المفكر والفيلسوف محمد سبيلا .. فارس الحداثة وحارس الأنوار 25 : من «الحداثات» إلى الحداثة

 

توزَّع الغرب الأوروبي الخريطة الاستعماريَّة، حيث استأثرت بريطانيا بما مقداره (540 مليون نسمة) في إفريقيا وآسيا، واحتلَّت فرنسا درجة ثانية (50 مليون نسمة)، بينما أخذت بلجيكا وإسبانيا والبرتغال ما تبقّى، أمَّا ألمانيا وإيطاليا فقد أخذتا أقلَّ وذلك لتأخُّر وصولهما، كما طال الاستعمار دولاً في قارَّات أخرى: أستراليا وكندا.
وقد ولّد هذا الحدث الكبير صدمتين متداخلتين: صدمة التغلب العسكري، وصدمة اكتشاف أو انجراح الذات، وهما وجهان لعملة واحدة أو لصدمة مزدوجة؛ فانجراح الذات مرتبط بقناعة التفوُّق الحضاري الذي تستبطنه هذه البلدان، وهو تفوُّق مرتبط بالأرضيَّة النرجسيَّة الجماعيَّة التي تشكّل العمود الفقري لكلّ ثقافة، وهي أنَّنا نحن المنتصرون في كلّ مواجهات ومجابهات التاريخ، لأنَّنا نحن المختارون والمتميزون، من حيث كوننا لنا أحسن ثقافة وأحسن لغة وأحسن دين وأروع تاريخ.
هذه المعادلات الذاتيَّة ستختلُّ عندما تشاهد هذه البلدان انهزام جيوشها أمام جيوش الاستعمار، وعندما تشاهد مظاهرة القوَّة التقنيَّة (العسكريَّة والماديَّة) للآخر، وقدراته التنظيميَّة في تنظيم المجتمع (قضاء – تنظيم سياسي وإداري – تطور صناعي – تنظيم المدن والشوارع – العناية بالصحَّة – بناء المدارس…).
وهذه المعطيات السوسيولوجيَّة تجعل «فكرة» أو تصوُّر الاستعمار مرتبطة بل مقترنة بتصوُّر الحداثة، ابتداء من مستوياتها التقنيَّة إلى مستوياتها التنظيميَّة؛ ممَّا يجعلها صدمة مزدوجة، أي مقترنة ومتداخلة، وربَّما كان هذا الاقتران هو سبب الصورة السلبيَّة العميقة المقترنة بالحداثة، أو تأرجح تصوُّر الحداثة بين صورتين: إحداهما سلبيَّة والأخرى إيجابيَّة. وهو اقتران قارٌّ يتراوح بين فضائَي الوعي الواضح والوعي الملتبس، لأَّن العمليَّة الاستعماريَّة تراوحت بين الاحتلال والاستغلال والإصلاح والتحديث.
الوجه الآخر لمسألة ربط نشأة الحداثة في البلدان غير الأوروبيَّة بالصدمة الاستعماريَّة هو القول إنَّ الحداثة غير الأوروبيَّة لم تكن نشأة أهليَّة أو محليَّة أو نتيجة للتطوُّر الذاتي لهذه البلدان، بل هي حداثة مهجَّنة أو ملقَّحة، أو بمعنى آخر: إنَّ هذه البلدان لم تكن قد بلغت في تطوُّرها العتبة التاريخيَّة التي تمكّنها من اكتشاف فكرة الحداثة وبلورتها وإنضاجها وتطويرها اعتماداً على ذاتها وعلى درجة تطوُّرها.
إلَّا أنَّ استغلال هذه الفكرة، التي هي فكرة صائبة كملاحظة فكريَّة وسوسيولوجيَّة موضوعيَّة، وتسخيرها في اتجاه رفض المظاهر الحاليَّة للحداثة، هو مجرَّد استغلال إيديولوجي لهذه الفكرة وتوظيفها ضمن موقف سياسي وإيديولوجي يرفض الحداثة جملةً أو تفصيلاً.
3 – من «الحداثات»
إلى الحداثة:

