثة
الكونيَّة وتطوُّرها
تتفق جلُّ النظريَّات الاجتماعيَّة على أنَّ الحداثة أوروبيَّة المنشأ، لكنَّها تتباين حول تاريخ نشأتها. فالبعض يرجع جذورها البعيدة إلى تاريخ بعيد مفاده أنَّ الحداثة لم تتبلور كمفهوم إلا ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي، لكنَّ الأفكار المحوريَّة المشكّلة لها (العقلانيَّة – التجديديَّة – التقنيَّة) تضرب بجذورها في أعماق التاريخ القديم. ففكرة العقل والعقلنة والتنظيم الاجتماعي والفكري وتطوُّر التقنيات وتنظيم الاقتصاد وعقلنة السياسة… كلها أفكار وديناميَّات فكريَّة جنينيَّة في كلّ الحضارات والثقافات، إلَّا أنَّها لم تتطوَّر ولم تستثمر فيها كلها بالدرجة نفسها.
وهناك مؤرخون وباحثون اجتماعيون يعودون بهذه النشأة إلى مفصل العصور القديمة/ العصور الحديثة، وذلك ابتداء من 1493، أي منذ اكتشاف أمريكا (العالم الجديد) وانطلاق النهضة الأوربيَّة وبداية الإصلاح الديني، وهي أحداث يمكن أن نربطها بسقوط القسطنطينيَّة، وخروج العرب من الأندلس…، وغير ذلك من الأحداث التي تعود إلى نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر، والتي تدور حوالي سنة 1500 ميلادية[2[.
لكنَّ هناك مؤرخين وفلاسفة يعودون بهذه النشأة إلى مفصل القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، ويربطونها لا بأحداث سياسيَّة بارزة فقط، بل باكتشافات علميَّة وتقنيَّة بالدرجة الأولى، ثمَّ بأحداث سياسيَّة فاصلة في الدرجة الثانية.
قد تكون للأحداث السياسيَّة حيثيَّات خصوصيَّة، لكنَّ الاكتشافات العلميَّة والتقنيَّة والتطوُّرات الفكريَّة في مجالات القانون والعلوم والفلسفة والفنون، التي تتكثّف في تبلور وتطوُّر العلوم الإنسانيَّة من حيث سعيها إلى تحديد موضوعاتها المتعلقة بمجالات الإنسان والمجتمع والنظر انطلاقاً أو من خلال دينامياتها الذاتيَّة الخاصَّة بها بأكبر قدر من الموضوعيَّة وبعيداً عن النظرات الذاتيَّة الفرديَّة والفئويَّة، هذه التطوُّرات الفكريَّة كانت تمثّلاً واستجماعاً لمساهمات الحضارات والثقافات الأخرى غير الأوروبيَّة، وهي الآسيويَّة والعربيَّة وغيرها.
الحداثة هي الحركيَّة التاريخيَّة الواسعة التي تؤدّي إلى الانتقال التدريجي من الاعتماد على الثقافة الدينيَّة التقليديَّة في التنظيم السياسي للمجتمع إلى ثقافة الحداثة في تصوُّرها الجديد
يقوم التصوُّر الأمثل والأوفى في تصوُّر وتحليل الحداثة الأوروبيَّة على إرجاعها لا إلى أحداث تاريخيَّة بعينها فقط، ولا على التركيز على معطى أو فاعل وحيد، بل على إبراز جملة العوامل الحدثيَّة والفكريَّة التي تضافرت في إحداث هذه الحداثة: العوامل الدينيَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة والقانونيَّة والعلميَّة والتقنيَّة والسياسيَّة. وهذا يقتضي النظر إلى الحداثة المصدّرة كسيرورة تراكميَّة واسعة ومتدرّجة؛ إمَّا في منظور خطّي متواصل، أو عبر هزَّات ونطَّات وقطائع، أو في منظور تموُّجي.
في محاولة لتقديم صورة وافية وشموليَّة عن نشأة وتطوُّر الحداثة الأوروبيَّة، يرى الباحث الفرنسي (M. Gauchet[3]) أنَّ الحداثة سيرورة شاملة تطال كلَّ مستويات الكلّ الاجتماعي، تتجاذبها أحداث وأفكار وتقنيات ودلالات بما يمكن من مراعاة كلّ المعطيات المكوّنة لهذه السيرورة، بما في ذلك المعطى الديني.
يحاول مارسيل غوشيه أن يقدّم صورة شموليَّة جامعة لديناميَّات الحداثة من خلال اقتراح فرضيَّة كبرى قوامها أنَّ الحداثة هي الحركيَّة التاريخيَّة الواسعة التي تؤدّي إلى الانتقال التدريجي من الاعتماد على الثقافة الدينيَّة التقليديَّة في التنظيم السياسي للمجتمع إلى ثقافة الحداثة في تصوُّرها الجديد والمختلف للإنسان وللمجتمع وللسياسة. ثمَّ يعود لتدقيق هذه الفرضيَّة بالقول: إنَّ ذلك لا يعني أنَّ الناس سيتخلَّون عن الاعتقاد الديني وسيصبحون أقلَّ تديُّناً، بل معناه أنَّ المجتمعات ستتّجه نحو التخلّي التدريجي عن التنظيم الديني للمجتمع أو للعالم، وبقاء الدين في حدود الاعتقاد الفردي.
