المقاومة الريفية من خلال الشعر الأمازيغي الريفي

 

لم تكن حركات المقاومة المغربية التي جابهت مشاريع الغزو الاستعماري لبلادنا خلال العقود الأولى للقرن الماضي، مجرد ردود أفعال مسلحة ضد واقع القهر الاستعماري. كما أنها لم تكن مجرد مواجهات مفتوحة أمام فعل التحدي والصمود، ولا مجرد أصداء لوقع السلاح ولحوافر الخيل التي دنست تراب الوطن. فالمقاومة، قبل كل ذلك، شكلت صرخة مجتمع ناهض، اعتبر لغة التصدي للاستعمار، جسره المفتوح نحو الانخراط في العصر والفعل فيه وتوجيهه. كانت المقاومة البطولية الأولى التي انطلقت من البوادي المغربية مباشرة عقب شيوع خبر التوقيع على عقد الحماية يوم 30 مارس من سنة 1930، وربما قبل ذلك بقليل، تعبيرا عن نهاية مرحلة الدولة المركزية التقليدية، في مقابل صعود أصوات الأقاصي والهوامش للدفاع عن انتمائها الأصيل وعن شعورها الوطني الذي ظل يتجدد وينبعث كلما تعرض الوطن لخطر الغزو والاحتلال. لذلك، غطت المقاومة المسلحة كل جهات البلاد، وكان لها أبطالها الأفذاذ الذين سجلوا سيرهم بمداد من البطولة والإقدام. فمن أحمد الهيبة ماء العينين بالصحراء، إلى موحا أوحمو الزياني بالأطلس المتوسط، ومرورا بمحمد بن عبد الكريم الخطابي بالريف، وعسو باسلام بالأطلس الكبير، وانتهاءً باللائحة الطويلة لرجال الفخر والعطاء، استطاع سجل المقاومة تسجيل ملاحم وبطولات لا شك وأنها تشكل أزهى عناصر النبوغ المغربي المتجدد والإرادة المغربية القوية والصرخة الوطنية المدوية.
وبما أن حركة المقاومة المسلحة شكلت ظاهرة مجتمعية غير معزولة عن محيطها المحلي والإقليمي والوطني، فقد تحولت جزئيات عطائها إلى موروث جماعي كان حجر الأساس في ترصيص مجمل عناصر الذاكرة الجماعية لمغاربة عقود النصف الأول من القرن العشرين. لذلك، فقد عاش الجميع حدث المقاومة بأشكال متعددة، بالسلاح أو بالتأطير أو بالتموين أو بالاحتفاء أو بالتدوين. لقد تحولت دروس المقاومة إلى مجال ملهم للمخيال الجماعي المغربي، فكانت النتيجة، تحقيق تراكم هائل من الموروث الرمزي الشفاهي الذي تغنى بتراث المقاومة وبتجاربها داخل أتون معارك الحرية والاستقلال. ونظرا للأهمية الحضارية والإبداعية والإنسانية الكبرى لهذا التراث الرمزي، فقد أضحى رافدا مهما من روافد الدراسة التاريخية المتخصصة في رصد إبدالات خطابات العمل الوطني التحرري، سواء منه السياسي أم المسلح. وبدا واضحا تزايد الوعي بقيمة هذا التراث، ليس فقط على مستوى قدرته للتوثيق لما لا يمكن التوثيق له داخل تفاصيل التراث الرمزي اللامادي، ولكن -أساسا- بالنظر لقيمه الإنسانية الواسعة ولمضامينه الجمالية الخالدة ولأبعاده التحررية النبيلة.