القول إنَّ الحداثة حداثات هو نوع من التلطيف والتجاوز الفكري والإبستمولوجي، إن لم يكن الفكري شكلاً من أشكال مقاومة الحداثة وبخاصَّة لنواتها الفكريَّة العليا بسبب عسرها وعنائها وتعذّر جرعتها المرَّة، فتعمد إلى القول إنَّنا دخلنا إليها ولسنا في حاجة إلى ثورة أو تمرُّد أو جهد للحاق بها، ومن ثمَّة النكهة الإيديولوجيَّة (التبريريَّة) في هذا القول الذي لا يخلو من دبلوماسيَّة ثقافيَّة تمارسها الهيئات الدبلوماسيَّة والثقافيَّة المختلفة، تماماً مثلما سبق أن تمَّ تلطيف لغة البلدان المتخلّفة والتخلّف إلى نقص في التطوُّر (Sous développement)، ثمَّ إلى بلدان في طريق النمو، ثمَّ إلى بلدان نامية، كلُّ هذه العوامل تسعى إلى تمطيط مفهوم الحداثة وقطع حبل الوصل بنواته وبنموذجه، وتحويله إلى مفهوم واسع ورخو.
المصادر النظريَّة وأهمُّها النزعة الثقافويَّة والبنيويَّة وأفكار ما بعد الحداثة:
النزعة الثقافويَّة (le culturalisme): التي تقول إنَّ لكلّ ثقافة مقوّماتها (أسلوبها، منطقها) الخاصَّة، وهذا الاتجاه هو الذي أذكى نوعاً من النسبويَّة الثقافيَّة، كما غذَّى فكريَّاً كيفيَّة مواجهة الأحكام المسبقة العرقيَّة والجنسيَّة أو غيرها من الأحكام المركزيَّة المسبقة.