وهذا ما نستشفُّه من كلّ حركات الإصلاح الديني في الغرب على الأقل، وهي حركات تتّجه إلى تقوية الاعتقاد الفردي وتمتينه، وبموازاة ذلك تنطلق عمليَّة أو سيرورة الاستقلال التدريجي للمجال الجماعي السياسي عن التأطير التنظيمي والفكري الديني. فانبثاق العنصر السياسي (Le politique) أو المجال السياسي مرتبط بديناميَّة الخروج من اللَّاهوت السياسي نحو الاستقلال الكامل للمجال السياسي، وهو ما سيمكّن من تبلور المعنى السياسي للدولة (Etat) ومستلحقاته الفكريَّة المواطنة والمشروعيَّة والشرعيَّة والتمثيليَّة والتعاقد.
للحداثة بهذا المعنى مظهران أساسيَّان تتبلور من خلالهما ديناميَّاتها المختلفة: الصورة السياسيَّة والصورة الفكريَّة.
تتمثّل الصورة السياسيَّة في البنية الفكريَّة للسياسة المشار إليها أعلاه، بينما تتمثّل الصورة الفكريَّة في البنيات الجدليَّة التي سبق لهيجل أن استنبطها أو استقرأها من تحوُّلات الحداثة، وهي جدليَّة الذاتي والموضوعي في مجال المعرفة، وجدليَّة المتناهي واللَّامتناهي في مجال الدين والميتافيزيقا، وجدليَّة الخصوصي والعمومي في المجال السياسي والقانوني، وجدليَّة الحريَّة والضرورة في المجال الأخلاقي[4[. (PD.M p39-45) (E.Ganty: penser la modernité p56).
هذه الجدليَّات سيتبلور فيها ومن خلالها التصوُّر الحديث للعالم، وهو تصوُّر يختلف عن التصوُّرين الوسطوي والقديم، وذلك أنَّ تصوُّر العالم الخاص بالأزمنة أو بالعصور الحديثة هو تصوُّر حديث (حداثي) للعالم، يفرضه التاريخ الكوني كمصير قدري (Destinée) للتاريخ الإنساني كله.
يمكن أن نستنبط من هذا التصوُّر نموذجاً فكريَّاً مثاليَّاً (Idéaltype) ينعكس جزئيَّاً أو كليَّاً على كلّ البنيات والمكونات والديناميَّات، وإن كانت هي لا تنعكس عليه تفصيليَّاً.
العناصر المكوّنة لهذا النموذج تتدرَّج لتشمل مجمل البنية التاريخيَّة الكليَّة للمجتمعات البشريَّة كأفق تاريخي مفتوح.
يستعرض الفيلسوف الإيراني المعاصر داريوش شايغان ([5]D. Shayegan) تطوُّر فكر الحداثة في الغرب ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي، متوقفاً عند الثورة الكوبرنيكيَّة التي هي ذات بُعدين: علمي فلكي يتمثل في إحلال مركزيَّة الشمس محلّ مركزيَّة الأرض في التصوُّر القديم، وبُعد فلسفي تمثّل في الانتقال من العالم المغلق المحدود إلى الكون اللّانهائي، كما عبَّر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي ألكسندر كوايريه.
هذه الثورة العلميَّة المتلاحقة في الغرب الأوروبي حفرت في الفكر الغربي تحوُّلات فكريَّة وفلسفيَّة عميقة، أخذت في التحقّق والتبلور تدريجيَّاً حول تجديد تصوُّر الكون والزمن والمكان والمادة والطبيعة عامَّة. وهي تحوُّلات تولّدت عنها فيما بعد نتائج فكريَّة وفلسفيَّة عميقة يجملها شايغان في العناصر التالية:
– تصوُّر جديد للطبيعة قوامه أنَّها لا تتشكّل من قوى حيويَّة غامضة، بل من علاقات رياضيَّة وميكانيَّة عليَّة.
– اعتبار أنَّ حركيَّة الطبيعة لا تمليها غايات أو غائيَّات لا تخضع للديناميَّات والتفاعلات الداخليَّة، وهي الفكرة التي انتقلت تدريجيَّاً من الطبيعة إلى التاريخ.
– النظر إلى المادّة على أنَّها مجموعة قوى وعلاقات ومقادير هندسيَّة وعدديَّة قابلة للحساب والترييض.
– تغيير التراتبات الأنطولوجيَّة للعالم وللكون وفتحه على آفاق وأبعاد لا متناهية.
– الإعلاء من شأن الذاتيَّة الإنسانيَّة، والتمييز الحاد بين الذاتيَّة والموضوعيَّة، وتأسيس العلم الحديث على أساس علاقة ذات موضوع.
يجمل شايغان هذه المعطيات ضمن حركة كبرى يسمّيها: «الكشف الأنطولوجي» للإنسان والعالم، وهو الكشف الذي سيتَّخذ صورة كليَّة ستمارس تأثيراً فكريَّاً كونيَّاً انطلاقاً من المركز الأوروبي ثمَّ الأمريكي فيما بعد.
يقوم هذا الكشف على أربع حركات أو موجات فكريَّة كبرى أسَّست للرؤية الحداثيَّة للعالم.
إضفاء طابع أداتي على الفكر أو العقل؛ أي تحويله إلى أداة تحليل وكشف بتنظيم المعرفة وضبط خطوات تقدّمها نحو الموضوع، وهو ما يعرف بصيغة أخرى بأهميَّة «المنهج»، حيث تصبح طريقة اكتساب المعرفة موازية في الأهميَّة لموضوع المعرفة ذاته، إن لم تكن أهم. فالأساس الفلسفي لمسألة المنهج هو إرساء المعرفة الإنسانيَّة على ذاتها.