في إطار هذا التصور العام، يندرج صدور الطبعة الثانية من كتاب «المقاومة الريفية من خلال الشعر الأمازيغي الريفي- دهار أوبران نموذجا»، للأستاذ عبد الصمد مجوقي، ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، سنة 2021، في ما مجموعه 135 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول عموما، إن الكتاب يقدم متنا تجميعيا رائدا لتراث شفاهي شعري خصب وغني أنتجته منطقة الريف في سياق مجابهتها لمسار الغزو الاستعماري الإسباني لبداية القرن 20، مع ما ارتبط به من بطولات وملاحم صنعها رجال الوطنية بامتياز، وعلى رأسهم المقاومين محمد الشريف محمد أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي. ولقد أوضح المؤلف أفقه المنهجي العام في البحث وفي التقصي بشكل دقيق، عندما قال في كلمته التقديمية: «كان العزم والقصد هو تناول المقاومة الريفية من خلال الشعر الأمازيغي الريفي، دهار أوبران نموذجا، باعتماد المنهج الوصفي الذي يتيح إمكانية دراسة الظاهرة كما توجد بالواقع، وعلى اعتبار أنه منهج مناسب لمعالجة الموضوعات البكر، والموضوعات التركيبية، والموضوعات القائمة على جمع المواد وتحقيقها وتوثيقها. وقد وقع الاختيار على هذا الموضوع بالنظر إلى أن الشعر الريفي هو سجل كل الأحداث والتقلبات التي عرفتها منطقة الريف، والتعرف عن قرب عن تمثل الطبقات الشعبية لهذه المقاومة. ولست أبالغ حين أجزم أن التيمة الرئيسية للشعر الريفي في فترة الحماية، وخاصة مع اندلاع المقاومة الشعبية، هي تيمة الحرب والمقاومة…» (ص ص. 15-16).
وعلى هذا الأساس، اختار المؤلف أداة إجرائية في نبشه وفي تنقيبه وفي تصنيفه للمرويات والشهادات والمتون التي اشتغل عليها. لذلك، فقد أخضع عمله لتبويب منهجي دقيق يستجيب للعمق العلمي الذي طبع العمل سواء على مستوى طرق تجميع المادة الخام، أم على مستوى طرق تصنيفها وتفكيك بناها وصورها واستعاراتها الجمالية والإنسانية المتميزة. وللاستجابة لمعالم هذا الأفق العام، اهتم المؤلف في القسم الأول من الكتاب بالبحث في أشكال حضور المقاومة الريفية في الشعر الأمازيغي الريفي، معرفا ببنى هذا الشعر وبأنماطه وبخصائصه، ورابطا بين مضامينه وبين مختلف المحطات التي ميزت تجربة الشريف محمد أمزيان أولا ثم محمد بن عبد الكريم الخطابي ثانيا. ولبلورة البعد الإجرائي في عمله، خصص المؤلف القسم الثاني من الكتاب لتجميع مرويات «دهار أوبران»، مركزا على تجميع النصوص المنشورة للأساتذة البوعياشي والشامي ولحميمي وخلفي، إلى جانب النصوص التي تغنى بها بعض الموسيقيين بالريف، وتحديدا فرقة الشيخ موحند وفرقة إثران وفرقة الوليد ميمون وفرقة أحمد الرياني ومحمد شاشا. وعزز المؤلف تجميعه بمجموعة كبيرة من الروايات الشفوية غير المنشورة والتي لازالت متداولة بين أبناء منطقة الريف إلى يومنا هذا.
وبذلك، استطاع المؤلف تقديم مادة خام هائلة، لا شك وأنها تفتح الباب أمام إمكانيات مسترسلة للتوظيف وللاستثمار. ويبدو أن المؤلف قد نجح في تذليل الكثير من العوائق التي اعترضت عمله، خاصة وأن المجال يظل مكتنفا بالكثير من المنغلقات التي جعلت الموضوع صعبا في مقارباته العلمية وفي مداخل تفكيك خطاباته وتحليلها. ولعل هذا ما عبر عنه الأستاذ مجوقي بشكل دقيق، عندما قال: «إن محاولة التأريخ للمقاومة الريفية بالاعتماد على الشعر الشعبي / الريفي تطرح مجموعة من العوائق والصعوبات، قد تدخل الباحث في متاهات نادرا ما يخرج منها سالما… كما لا يتأتى لنا استمداد الوقائع والحقائق التاريخية من هذا المنتوج الشعبي، ما لم نكن خبرنا بشكل جيد مسارات وسياقات الأحداث…» (ص. 16). وإذا أضفنا إلى ذلك ما يعتري الذاكرة من أعطاب النسيان ومن آفة التحريف، أمكن القول إن العمل لم يكن سهلا بالنسبة للمؤلف، إذ تطلب منه الكثير من الجهد ومن الصبر ومن الأناة، استثمارا لخصوبة عطاء موضوع يتجاوز في امتداداته حقل الدراسات الأدبية، ليشمل مجالات علمية مجاورة، مثل التاريخ واللسانيات والسوسيولوجيا. وبذلك، فالكتاب يقدم أرضية لأسئلة البحث في التاريخ الثقافي غير المدون، في خصائصه المحلية المميزة، وفي إشراقاته الوطنية الواسعة والممتدة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 06/05/2022