البنيويَّة: ترى البنيويَّة أنَّ وراء تعدُّد الثقافات نوعاً من الوحدة النفسيَّة والعقليَّة. فالثقافات والحضارات هي مجرَّد تنويعات على البنية الأصليَّة نفسها أو «الثوابت البنيويَّة».
وقد خفَّفت البنيويَّة من التعارض الحاد بين الثقافات المتطوّرة والثقافات المسمَّاة بدائيَّة. «فالفكر البدائي» ليس في درجة أدنى من الفكر العصري، بل إنَّهما متكافئان ومتعادلان، وذلك قياساً على القاعدة الألسنيَّة التي ترى أنَّ اللغات متساوية القيمة، من حيث هي مجموع الدوال التواصليَّة، فالفكر البدائي ليس بعيداً عن التنظيم والتنسيق الذي يسم الفكر العصري، بل إنَّ له عقلانيَّته الخاصَّة في الترتيب والتنظيم وإيجاد العلاقات، كما أنَّه ليس بعيداً عن الفعاليَّة والنجاعة. الفكر السائب أو البرّي (la pensée sauvage) ليس بدائيَّاً بالمعنى الذي أعطاه ليفي برول، أي ليس سابقاً على المنطقprélogique)) بل هو أيضاً فكر نسقي وتنظيمي. فالأساطير والطقوس السحريَّة والتعبديَّة والأنساق القرابيَّة الأبويَّة والأموميَّة، والتمثلات الطوطميَّة والأقنعة، وطرق الأكل تنضح بوجود تصنيفات وترتيبات مكانيَّة وزمانيَّة ومضمونيَّة، بمعنى أنَّ لها منطقها الداخلي الخاص.
يترتَّب عن هذه النظرة النسبويَّة (Relativiste) أنَّه ليس هناك مجتمع كامل ومكتمل أو نموذجي، بل إنَّ في كلّ مجتمع نصيبه من اللَّامساواة والَّلاعدل ومن الشراسة وعدم الحساسيَّة. وبالتالي فلا مجتمع أفضل أو أسوأ من الآخر[7].
بل إنَّ البنيويَّة انتهت إلى إنكار فكرة التقدُّم ذاتها، مميّزة بين «التاريخ الراكد» و»التاريخ التراكمي»، وأنَّ المجتمع الحديث أو المعاصر الذي يبدو لنا أنَّه الأكثر تطوُّراً، هو المجتمع الذي تمتَّع بتاريخ تراكمي مكَّنه من تركيب وتجميع العديد من المكتشفات وتوظيفها وإدماجها في تاريخه الخاص أو ضمنه، حيث إنَّ مجتمعات أخرى أهملتها أو أدرجتها في خانة النسيان.
ويستدرك ك. ل. ستروس أنَّه لا يودّ أن ينفي واقعة التقدُّم الإنساني، بل يريد ويدعونا إلى أن نتصوَّرها بأكبر قدر من الحذر. ويرى أنَّ الحضارة الغربيَّة هي الحضارة الأكثر تحقيقاً للتراكم من غيرها، ولكنَّ ذلك لا يعني أنَّ قسط التخيُّل والإبداع والجهد الخلَّاق هي ميزات خاصَّة بها، بل هي معطى ثابت عبر كلّ التاريخ الإنساني[8].
ويبدو أنَّ كلَّ مجهود البنيويَّة الأنتروبولوجيَّة ينتهي إلى تسجيل أنَّ كلَّ أشكال الحضارة التي يبدو أنَّها تتعاقب في الزمن، هي في الحقيقة تتواجد وتتناضد في المكان، تصوّر كما لو أنَّ التقدُّم الذي تتبنَّاه البنيويَّة، هو تقدُّم متقطّع وصدفوي وغير مؤكّد (Aléatoire).
الطفرات التقنيَّة والمعماريَّة التي حقّقتها بعض المجتمعات نتيجة الثروة النفطيَّة: فقد كسرت هذه الظاهرة الجديدة المتمثلة في حدوث تحوُّلات تقنيَّة ومعماريَّة التصوُّر المتمثل في النظر إلى الحداثة ككتلة كليَّة واحدة، وأبرزت أنَّ الحداثة مستويات متمايزة مفصليَّاً عن بعضها بعضاً: الحداثة التقنيَّة والحداثة التنظيميَّة (وأقصد بها الحداثة القانونيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة) والحداثة الفكريَّة/ الثقافيَّة. صحيح أنَّ هذه المستويات تتمايز، لكنَّها في الوقت نفسه متداخلة ومتلاحمة فيما بينها. لكنَّ هذه التجربة التاريخيَّة الجديدة لبلدان الخليج العربي والتجربة الإيرانيَّة وربَّما اليابانيَّة والصينيَّة تبيّن بالملموس أنَّ المجتمعات يمكن أن تدلف المستويات الدنيا من الحداثة، بحيث تحقّق درجات مختلفة من الحداثة التقنيَّة، والدرجات الأولى من الحداثة التنظيميَّة، وتلامس العتبة الأولى للحداثة الفكريَّة/ الثقافيَّة، لكنَّها لا تخطو بعيداً في دربها الفكري والفلسفي، فقد تلامس المستويات الإبستمولوجيَّة الأولى للحداثة الفكريَّة المتمثلة في العقلنة المنهجيَّة، لكنَّها بفعل بنيتها الثقافيَّة ذاتها، وبخاصَّة في مكوّناتها الميتافيزيقيَّة، لا تستطيع أن تتخطَّى العتبات اللاحقة، لأنَّها تصطدم ببنياتها الثقافيَّة التقليديَّة، تصطدم بالبنية الثقافيَّة النموذجيَّة للحداثة، وهو اصطدام تفجيري ولا يخلو من عنف ومن آثار لها مفعول سلبي على بنيتها الفكريَّة التقليديَّة، وذلك بسبب المحتوى أو المحتويات الفكريَّة العميقة للبنية الثقافيَّة للحداثة.