إضفاء طابع رياضي على الطبيعة، حيث تحوَّلت الطبيعة في منظور العلم الحديث إلى كميَّات ونسب وعلاقات عدديَّة وهندسيَّة، وليست ماهيَّات أو جواهر قبليَّة. وهو ما عبَّر عنه غاليليو بالقراءة الرياضيَّة لكتاب الطبيعة، وعبَّر عنه السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر بنزع الطابع السحري عن العالم أو عن الطبيعة، وفي ترابط مع ترييض الطبيعة إعطاء طابع تقني للعلم والمعرفة بشكل تدريجي في سياق الانتقال العسير من الفكر التأمُّلي إلى الفكر العلمي الذي يخضع ويستجيب لمتطلبات الفكر التقني.
إضفاء صبغة طبيعيَّة على الإنسان ذاته؛ أي النظر إليه باعتباره كائناً ينتمي إلى الطبيعة وينحدر منها، ممَّا يعني إعادة الاعتبار للجسم والنظر إلى النفس على أنَّها جملة دوافع وميولات وحاجات عضويَّة.
هذه النظرة تنقل الإنسان من دائرة السحر (Homo Magnus) إلى مستوى الإنسان العارف (Homo sapiens) بالمعنى الأنثروبولوجي الذي يمهّد للإنسان الصانع (Homo Faber) في اتجاه الإنسان الصناعي أو التكنولوجي (Homo technologicus).
نزع الطابع السرّي أو السحري (la démystification) عن الزمن، والنظر إليه كآنات متلاحقة مرتبطة بالمكان وبالعليَّة بعيداً عن أيَّة إضافات أو إسقاطات. وهذا يعني التمييز بين الزمن التاريخي والزمن الميتافيزيقي، زمن ما قبل أو ما بعد الزمن أو اللَّازمن الذي هو الزمن الإسكاتولوجي، زمن القيامة والحساب والعقاب في المنظور الديني.
هذه الحركات هي أساساً انتقالات أو حركات نازلة (descendants) من الرؤية التأمليَّة إلى الفكر التقني، ومن الأشكال الجوهريَّة إلى المفاهيم الميكانيكيَّة-الرياضيَّة، ومن الجواهر الروحيَّة إلى الدوافع الأوليَّة، ومن الزمن اللازمي إلى الزمن التاريخي أو التاريخانيَّة.
هذه الحركات تحدث ثغرة أو ثُلمة أساسيَّة عميقة (Brèche fondamentale) بين الفكر التقليدي والفكر الحديث يتعذَّر معها التواصل والتفاهم بينهما بمفاهيم واضحة وبمرآة صافية، بل فقط عبر مرايا منكسرة (miroirs brisés)، لأنَّ هذه الحركات ارتبطت بمجموعة صدمات (des chocs): الصدمة الكوسمولوجيَّة التي غيَّرت مركز الكون من الأرض إلى الشمس وفتحت أبواب اللَّاتناهي الكوني، والصدمة البيولوجيَّة التي أدرجت الإنسان ضمن سلّم تطوُّر طويل المدى، والصدمة السيكولوجيَّة التي حفرت أعماق الوعي وفتحتها على غياهب اللَّاوعي أو الَّلاشعور، بل الأفظع من كلّ ذلك أنَّ هذه المغامرة الفاوستيَّة التي نقلت الإنسان متمثلاً في طليعته من كونه كائناً رائياً (visionnaire) إلى كونه كائناً ناظراً أو ذا نظر (visuel) قد أحدثت كدمات ورضوضاً (traumatismes) بالمعنى الباتولوجي تسبَّبت في حدوث «خدوش» و»جروح» نرجسيَّة عميقة في صورة الإنسان عن ذاته.
تكلفة هذه الاكتشافات العلميَّة التقنيَّة والفكريَّة هي تكلفة عالية. فبالإضافة إلى الخدوش والجروح والكدمات، هناك حركة التحرُّر المصاحبة لها، فكلّما تحرَّر الإنسان من القوى اللَّامرئَّية غير المتحكّم فيها ومن الأساطير ومن طقوس الولاء ومن «الأوثان الذهنيَّة» فإنَّه، دون وعي واضح منه، يخلق سلطاً أخرى وأشكالاً وأنماطاً أخرى ذهنيَّة أو مؤسسيَّة أو ديانات دهريَّة (Religions séculières) تتغيَّا الهيمنة بشكل لا يقلُّ استبداداً، وكأنَّ قدر الإنسان هو ألَّا يتحرَّر من سلطة إلا ليخضع لأخرى. وهذا ما يفرض ضرورة المضي في سياق استراتيجيا ذات ضلعين: التحرُّر والتخلّص المستمر من الأوهام (Démystification)، والإعمال الأقصى للعقل التأويلي (L’hermeneutisme).
لكنَّ التحولُّات الفكرَّية والقيميَّة العميقة التي حدثت في الغرب الأوروبي خلال المراحل الأولى للحداثة الظافرة، والتي انعكست على كافة مكوّنات وأبعاد الحياة فيه، لم يقتصر تأثيرها على هذه المجتمعات، بل طالت كلَّ المجتمعات والثقافات الإنسانيَّة بما في ذلك الثقافات التقليديَّة ذاتها. المجتمعات الأولى شهدت سيرورة علمنة تدريجيَّة شاملة شكّلت بموازاة هذه التحوُّلات، حسب هابرماس، «إيديولوجيا تقنيَّة» مهيمنة، تحمَّلت وظيفة إضفاء المشروعيَّة على السيطرة السياسيَّة. أمَّا في المجتمعات والثقافات التقليديَّة، فإنَّ رؤى العالم التقليديَّة أخذت تفقد قدراتها وصلاحياتها وصدقيتها (سواء في جانبها الأسطوري أو الديني الرسمي أو الطقوسي أو الميتافيزيقي)، لتتحوَّل إلى أخلاقيَّات وإلى معتقدات (إيديولوجيَّة) ذاتيَّة تدخل في تفاعلات وتسويات مع المحدّدات والأطر الموجّهة والقيم الحديثة، تنشأ عنها خلائط وتشوُّهات فكريَّة واعتصارات وآليَّات إيديولوجيَّة متعدّدة الأشكال والألوان والوظائف.
