المفكر والفيلسوف محمد سبيلا .. فارس الحداثة وحارس الأنوار 26

من «الحداثات» إلى الحداثة -4

رحل عنا المفكر الكبير، والمناضل الاتحادي الأصيل، محمد سبيلا . وبرحيله، يفقد النضال الديموقراطي الذي أعطاه الفقيد أزهى أيام عمره والفكر الحداثي الذي اهداه عصارة عقله وتفكيره فارسا شهما دافع باستماتة عن أفق إنساني رحب وقيم كونية في خدمة المغرب الحر ، منذ فجر الاستقلال، كما يفقد المغرب والعالم العربي أحد المفكرين الكبار ورائد من رواد الحداثة بالمغرب.
انشغل الراحل، على نحو شامل، بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و»عقلنة» الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. كما كان يرى أن الانتقال الفكري والثقافي هو انتقال بطيء وعسير، أو بعبارة أخرى أن الزمن التاريخي وزمن التحول الاجتماعي يختلف عن الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن بطيء، والانتقال إلى الديمقراطية -الذي يعد رهان العالم العربي- دون الانتقال إلى ثقافة الحداثة، لأن هناك اقتباسا فقط لجزء من الحداثة، هو الحداثة السياسية.
وقد كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة «أقلام» و«آفاق الوحدة» و«الفكر العربي المعاصر» و«المستقبل العربي». كما ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة «مخاضات الحداثة» و«في الشرط الفلسفي المعاصر» و«حوارات في الثقافة و السياسة» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«الأصولية والحداثة»، وترجم كتاب «الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» للويس ألتوسير، فضلا عن «التقنية – الحقيقة – الوجود» لمارتن هايدغر، و«التحليل النفسي» لبول لوران أسون، و«التحليل النفسي» لكاترين كليمان.
في ما يلي، نعيد نشر مجموعة من المقالات والحوارات التي أنجزها الراحل، ونشرها في مجموعة من المنصات المغربية والعربية، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عنه وعن فكره..

 