4ـ التباسات ما بعد الحداثة: هناك التباس كبير يلازم مفهوم ما بعد الحداثة: هل هي فترة تاريخيَّة جديدة؟ هل هي عصر أم مجرَّد بنية فكريَّة وثقافيَّة جديدة؟ هل ما بعد الحداثة قطيعة مع الحداثة أم مجرَّد استمرار نقدي لها؟ ولكي لا نرتمي أو نغرق في نقاش فلسفي وفكري حول ما إذا كانت «ما بعد» الحداثة نقيضاً للحداثة وإنكاراً لها أو استمراراً لها بشكل آخر، نورد رأيين أوَّلهما لفرانسوا ليوتار رائد ما بعد الحداثة ومطلق شرارتها يقول فيه: «لقد قلت وكرَّرت مراراً إنَّ ما بعد الحداثة لا يعني بالنسبة إليَّ نهاية الحداثة أو النزعة الحداثيَّة (Modernisme) بل يعني فقط حصول علاقة أخرى مختلفة مع الحداثة»[9].
كما نورد – بهدف الإجمال – قولة حاسمة للباحث السوسيولوجي الهنغاري (Zigmunt Bauman) «إنَّ ما بعد الحداثة هي الحداثة وقد تخلّت عن أوهامها»[10].

نعم، لقد شاع في الثقافة العربيَّة الحديثة تصوُّر زمني للحداثة باعتبارها مرحلة تاريخيَّة جديدة. وقد كرَّس هذا المعنى تصوُّراً خطيَّاً للحداثة على أنَّها مراحل تاريخيَّة متلاحقة يمسك بعضها بالبعض الآخر. فما بعد الحداثة هي الفترة التاريخيَّة والفكريَّة اللاحقة للحداثة، وبالتالي فهي فترة أو مرحلة ضروريَّة تاريخيَّة جديدة مجاوزة للحداثة.

وهكذا تمَّ التعلّق بفكرة ما بعد الحداثة وتمَّ الترويج لها على نطاق واسع، وهذا الالتباس ليس خاصَّاً بالثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، بل هو التباس حادث في الغرب نفسه.

هناك مستويات عديدة لتطوُّر الحداثة: التطوَّر العلمي/ التقني، والتطوَّر السياسي بما يلازمه من عنف ومن مروق وتراجع، من تقدُّم وارتداد، والتطوُّرات الاجتماعيَّة المختلفة على مستوى الأسرة وعلاقات القرابة وسلوك الأفراد وعلاقات الأفراد بالمؤسَّسات، وأخيراً المستوى الفكري والثقافي.

ارتبطت الحداثة تدريجيَّاً بتسارع إيقاع التاريخ في كافة مستويات الكليَّة الاجتماعيَّة. ونودُّ هنا أن نركّز على نوعين من التسارع: التسارع التقني الاجتماعي والتسارع الفكري والفلسفي.

كلّما تحرَّر الإنسان من القوى اللَّامرئَّية غير المتحكّم فيها ومن الأساطير، فإنَّه دون وعي واضح منه، يخلق سلطاً أخرى تتغيَّا الهيمنة بشكل لا يقلُّ استبداداً

ارتبطت الحداثة في مراحلها الأولى، وبخاصَّة منذ منتصف القرن التاسع عشر في الغرب، بنشأة وتطوُّر المجتمع الصناعي، المتمثل في الاستعمال الموسّع للتقنية في الإنتاج وانعكاساته في البيت والمدرسة، وفي العقلنة الصارمة للإدارة والتحكُّم في مجال السياسة والسلطة، وقد أظهر بعض الباحثين أنَّ الكليانيَّة أو التوتاليتاريَّة هي نتاج هذه المرحلة التاريخيَّة، وفي متطلبات الإنتاجيَّة.

وقد صاحب هذه المرحلة الظافرة من الحداثة الصاعدة آمال واسعة ويوتوبيات حالمة (منها الاشتراكيَّة) على أساس أنَّ التقدُّم الصناعي/ التقني سيحرّر المجتمعات من الخصاص ومن الضعف أمام الطبيعة، وسيحقّق سعادة البشر أفراداً وشعوباً.