لا ينتهي شايغان في تحليلاته إلى خلاصات وضعيَّة أو راديكاليَّة تجاه الدين، بل يرى أنَّه ما زال بإمكان الدين أن يساهم في الإثراء الروحي للإنسان، وإن لم يعد بإمكانه القدرة أو المطالبة بتوجيه النظام الاجتماعي. فقد ولّى تاريخيَّاً ذلك الزمن الذي كانت فيه الديانات مصدراً للنظام السياسي، لأنَّ الدين عندما يتمُّ تخريجه أو تحقيقه خارجيَّاً في التاريخ، من حيث هو كليَّة متماسكة تطال القطاع العام كما تطال القطاع الخاص (بمعنى الفردي)، فإنَّه «سيتلوَّث بالتاريخ وينحدر (se rabaisse) إلى مستوى الإيديولوجيَّات الشموليَّة (Idéologies totalitaires) التي يطفح بها العصر الحديث.
2- الصدمة المزدوجة: الحداثة والاستعمار:
من خصوصيَّات انتشار الحداثة في البلدان غير الأوروبيَّة هو اقترانها بالاستعمار. فالاستعمار هو تلك الحركيَّة التاريخيَّة المتولّدة عن التطوُّر السريع لبلدان المركز ولتفوُّقها بفعل القوَّة الناتجة عن التطوُّر التقني، وتفاعله مع رأس المال التجاري في الغرب. والبعض يقرن بين نشوء الحداثة والتطوُّر السريع للرأسماليَّة أو بين رأس المال المالي ورأس المال التقني والمعرفي: فوفرة الإنتاج الناتجة عن سرعة التطوُّر التقني بدأت تفرض توسُّع الأسواق، وهو ما حتم ضرورة الخروج من دائرة الأسواق الداخليَّة أو المحليَّة نحو أسواق أكثر اتساعاً، كما أنَّ تطوُّر تقنيات النقل سهَّل عمليَّة نقل السلع نحو الأسواق الخارجيَّة، كما يسرَّ عمليَّة استقدام المواد الخام من هذه الأسواق.
وقد كان من الضروري نثر بعض الأزهار على عمليَّة الغزو الاقتصادي والاستلحاق السياسي لتزيين وتسويغ عمليَّات الغزو الاستعماري، وذلك ببلورة إيديولوجيا تحضير هذه المجتمعات المتخلفة، ونقلها من العصور القديمة إلى عتبة عصور الحداثة، عبر تحقيق وإدخال إصلاحات على كافة المجالات.
وقد زاوج الاستعمار الأوروبي بين هذين المطلبين: توسيع الأسواق الاقتصاديَّة (إصداراً واستيراداً)، والتوُّسع السياسي مقدَّماً على شكل رسالة تحضيريَّة أو تنويريَّة لهذه الدول. وقد عبَّر عن ذلك بصيغة سوسيولوجيَّة السوسيولوجي الأمريكي (David Apter) بقوله: «إنَّ الاستعمار هو الصيغة التي اتخذت بها الحداثة طابعاً كونيَّاً»[6].
توزَّع الغرب الأوروبي الخريطة الاستعماريَّة، حيث استأثرت بريطانيا بما مقداره (540 مليون نسمة) في إفريقيا وآسيا، واحتلَّت فرنسا درجة ثانية (50 مليون نسمة)، بينما أخذت بلجيكا وإسبانيا والبرتغال ما تبقّى، أمَّا ألمانيا وإيطاليا فقد أخذتا أقلَّ وذلك لتأخُّر وصولهما، كما طال الاستعمار دولاً في قارَّات أخرى: أستراليا وكندا.
وقد ولّد هذا الحدث الكبير صدمتين متداخلتين: صدمة التغلب العسكري، وصدمة اكتشاف أو انجراح الذات، وهما وجهان لعملة واحدة أو لصدمة مزدوجة؛ فانجراح الذات مرتبط بقناعة التفوُّق الحضاري الذي تستبطنه هذه البلدان، وهو تفوُّق مرتبط بالأرضيَّة النرجسيَّة الجماعيَّة التي تشكّل العمود الفقري لكلّ ثقافة، وهي أنَّنا نحن المنتصرون في كلّ مواجهات ومجابهات التاريخ، لأنَّنا نحن المختارون والمتميزون، من حيث كوننا لنا أحسن ثقافة وأحسن لغة وأحسن دين وأروع تاريخ.
هذه المعادلات الذاتيَّة ستختلُّ عندما تشاهد هذه البلدان انهزام جيوشها أمام جيوش الاستعمار، وعندما تشاهد مظاهرة القوَّة التقنيَّة (العسكريَّة والماديَّة) للآخر، وقدراته التنظيميَّة في تنظيم المجتمع (قضاء – تنظيم سياسي وإداري – تطور صناعي – تنظيم المدن والشوارع – العناية بالصحَّة – بناء المدارس…).