4ـ التباسات ما بعد الحداثة: هناك التباس كبير يلازم مفهوم ما بعد الحداثة: هل هي فترة تاريخيَّة جديدة؟ هل هي عصر أم مجرَّد بنية فكريَّة وثقافيَّة جديدة؟ هل ما بعد الحداثة قطيعة مع الحداثة أم مجرَّد استمرار نقدي لها؟ ولكي لا نرتمي أو نغرق في نقاش فلسفي وفكري حول ما إذا كانت «ما بعد» الحداثة نقيضاً للحداثة وإنكاراً لها أو استمراراً لها بشكل آخر، نورد رأيين أوَّلهما لفرانسوا ليوتار رائد ما بعد الحداثة ومطلق شرارتها يقول فيه: «لقد قلت وكرَّرت مراراً إنَّ ما بعد الحداثة لا يعني بالنسبة إليَّ نهاية الحداثة أو النزعة الحداثيَّة (Modernisme) بل يعني فقط حصول علاقة أخرى مختلفة مع الحداثة»[9].
كما نورد – بهدف الإجمال – قولة حاسمة للباحث السوسيولوجي الهنغاري (Zigmunt Bauman) «إنَّ ما بعد الحداثة هي الحداثة وقد تخلّت عن أوهامها»[10].
نعم، لقد شاع في الثقافة العربيَّة الحديثة تصوُّر زمني للحداثة باعتبارها مرحلة تاريخيَّة جديدة. وقد كرَّس هذا المعنى تصوُّراً خطيَّاً للحداثة على أنَّها مراحل تاريخيَّة متلاحقة يمسك بعضها بالبعض الآخر. فما بعد الحداثة هي الفترة التاريخيَّة والفكريَّة اللاحقة للحداثة، وبالتالي فهي فترة أو مرحلة ضروريَّة تاريخيَّة جديدة مجاوزة للحداثة.
وهكذا تمَّ التعلّق بفكرة ما بعد الحداثة وتمَّ الترويج لها على نطاق واسع، وهذا الالتباس ليس خاصَّاً بالثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، بل هو التباس حادث في الغرب نفسه.
هناك مستويات عديدة لتطوُّر الحداثة: التطوَّر العلمي/ التقني، والتطوَّر السياسي بما يلازمه من عنف ومن مروق وتراجع، من تقدُّم وارتداد، والتطوُّرات الاجتماعيَّة المختلفة على مستوى الأسرة وعلاقات القرابة وسلوك الأفراد وعلاقات الأفراد بالمؤسَّسات، وأخيراً المستوى الفكري والثقافي.
ارتبطت الحداثة تدريجيَّاً بتسارع إيقاع التاريخ في كافة مستويات الكليَّة الاجتماعيَّة. ونودُّ هنا أن نركّز على نوعين من التسارع: التسارع التقني الاجتماعي والتسارع الفكري والفلسفي.
كلّما تحرَّر الإنسان من القوى اللَّامرئَّية غير المتحكّم فيها ومن الأساطير، فإنَّه دون وعي واضح منه، يخلق سلطاً أخرى تتغيَّا الهيمنة بشكل لا يقلُّ استبداداً
ارتبطت الحداثة في مراحلها الأولى، وبخاصَّة منذ منتصف القرن التاسع عشر في الغرب، بنشأة وتطوُّر المجتمع الصناعي، المتمثل في الاستعمال الموسّع للتقنية في الإنتاج وانعكاساته في البيت والمدرسة، وفي العقلنة الصارمة للإدارة والتحكُّم في مجال السياسة والسلطة، وقد أظهر بعض الباحثين أنَّ الكليانيَّة أو التوتاليتاريَّة هي نتاج هذه المرحلة التاريخيَّة، وفي متطلبات الإنتاجيَّة.
وقد صاحب هذه المرحلة الظافرة من الحداثة الصاعدة آمال واسعة ويوتوبيات حالمة (منها الاشتراكيَّة) على أساس أنَّ التقدُّم الصناعي/ التقني سيحرّر المجتمعات من الخصاص ومن الضعف أمام الطبيعة، وسيحقّق سعادة البشر أفراداً وشعوباً.
لكن ابتداء من الحربين الكبيرتين في أوروبا بدأ يتبلور نوع من انحسار وتباطؤ عمليَّة الابتهاج بالعالم التي اعتبرها ماكس فيبر سمة ملازمة للحداثة، من حيث هي «قفص فولاذي». إذا ميّزنا في التحوُّلات العميقة التي صاحبت الحداثة الظافرة في الغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر والآمال والبشائر والوعود التي حملتها حول الحريَّة والعقلانيَّة والسعادة والعدل وركَّزنا على الجانب الفكري والفلسفي، حيث تتنامى تحليلات تقييميَّة ناقدة للحداثة (في الأدب، في الفلسفة والعلوم الاجتماعيَّة (السوسيولوجيا)) وجدنا أنها تتراوح بين الرفض العنيف والقبول الجزئي والموقف الوسطي التوفيقي، تحليلات تتراوح ملامحها الفلسفية بين النزعة الشكيَّة والنزعة الفوضويَّة والنزعة المحافظة، والراديكاليَّة، وهي اتجاهات يقسمها بعض الباحثين إلى صنفين كبيرين:
1 – اتجاهان يتَّسمان بالرفض الجذري: أحدهما محافظ (الدعوة إلى العودة إلى ما قبل الحداثة)، والآخر شكيَّة وفوضويَّة داعية إلى ما بعد الحداثة.
2 – اتجاهان تتبنَّى الحداثة فيهما موقفين مزدوجين تجاه الحداثة: الأوَّل لا تقبل التطوُّرات العقلانيَّة الأداتيَّة للعلم والتقنية، وتحيل الأخلاقيَّات إمَّا إلى الدولة أو إلى الدين، بينما يتبنَّى اتجاه ثانٍ يميل إلى الاعتراف بمفهوم واسع للعقل العملي والنظري، لكنَّها متشبثة (biaisée) بلحظة معيَّنة من تاريخ الحداثة[11].
من الأفكار الأساسيَّة لما بعد الحداثة:

نهاية الاعتقاد في التقدُّم

– نهاية أو موت الذات الفاعلة (Sujet) وظهور فردانيَّة منكفئة، والانتقال من تصوُّر للذات كفاعل متناسق داخليَّاً ومعياري، إلى تصوُّر للذات ككيان منشطر بل متشظٍ.
– حصول تحوُّل كبير نحو الاستهلاك وتحوُّل المجتمع إلى مجتمع استهلاكي.
– تناقص البهجة أو الابتهاج بالعالم نتيجة تضاؤل بشائر التحرُّر، وشيوع نوع من العدميَّة أو التشكّك تجاه الحداثة بسبب تحوُّل العقلنة التحرريَّة إلى عقلنة حديديَّة أو فولاذيَّة تضبط المجتمع والأفراد وتخضعهم (فوكو).
– نهاية الحكايات الفكريَّة السرديَّة الكبرى في الغرب (الماركسيَّة الوجوديَّة – التحليل النفسي وغيرها من النظريَّات التفسيريَّة الكبرى) بما تحمله من تبريرات وجوديَّة للأنظمة السياسيَّة. في دراسته المتميزة حول «سوسيولوجيَّات الحداثة» يصف الباحث (Martuccelli) التحوُّلات اللاحقة في المجتمعات الغربيَّة قائلاً:
«تبدو هويَّة الأفراد باهتة وعائمة، بينما لم تعد مشاريع حياة الأفراد قادرة على الارتكاز على عوالم صلبة الدلالة، كما أنَّ تشكيلات الهويَّات الفرديَّة لا تستطيع تجاوز أو تخطي خفوت بهجة الذات وغياب بهجة العالم إلا بطريقة مؤقتة وعارضة.
بالنسبة إلى كتاب ما بعد الحداثة، فإنَّ الروابط الاجتماعيَّة قد انحلّت سلسلة من اللقاءات العرضيَّة، والهويَّات ما هي إلا سلسلة دوريَّة من الأقنعة، وتاريخ الحياة الشخصيَّة ما هو إلا سلسلة من الحلقات تربطها ذاكرة باهتة، والهويَّات الفرديَّة ليست إلا نسخا مكرورة palimpsestes))، وكلَّ حياة ما هي إلا مجموعة عرضيَّة من الأطراف المكوّنة لها»[12].
التطوُّر المتسارع للحداثة على ثلاثة مستويات كبرى: المستوى التقني – المستوى التنظيمي (الاقتصاد – المجتمع – السياسة) المستوى الثقافي أدَّى إلى نوع من الالتباس في تصوُّر الحداثة، كما تجلّى ابتداء من الارتباك في التسمية إلى الارتباك في تحليل المضمون إلى التصنيف إلى طيف السمات والعوامل إلى المواقف المتراوحة بين الرفض والقبول.
أدخلت هذه الموجات التقنيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة على التلقي العربي أولاً: انكسار الكثير من المرايا، ثانياً: انضباب وانبهام الرؤية، ثالثاً: تضارب المواقف تجاه كلٍّ من الحداثة وما بعد الحداثة، رابعاً: لهاث فئات واسعة من المثقفين والأدباء والباحثين الأكاديميين إلى تتبُّع واتباع موجات ما بعد الحداثة على أساس أنَّها مجاراة للتطوُّر واسترشاد واستلهام بآخر التقليعات الفكريّة، بما يعنيه ذلك من دليل على الحضور والمتابعة والتطوُّر.
5 – يصطاد المثقف التقليدي هذه التحوُّلات العميقة المتسارعة في الغرب ليقول إنَّ الحداثة تمَّ تخطيها وتجاوزها في الغرب الذي انتقل إلى مرحلة تاريخيَّة جديدة اجتماعيَّاً وفكريَّاً هي مرحلة ما بعد الحداثة، وأنَّ هذه تجبُّ ما قبلها. وقد ذهب الأمر لدى قطاعات واسعة من المثقفين إلى حدّ القول إنَّ الحداثيين العرب يسعون إلى لبس الحداثة بعد أن لفظها أصحابها وحوَّلوها إلى خرقة بالية يتهافت الحداثيون العرب مزهوّين على التحافها.
التحوُّلات التقنيَّة والتنظيميَّة والثقافيَّة نفسها تلتقطها المؤسَّسات الإقليميَّة الثقافيَّة الإقليميَّة العربيَّة والإسلاميَّة وتبلورها وتروّجها كأدوات ثقافيَّة دفاعيَّة أو تسويغيَّة أو أدوات للمقاومة، وهو ما يفسّر سهولة رواجها وتداولها الواسع في الحقلين الثقافي والسياسي، والتسويق الواسع لمقولات ما بعد الحداثة وتعدّد الحداثات، وأنَّ لكلّ مجتمع حداثته الخاصَّة، وأنَّنا إن لم نكن قد دلفنا باب الحداثة فنحن على مشارفها.
والخلاصة: الحداثة سيرورة تاريخيَّة كليَّة للعصور الحديثة، سيرورة مركَّبة وعنيدة، تولد لذاتها كيفيَّات ووسائط الانتشار عالميَّاً، بدرجات وسرع وتدرجات مختلفة عبر عدَّة مستويات أو عتبات، أوَّلها الحداثة التقنيَّة، وهي أيضاً مستويات ودرجات، والحداثة التنظيميَّة ابتداء من الاقتصاد إلى السياسة مروراً بالبنية الاجتماعيَّة، وأخيراً الحداثة الفكريَّة أو الثقافيَّة التي هي الشرط اللازم المضمر الذي يمكن أن يتحوَّل إلى معيار حاسم في تقييم كلّ المستويات والعتبات الأخرى للحداثة.

هوامش

[1]. نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 12
[2]. Habermas Jürgen: Discours philosophique de la modernité, Tr. Fr. Gallimard 1985, P6.
[3]. Marcel Gauchet: Le monde moderne est sous le signe de l’ignorance, Interview avec Matthieu Giroux, Revue Philosophie 9 octobre 2014.
[4]. Habermas Ibid. p 39-45.
[5]. D.Shayegan: Qu’est ce qu’une révolution religieuse? Paris les presses d’aujourd’hui 1982 chapitre 3.
[6]. David Apter: L’état contre l’état, Economia 1988. 3 الفصل
[7]. M. M.Lipiansky: le structuralisme de C. L. Strauss, p.245.
[8]. Ibid p262-263.
[9]. André Breten: Modernité et postmodernité: un enjeu politique, p107.
[10]. Zigmunt Bauman: Sociologie, la modernité liquide.
[11]. A. Breten. نفسها الدراسة
[12]. Danilo Martuccelli: Sociologies de la modernité, Gallimard 1999, p559.02

 


الكاتب : محمد سبيلا

  

بتاريخ : 30/08/2021