لكن ابتداء من الحربين الكبيرتين في أوروبا بدأ يتبلور نوع من انحسار وتباطؤ عمليَّة الابتهاج بالعالم التي اعتبرها ماكس فيبر سمة ملازمة للحداثة، من حيث هي «قفص فولاذي». إذا ميّزنا في التحوُّلات العميقة التي صاحبت الحداثة الظافرة في الغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر والآمال والبشائر والوعود التي حملتها حول الحريَّة والعقلانيَّة والسعادة والعدل وركَّزنا على الجانب الفكري والفلسفي، حيث تتنامى تحليلات تقييميَّة ناقدة للحداثة (في الأدب، في الفلسفة والعلوم الاجتماعيَّة (السوسيولوجيا)) وجدنا أنها تتراوح بين الرفض العنيف والقبول الجزئي والموقف الوسطي التوفيقي، تحليلات تتراوح ملامحها الفلسفية بين النزعة الشكيَّة والنزعة الفوضويَّة والنزعة المحافظة، والراديكاليَّة، وهي اتجاهات يقسمها بعض الباحثين إلى صنفين كبيرين:

1- اتجاهان يتَّسمان بالرفض الجذري: أحدهما محافظ (الدعوة إلى العودة إلى ما قبل الحداثة)، والآخر شكيَّة وفوضويَّة داعية إلى ما بعد الحداثة.

2- اتجاهان تتبنَّى الحداثة فيهما موقفين مزدوجين تجاه الحداثة: الأوَّل لا تقبل التطوُّرات العقلانيَّة الأداتيَّة للعلم والتقنية، وتحيل الأخلاقيَّات إمَّا إلى الدولة أو إلى الدين، بينما يتبنَّى اتجاه ثانٍ يميل إلى الاعتراف بمفهوم واسع للعقل العملي والنظري، لكنَّها متشبثة (biaisée) بلحظة معيَّنة من تاريخ الحداثة[11].

من الأفكار الأساسيَّة لما بعد الحداثة:

– نهاية الاعتقاد في التقدُّم.

– نهاية أو موت الذات الفاعلة (Sujet) وظهور فردانيَّة منكفئة، والانتقال من تصوُّر للذات كفاعل متناسق داخليَّاً ومعياري، إلى تصوُّر للذات ككيان منشطر بل متشظٍ.

– حصول تحوُّل كبير نحو الاستهلاك وتحوُّل المجتمع إلى مجتمع استهلاكي.

– تناقص البهجة أو الابتهاج بالعالم نتيجة تضاؤل بشائر التحرُّر، وشيوع نوع من العدميَّة أو التشكّك تجاه الحداثة بسبب تحوُّل العقلنة التحرريَّة إلى عقلنة حديديَّة أو فولاذيَّة تضبط المجتمع والأفراد وتخضعهم (فوكو).

– نهاية الحكايات الفكريَّة السرديَّة الكبرى في الغرب (الماركسيَّة الوجوديَّة – التحليل النفسي وغيرها من النظريَّات التفسيريَّة الكبرى) بما تحمله من تبريرات وجوديَّة للأنظمة السياسيَّة. في دراسته المتميزة حول «سوسيولوجيَّات الحداثة» يصف الباحث (Martuccelli) التحوُّلات اللاحقة في المجتمعات الغربيَّة قائلاً:

«تبدو هويَّة الأفراد باهتة وعائمة، بينما لم تعد مشاريع حياة الأفراد قادرة على الارتكاز على عوالم صلبة الدلالة، كما أنَّ تشكيلات الهويَّات الفرديَّة لا تستطيع تجاوز أو تخطي خفوت بهجة الذات وغياب بهجة العالم إلا بطريقة مؤقتة وعارضة.

بالنسبة إلى كتاب ما بعد الحداثة، فإنَّ الروابط الاجتماعيَّة قد انحلّت سلسلة من اللقاءات العرضيَّة، والهويَّات ما هي إلا سلسلة دوريَّة من الأقنعة، وتاريخ الحياة الشخصيَّة ما هو إلا سلسلة من الحلقات تربطها ذاكرة باهتة، والهويَّات الفرديَّة ليست إلا نسخا مكرورة palimpsestes))، وكلَّ حياة ما هي إلا مجموعة عرضيَّة من الأطراف المكوّنة لها»[12].

التطوُّر المتسارع للحداثة على ثلاثة مستويات كبرى: المستوى التقني – المستوى التنظيمي (الاقتصاد – المجتمع – السياسة) المستوى الثقافي أدَّى إلى نوع من الالتباس في تصوُّر الحداثة، كما تجلّى ابتداء من الارتباك في التسمية إلى الارتباك في تحليل المضمون إلى التصنيف إلى طيف السمات والعوامل إلى المواقف المتراوحة بين الرفض والقبول.