وهذه المعطيات السوسيولوجيَّة تجعل «فكرة» أو تصوُّر الاستعمار مرتبطة بل مقترنة بتصوُّر الحداثة، ابتداء من مستوياتها التقنيَّة إلى مستوياتها التنظيميَّة؛ ممَّا يجعلها صدمة مزدوجة، أي مقترنة ومتداخلة، وربَّما كان هذا الاقتران هو سبب الصورة السلبيَّة العميقة المقترنة بالحداثة، أو تأرجح تصوُّر الحداثة بين صورتين: إحداهما سلبيَّة والأخرى إيجابيَّة. وهو اقتران قارٌّ يتراوح بين فضائَي الوعي الواضح والوعي الملتبس، لأَّن العمليَّة الاستعماريَّة تراوحت بين الاحتلال والاستغلال والإصلاح والتحديث.
الوجه الآخر لمسألة ربط نشأة الحداثة في البلدان غير الأوروبيَّة بالصدمة الاستعماريَّة هو القول إنَّ الحداثة غير الأوروبيَّة لم تكن نشأة أهليَّة أو محليَّة أو نتيجة للتطوُّر الذاتي لهذه البلدان، بل هي حداثة مهجَّنة أو ملقَّحة، أو بمعنى آخر: إنَّ هذه البلدان لم تكن قد بلغت في تطوُّرها العتبة التاريخيَّة التي تمكّنها من اكتشاف فكرة الحداثة وبلورتها وإنضاجها وتطويرها اعتماداً على ذاتها وعلى درجة تطوُّرها.
إلَّا أنَّ استغلال هذه الفكرة، التي هي فكرة صائبة كملاحظة فكريَّة وسوسيولوجيَّة موضوعيَّة، وتسخيرها في اتجاه رفض المظاهر الحاليَّة للحداثة، هو مجرَّد استغلال إيديولوجي لهذه الفكرة وتوظيفها ضمن موقف سياسي وإيديولوجي يرفض الحداثة جملةً أو تفصيلاً.
3- من «الحداثات» إلى الحداثة:
القول إنَّ الحداثة حداثات هو نوع من التلطيف والتجاوز الفكري والإبستمولوجي، إن لم يكن الفكري شكلاً من أشكال مقاومة الحداثة وبخاصَّة لنواتها الفكريَّة العليا بسبب عسرها وعنائها وتعذّر جرعتها المرَّة، فتعمد إلى القول إنَّنا دخلنا إليها ولسنا في حاجة إلى ثورة أو تمرُّد أو جهد للحاق بها، ومن ثمَّة النكهة الإيديولوجيَّة (التبريريَّة) في هذا القول الذي لا يخلو من دبلوماسيَّة ثقافيَّة تمارسها الهيئات الدبلوماسيَّة والثقافيَّة المختلفة، تماماً مثلما سبق أن تمَّ تلطيف لغة البلدان المتخلّفة والتخلّف إلى نقص في التطوُّر (Sous développement)، ثمَّ إلى بلدان في طريق النمو، ثمَّ إلى بلدان نامية، كلُّ هذه العوامل تسعى إلى تمطيط مفهوم الحداثة وقطع حبل الوصل بنواته وبنموذجه، وتحويله إلى مفهوم واسع ورخو.
المصادر النظريَّة وأهمُّها النزعة الثقافويَّة والبنيويَّة وأفكار ما بعد الحداثة:
النزعة الثقافويَّة (le culturalisme): التي تقول إنَّ لكلّ ثقافة مقوّماتها (أسلوبها، منطقها) الخاصَّة، وهذا الاتجاه هو الذي أذكى نوعاً من النسبويَّة الثقافيَّة، كما غذَّى فكريَّاً كيفيَّة مواجهة الأحكام المسبقة العرقيَّة والجنسيَّة أو غيرها من الأحكام المركزيَّة المسبقة.
البنيويَّة: ترى البنيويَّة أنَّ وراء تعدُّد الثقافات نوعاً من الوحدة النفسيَّة والعقليَّة. فالثقافات والحضارات هي مجرَّد تنويعات على البنية الأصليَّة نفسها أو «الثوابت البنيويَّة».
وقد خفَّفت البنيويَّة من التعارض الحاد بين الثقافات المتطوّرة والثقافات المسمَّاة بدائيَّة. «فالفكر البدائي» ليس في درجة أدنى من الفكر العصري، بل إنَّهما متكافئان ومتعادلان، وذلك قياساً على القاعدة الألسنيَّة التي ترى أنَّ اللغات متساوية القيمة، من حيث هي مجموع الدوال التواصليَّة، فالفكر البدائي ليس بعيداً عن التنظيم والتنسيق الذي يسم الفكر العصري، بل إنَّ له عقلانيَّته الخاصَّة في الترتيب والتنظيم وإيجاد العلاقات، كما أنَّه ليس بعيداً عن الفعاليَّة والنجاعة. الفكر السائب أو البرّي (la pensée sauvage) ليس بدائيَّاً بالمعنى الذي أعطاه ليفي برول، أي ليس سابقاً على المنطقprélogique)) بل هو أيضاً فكر نسقي وتنظيمي. فالأساطير والطقوس السحريَّة والتعبديَّة والأنساق القرابيَّة الأبويَّة والأموميَّة، والتمثلات الطوطميَّة والأقنعة، وطرق الأكل تنضح بوجود تصنيفات وترتيبات مكانيَّة وزمانيَّة ومضمونيَّة، بمعنى أنَّ لها منطقها الداخلي الخاص.
يترتَّب عن هذه النظرة النسبويَّة (Relativiste) أنَّه ليس هناك مجتمع كامل ومكتمل أو نموذجي، بل إنَّ في كلّ مجتمع نصيبه من اللَّامساواة والَّلاعدل ومن الشراسة وعدم الحساسيَّة. وبالتالي فلا مجتمع أفضل أو أسوأ من الآخر[7].
بل إنَّ البنيويَّة انتهت إلى إنكار فكرة التقدُّم ذاتها، مميّزة بين «التاريخ الراكد» و»التاريخ التراكمي»، وأنَّ المجتمع الحديث أو المعاصر الذي يبدو لنا أنَّه الأكثر تطوُّراً، هو المجتمع الذي تمتَّع بتاريخ تراكمي مكَّنه من تركيب وتجميع العديد من المكتشفات وتوظيفها وإدماجها في تاريخه الخاص أو ضمنه، حيث إنَّ مجتمعات أخرى أهملتها أو أدرجتها في خانة النسيان.
ويستدرك ك. ل. ستروس أنَّه لا يودّ أن ينفي واقعة التقدُّم الإنساني، بل يريد ويدعونا إلى أن نتصوَّرها بأكبر قدر من الحذر. ويرى أنَّ الحضارة الغربيَّة هي الحضارة الأكثر تحقيقاً للتراكم من غيرها، ولكنَّ ذلك لا يعني أنَّ قسط التخيُّل والإبداع والجهد الخلَّاق هي ميزات خاصَّة بها، بل هي معطى ثابت عبر كلّ التاريخ الإنساني[8].
ويبدو أنَّ كلَّ مجهود البنيويَّة الأنتروبولوجيَّة ينتهي إلى تسجيل أنَّ كلَّ أشكال الحضارة التي يبدو أنَّها تتعاقب في الزمن، هي في الحقيقة تتواجد وتتناضد في المكان، تصوّر كما لو أنَّ التقدُّم الذي تتبنَّاه البنيويَّة، هو تقدُّم متقطّع وصدفوي وغير مؤكّد (Aléatoire).
الطفرات التقنيَّة والمعماريَّة التي حقّقتها بعض المجتمعات نتيجة الثروة النفطيَّة: فقد كسرت هذه الظاهرة الجديدة المتمثلة في حدوث تحوُّلات تقنيَّة ومعماريَّة التصوُّر المتمثل في النظر إلى الحداثة ككتلة كليَّة واحدة، وأبرزت أنَّ الحداثة مستويات متمايزة مفصليَّاً عن بعضها بعضاً: الحداثة التقنيَّة والحداثة التنظيميَّة (وأقصد بها الحداثة القانونيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة) والحداثة الفكريَّة/ الثقافيَّة. صحيح أنَّ هذه المستويات تتمايز، لكنَّها في الوقت نفسه متداخلة ومتلاحمة فيما بينها. لكنَّ هذه التجربة التاريخيَّة الجديدة لبلدان الخليج العربي والتجربة الإيرانيَّة وربَّما اليابانيَّة والصينيَّة تبيّن بالملموس أنَّ المجتمعات يمكن أن تدلف المستويات الدنيا من الحداثة، بحيث تحقّق درجات مختلفة من الحداثة التقنيَّة، والدرجات الأولى من الحداثة التنظيميَّة، وتلامس العتبة الأولى للحداثة الفكريَّة/ الثقافيَّة، لكنَّها لا تخطو بعيداً في دربها الفكري والفلسفي، فقد تلامس المستويات الإبستمولوجيَّة الأولى للحداثة الفكريَّة المتمثلة في العقلنة المنهجيَّة، لكنَّها بفعل بنيتها الثقافيَّة ذاتها، وبخاصَّة في مكوّناتها الميتافيزيقيَّة، لا تستطيع أن تتخطَّى العتبات اللاحقة، لأنَّها تصطدم ببنياتها الثقافيَّة التقليديَّة، تصطدم بالبنية الثقافيَّة النموذجيَّة للحداثة، وهو اصطدام تفجيري ولا يخلو من عنف ومن آثار لها مفعول سلبي على بنيتها الفكريَّة التقليديَّة، وذلك بسبب المحتوى أو المحتويات الفكريَّة العميقة للبنية الثقافيَّة للحداثة.
4ـ التباسات ما بعد الحداثة: هناك التباس كبير يلازم مفهوم ما بعد الحداثة: هل هي فترة تاريخيَّة جديدة؟ هل هي عصر أم مجرَّد بنية فكريَّة وثقافيَّة جديدة؟ هل ما بعد الحداثة قطيعة مع الحداثة أم مجرَّد استمرار نقدي لها؟ ولكي لا نرتمي أو نغرق في نقاش فلسفي وفكري حول ما إذا كانت «ما بعد» الحداثة نقيضاً للحداثة وإنكاراً لها أو استمراراً لها بشكل آخر، نورد رأيين أوَّلهما لفرانسوا ليوتار رائد ما بعد الحداثة ومطلق شرارتها يقول فيه: «لقد قلت وكرَّرت مراراً إنَّ ما بعد الحداثة لا يعني بالنسبة إليَّ نهاية الحداثة أو النزعة الحداثيَّة (Modernisme) بل يعني فقط حصول علاقة أخرى مختلفة مع الحداثة»[9].
كما نورد – بهدف الإجمال – قولة حاسمة للباحث السوسيولوجي الهنغاري (Zigmunt Bauman) «إنَّ ما بعد الحداثة هي الحداثة وقد تخلّت عن أوهامها»[10].
نعم، لقد شاع في الثقافة العربيَّة الحديثة تصوُّر زمني للحداثة باعتبارها مرحلة تاريخيَّة جديدة. وقد كرَّس هذا المعنى تصوُّراً خطيَّاً للحداثة على أنَّها مراحل تاريخيَّة متلاحقة يمسك بعضها بالبعض الآخر. فما بعد الحداثة هي الفترة التاريخيَّة والفكريَّة اللاحقة للحداثة، وبالتالي فهي فترة أو مرحلة ضروريَّة تاريخيَّة جديدة مجاوزة للحداثة.