أدخلت هذه الموجات التقنيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة على التلقي العربي أولاً: انكسار الكثير من المرايا، ثانياً: انضباب وانبهام الرؤية، ثالثاً: تضارب المواقف تجاه كلٍّ من الحداثة وما بعد الحداثة، رابعاً: لهاث فئات واسعة من المثقفين والأدباء والباحثين الأكاديميين إلى تتبُّع واتباع موجات ما بعد الحداثة على أساس أنَّها مجاراة للتطوُّر واسترشاد واستلهام بآخر التقليعات الفكريّة، بما يعنيه ذلك من دليل على الحضور والمتابعة والتطوُّر.

5- يصطاد المثقف التقليدي هذه التحوُّلات العميقة المتسارعة في الغرب ليقول إنَّ الحداثة تمَّ تخطيها وتجاوزها في الغرب الذي انتقل إلى مرحلة تاريخيَّة جديدة اجتماعيَّاً وفكريَّاً هي مرحلة ما بعد الحداثة، وأنَّ هذه تجبُّ ما قبلها. وقد ذهب الأمر لدى قطاعات واسعة من المثقفين إلى حدّ القول إنَّ الحداثيين العرب يسعون إلى لبس الحداثة بعد أن لفظها أصحابها وحوَّلوها إلى خرقة بالية يتهافت الحداثيون العرب مزهوّين على التحافها.

التحوُّلات التقنيَّة والتنظيميَّة والثقافيَّة نفسها تلتقطها المؤسَّسات الإقليميَّة الثقافيَّة الإقليميَّة العربيَّة والإسلاميَّة وتبلورها وتروّجها كأدوات ثقافيَّة دفاعيَّة أو تسويغيَّة أو أدوات للمقاومة، وهو ما يفسّر سهولة رواجها وتداولها الواسع في الحقلين الثقافي والسياسي، والتسويق الواسع لمقولات ما بعد الحداثة وتعدّد الحداثات، وأنَّ لكلّ مجتمع حداثته الخاصَّة، وأنَّنا إن لم نكن قد دلفنا باب الحداثة فنحن على مشارفها.

والخلاصة: الحداثة سيرورة تاريخيَّة كليَّة للعصور الحديثة، سيرورة مركَّبة وعنيدة، تولد لذاتها كيفيَّات ووسائط الانتشار عالميَّاً، بدرجات وسرع وتدرجات مختلفة عبر عدَّة مستويات أو عتبات، أوَّلها الحداثة التقنيَّة، وهي أيضاً مستويات ودرجات، والحداثة التنظيميَّة ابتداء من الاقتصاد إلى السياسة مروراً بالبنية الاجتماعيَّة، وأخيراً الحداثة الفكريَّة أو الثقافيَّة التي هي الشرط اللازم المضمر الذي يمكن أن يتحوَّل إلى معيار حاسم في تقييم كلّ المستويات والعتبات الأخرى للحداثة.

[1]. نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 12

[2]. Habermas Jürgen: Discours philosophique de la modernité, Tr. Fr. Gallimard 1985, P6.

[3]. Marcel Gauchet: Le monde moderne est sous le signe de l’ignorance, Interview avec Matthieu Giroux, Revue Philosophie 9 octobre 2014.

[4]. Habermas Ibid. p 39-45.

[5]. D.Shayegan: Qu’est ce qu’une révolution religieuse? Paris les presses d’aujourd’hui 1982 chapitre 3.

[6]. David Apter: L’état contre l’état, Economia 1988. 3 الفصل

[7]. M. M.Lipiansky: le structuralisme de C. L. Strauss, p.245.

[8]. Ibid p262-263.

[9]. André Breten: Modernité et postmodernité: un enjeu politique, p107.

[10]. Zigmunt Bauman: Sociologie, la modernité liquide.

[11]. A. Breten. نفسها الدراسة

[12]. Danilo Martuccelli: Sociologies de la modernité, Gallimard 1999, p559.


الكاتب : محمد سبيلا

  

بتاريخ : 28/08/2021