وهكذا تمَّ التعلّق بفكرة ما بعد الحداثة وتمَّ الترويج لها على نطاق واسع، وهذا الالتباس ليس خاصَّاً بالثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، بل هو التباس حادث في الغرب نفسه.
هناك مستويات عديدة لتطوُّر الحداثة: التطوَّر العلمي/ التقني، والتطوَّر السياسي بما يلازمه من عنف ومن مروق وتراجع، من تقدُّم وارتداد، والتطوُّرات الاجتماعيَّة المختلفة على مستوى الأسرة وعلاقات القرابة وسلوك الأفراد وعلاقات الأفراد بالمؤسَّسات، وأخيراً المستوى الفكري والثقافي.
ارتبطت الحداثة تدريجيَّاً بتسارع إيقاع التاريخ في كافة مستويات الكليَّة الاجتماعيَّة. ونودُّ هنا أن نركّز على نوعين من التسارع: التسارع التقني الاجتماعي والتسارع الفكري والفلسفي.
كلّما تحرَّر الإنسان من القوى اللَّامرئَّية غير المتحكّم فيها ومن الأساطير، فإنَّه دون وعي واضح منه، يخلق سلطاً أخرى تتغيَّا الهيمنة بشكل لا يقلُّ استبداداً
ارتبطت الحداثة في مراحلها الأولى، وبخاصَّة منذ منتصف القرن التاسع عشر في الغرب، بنشأة وتطوُّر المجتمع الصناعي، المتمثل في الاستعمال الموسّع للتقنية في الإنتاج وانعكاساته في البيت والمدرسة، وفي العقلنة الصارمة للإدارة والتحكُّم في مجال السياسة والسلطة، وقد أظهر بعض الباحثين أنَّ الكليانيَّة أو التوتاليتاريَّة هي نتاج هذه المرحلة التاريخيَّة، وفي متطلبات الإنتاجيَّة.
وقد صاحب هذه المرحلة الظافرة من الحداثة الصاعدة آمال واسعة ويوتوبيات حالمة (منها الاشتراكيَّة) على أساس أنَّ التقدُّم الصناعي/ التقني سيحرّر المجتمعات من الخصاص ومن الضعف أمام الطبيعة، وسيحقّق سعادة البشر أفراداً وشعوباً.
لكن ابتداء من الحربين الكبيرتين في أوروبا بدأ يتبلور نوع من انحسار وتباطؤ عمليَّة الابتهاج بالعالم التي اعتبرها ماكس فيبر سمة ملازمة للحداثة، من حيث هي «قفص فولاذي». إذا ميّزنا في التحوُّلات العميقة التي صاحبت الحداثة الظافرة في الغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر والآمال والبشائر والوعود التي حملتها حول الحريَّة والعقلانيَّة والسعادة والعدل وركَّزنا على الجانب الفكري والفلسفي، حيث تتنامى تحليلات تقييميَّة ناقدة للحداثة (في الأدب، في الفلسفة والعلوم الاجتماعيَّة (السوسيولوجيا)) وجدنا أنها تتراوح بين الرفض العنيف والقبول الجزئي والموقف الوسطي التوفيقي، تحليلات تتراوح ملامحها الفلسفية بين النزعة الشكيَّة والنزعة الفوضويَّة والنزعة المحافظة، والراديكاليَّة، وهي اتجاهات يقسمها بعض الباحثين إلى صنفين كبيرين:
1- اتجاهان يتَّسمان بالرفض الجذري: أحدهما محافظ (الدعوة إلى العودة إلى ما قبل الحداثة)، والآخر شكيَّة وفوضويَّة داعية إلى ما بعد الحداثة.
2- اتجاهان تتبنَّى الحداثة فيهما موقفين مزدوجين تجاه الحداثة: الأوَّل لا تقبل التطوُّرات العقلانيَّة الأداتيَّة للعلم والتقنية، وتحيل الأخلاقيَّات إمَّا إلى الدولة أو إلى الدين، بينما يتبنَّى اتجاه ثانٍ يميل إلى الاعتراف بمفهوم واسع للعقل العملي والنظري، لكنَّها متشبثة (biaisée) بلحظة معيَّنة من تاريخ الحداثة[11].
من الأفكار الأساسيَّة لما بعد الحداثة:
– نهاية الاعتقاد في التقدُّم.
– نهاية أو موت الذات الفاعلة (Sujet) وظهور فردانيَّة منكفئة، والانتقال من تصوُّر للذات كفاعل متناسق داخليَّاً ومعياري، إلى تصوُّر للذات ككيان منشطر بل متشظٍ.
– حصول تحوُّل كبير نحو الاستهلاك وتحوُّل المجتمع إلى مجتمع استهلاكي.
– تناقص البهجة أو الابتهاج بالعالم نتيجة تضاؤل بشائر التحرُّر، وشيوع نوع من العدميَّة أو التشكّك تجاه الحداثة بسبب تحوُّل العقلنة التحرريَّة إلى عقلنة حديديَّة أو فولاذيَّة تضبط المجتمع والأفراد وتخضعهم (فوكو).
– نهاية الحكايات الفكريَّة السرديَّة الكبرى في الغرب (الماركسيَّة الوجوديَّة – التحليل النفسي وغيرها من النظريَّات التفسيريَّة الكبرى) بما تحمله من تبريرات وجوديَّة للأنظمة السياسيَّة. في دراسته المتميزة حول «سوسيولوجيَّات الحداثة» يصف الباحث (Martuccelli) التحوُّلات اللاحقة في المجتمعات الغربيَّة قائلاً:
«تبدو هويَّة الأفراد باهتة وعائمة، بينما لم تعد مشاريع حياة الأفراد قادرة على الارتكاز على عوالم صلبة الدلالة، كما أنَّ تشكيلات الهويَّات الفرديَّة لا تستطيع تجاوز أو تخطي خفوت بهجة الذات وغياب بهجة العالم إلا بطريقة مؤقتة وعارضة.
بالنسبة إلى كتاب ما بعد الحداثة، فإنَّ الروابط الاجتماعيَّة قد انحلّت سلسلة من اللقاءات العرضيَّة، والهويَّات ما هي إلا سلسلة دوريَّة من الأقنعة، وتاريخ الحياة الشخصيَّة ما هو إلا سلسلة من الحلقات تربطها ذاكرة باهتة، والهويَّات الفرديَّة ليست إلا نسخا مكرورة palimpsestes))، وكلَّ حياة ما هي إلا مجموعة عرضيَّة من الأطراف المكوّنة لها»[12].
التطوُّر المتسارع للحداثة على ثلاثة مستويات كبرى: المستوى التقني – المستوى التنظيمي (الاقتصاد – المجتمع – السياسة) المستوى الثقافي أدَّى إلى نوع من الالتباس في تصوُّر الحداثة، كما تجلّى ابتداء من الارتباك في التسمية إلى الارتباك في تحليل المضمون إلى التصنيف إلى طيف السمات والعوامل إلى المواقف المتراوحة بين الرفض والقبول.
أدخلت هذه الموجات التقنيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة على التلقي العربي أولاً: انكسار الكثير من المرايا، ثانياً: انضباب وانبهام الرؤية، ثالثاً: تضارب المواقف تجاه كلٍّ من الحداثة وما بعد الحداثة، رابعاً: لهاث فئات واسعة من المثقفين والأدباء والباحثين الأكاديميين إلى تتبُّع واتباع موجات ما بعد الحداثة على أساس أنَّها مجاراة للتطوُّر واسترشاد واستلهام بآخر التقليعات الفكريّة، بما يعنيه ذلك من دليل على الحضور والمتابعة والتطوُّر.
5- يصطاد المثقف التقليدي هذه التحوُّلات العميقة المتسارعة في الغرب ليقول إنَّ الحداثة تمَّ تخطيها وتجاوزها في الغرب الذي انتقل إلى مرحلة تاريخيَّة جديدة اجتماعيَّاً وفكريَّاً هي مرحلة ما بعد الحداثة، وأنَّ هذه تجبُّ ما قبلها. وقد ذهب الأمر لدى قطاعات واسعة من المثقفين إلى حدّ القول إنَّ الحداثيين العرب يسعون إلى لبس الحداثة بعد أن لفظها أصحابها وحوَّلوها إلى خرقة بالية يتهافت الحداثيون العرب مزهوّين على التحافها.
التحوُّلات التقنيَّة والتنظيميَّة والثقافيَّة نفسها تلتقطها المؤسَّسات الإقليميَّة الثقافيَّة الإقليميَّة العربيَّة والإسلاميَّة وتبلورها وتروّجها كأدوات ثقافيَّة دفاعيَّة أو تسويغيَّة أو أدوات للمقاومة، وهو ما يفسّر سهولة رواجها وتداولها الواسع في الحقلين الثقافي والسياسي، والتسويق الواسع لمقولات ما بعد الحداثة وتعدّد الحداثات، وأنَّ لكلّ مجتمع حداثته الخاصَّة، وأنَّنا إن لم نكن قد دلفنا باب الحداثة فنحن على مشارفها.
والخلاصة: الحداثة سيرورة تاريخيَّة كليَّة للعصور الحديثة، سيرورة مركَّبة وعنيدة، تولد لذاتها كيفيَّات ووسائط الانتشار عالميَّاً، بدرجات وسرع وتدرجات مختلفة عبر عدَّة مستويات أو عتبات، أوَّلها الحداثة التقنيَّة، وهي أيضاً مستويات ودرجات، والحداثة التنظيميَّة ابتداء من الاقتصاد إلى السياسة مروراً بالبنية الاجتماعيَّة، وأخيراً الحداثة الفكريَّة أو الثقافيَّة التي هي الشرط اللازم المضمر الذي يمكن أن يتحوَّل إلى معيار حاسم في تقييم كلّ المستويات والعتبات الأخرى للحداثة.
[1]. نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 12
[2]. Habermas Jürgen: Discours philosophique de la modernité, Tr. Fr. Gallimard 1985, P6.
[3]. Marcel Gauchet: Le monde moderne est sous le signe de l’ignorance, Interview avec Matthieu Giroux, Revue Philosophie 9 octobre 2014.
[4]. Habermas Ibid. p 39-45.
[5]. D.Shayegan: Qu’est ce qu’une révolution religieuse? Paris les presses d’aujourd’hui 1982 chapitre 3.
[6]. David Apter: L’état contre l’état, Economia 1988. 3 الفصل
[7]. M. M.Lipiansky: le structuralisme de C. L. Strauss, p.245.
[8]. Ibid p262-263.
[9]. André Breten: Modernité et postmodernité: un enjeu politique, p107.
[10]. Zigmunt Bauman: Sociologie, la modernité liquide.
[11]. A. Breten. نفسها الدراسة
[12]. Danilo Martuccelli: Sociologies de la modernité, Gallimard 1999, p559.