(1)
سمح فعل طوفان الأقصى المتمثل في عملية مقاومة الشباب الفلسطيني للاستعمار الاستيطاني في فلسطين، للفلسطينيين والعرب، ولكل الأحرار في العالم، بولوج أبواب المقاومة مجددًا. تمت عملية الطوفان الجارف في المستوطنات الإسرائيلية المحاصرة لغزة… وكنت قبل إطلاق الطوفان بشهر كامل قد سقطت صبيحة يوم 9 شتنبر/ أيلول على الأرض بفعل تعثر في المشي، ترتب عنه كسر حاد أعلى رجلي اليسرى، ولم أكن أعتقد لحظة سقوطي وصياحي من ألم التمزق، أن في إمكاني أن أقف ثانية… كان السقوطُ مدويًا، وقد اكتويت فيه بنيران الكسر، وجروح نتوءات العظم المكسور. وما أذكره جيدًا صياحي، وفزع المارة مما شاهدوه وما سمعوا به لحظة السقوط، كان الحدث أشبه ما يكون بمشهد مسرحي.
توالت أحداث عديدة في قلب مشروع التحرير الفلسطيني، أبعدته عن تطوير وتنويع طرق وأدوات المقاومة والتحرير. ومقابل ذلك، لم تتوقف الآلة الصهيونية عن ابتكار ما يسعفها بمزيد من إسقاط المقاومة ومشروع التحرير. وخلال ثلاثين سنة التي تلت اتفاق المبادئ، ومشروع سلطة الحكم الذاتي في الضفة والقطاع، استأنس الصهاينة بجبروتهم، وواصلوا سياساتهم الرامية إلى مزيد من التمييز العنصري، ومزيد من الاستيطان والضم، كما واصلوا توسيع دوائر التطبيع، تمهيدًا لبناء الملامح الكبرى لشرق أوسط جديد!
كنت قد استأنست بالسقوط منذ أصبت سنة 2008 بشلل نصفي مباغت، لحق الجانب الأيمن من جسمي، ومع مرور الزمن، ورغم كل التحسن الذي عرفته بفعل العلاج بالترويض، أصبحت أعاني من الارتخاء الحاصل في الجانب الأيمن من جسمي. لم تعد اليد اليمنى والرِّجل اليمنى تتمتعان بالقوة والاستقلالية التي كانت لهما قبل الإصابة المذكورة. ورغم أنني سقطت أكثر من مرة بفعل أشكال الوهن التي لحقتني، إلا أن صور السقوط التي حصلت لي قبل حادث السقوط المصحوب بالكسر، لم تكن تشبه ما أحسست به أثناء سقوطي الأخير… إن سقوط هذه المرة جعل جسمي يرتعش، ولم أتمكن من مغالبة ما أصابني من آلام إلا بعد دخولي غرفة العمليات، وخضوعي لعملية جراحية استغرقت ساعتين، قام فيها الفريق الطبي بجمع العظم المكسور، لتبتدئ عمليات التطبيب والترويض، التي تقتضيها العمليات المماثلة لما أصابني.
(2)
أتابع في الغرفة التي دخلتها للعلاج، العلامات الكبرى لصوّر المقاومة الجديدة، المقاومة التي فجّرها طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول في فلسطين المحتلة… المقاومة التي كنت أتطلع إليها وأنا أُعاَيِن حالات الْوَهَن الفلسطيني والعربي، حصل ذلك بعد شهر من سقوطي… نسيت جرحي الذاتي، نسيت عِلَلِي، وانخرطت في معركة المواجهة التي فجّرها الطوفان في صفوف جيوش الاستعمار الصهيوني، الذي يواصل ترسيخ احتلاله بالحديد والنار، وبالاستيطان والضم، منذ ما يزيد على سبعة عقود. لم أتوقف عن المتابعة، وبدا لي أن شباب المقاومة صنعوا بمعركة طوفان الأقصى طفرة في مسلسل المقاومة الفلسطينية المتطلعة إلى وَقْف مختلف صور الطغيان الصهيوني، وَقْف وتكسير كثير من أساطير الصهيونية وحلفائها، حيث من المنتظر أن تعيد معركة اليوم المتواصلة لمسألة المشروع الوطني الفلسطيني وهجه وصفاءه… إنها خطوة أساسية في دروب التحرير الطويلة، دروب التضحيات والمقاومات التي لا تنقطع إلا لتبتدئ مجددًا… المقاومة الجديدة انطلقت لتعيد الاعتبار لمبدأ التحرير، الذي بدأ يتآكل في ضوء وعود السلام، وحكايات دولة واحدة أم دولتان؟ ومختلف التراجعات الحاصلة اليوم في موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
نسيت آلام السقوط وأوجاع العظم المكسور، كما نسيت مختلف صور التراجع الحاصلة في الجبهة الفلسطينية، وفي المحيط العربي، ونسيت بيانات القمم العربية الأخيرة… كنت أتابع وحيدًا في غرفة المصحة ما جرى ويجري اليوم في فلسطين، بعد تدفق مياه الطوفان الجارفة، وتغطيتها لمساحة الأرض المغتصبة، كانت الأخبار متضاربة، وكان الغرب الذي صنع للصهيونية دولة في قلب فلسطين، قد استطاب فكرة ربط المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، ومنح جرائم الاستيطان الإسرائيلي مشروعية الدفاع عن النفس… كانت متابعتي لجرائم الكيان الصهيوني من السماء ومن البر والبحر قد ضاعفت من عزلتي، ومن الأحاسيس التي كانت تنتابني تحت ضغط ما لحقني من وَهَن، وترتبط من جهة بعجزي أمام كَسْرٍ أفقدني القدرة على الوقوف والحركة، ولم يعد في إمكاني الكتابة كما تعودت، تعبيرًا عن موقف، أو خيار سياسي.
أُعَايِن عجز النظام العربي عن مواجهة جرائم الحرب في غزة، حيث تتم عمليات إبادة جماعية لسكانها، وحيث يتم هدم مساكنها ومدارسها ومستشفياتها، ومختلف ما بنت من بنيات تحتية، مرتبطة بشروط عيشها في ظرف الاحتلال، إضافة إلى عجز مؤسسات المنتظم الدولي عن وقف الغارات الإسرائيلية على مدن ومخيمات الأرض المحتلة، وعجزه عن وَقْف الاقتحامات التي تواصل القيام بها فوق كامل التراب الفلسطيني… وكذا عجزه عن وَقْف ما لحق ساكنتها من قطع للماء والكهرباء والغاز، وكذا إغلاق المنافذ التي تسمح لهم بِتَلقّي المساعدات المتعلقة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل حالة الحرب العدوانية، التي تعكس عمق الإصابة التي لحقت الصهاينة، وهم يواصلون بكثير من الغطرسة والعنف الاعتقاد بأنهم شعب الله المختار، في الوقت الذي يمارسون فيه أدوارًا محدّدة ومرسومة من طرف الذين منحوهم الأرض، ورتبوا أفق تمكينهم من حراسة مصالحهم في المشرق العربي زَمَنَ المدّ الاستعماري.
(3)
يزورني الطبيب بعد مرور أسبوعين على إجراء العملية الجراحية، فيخبرني بأن جبر العظم المكسور يتطلب ما يقرب من شهرين… أستمع إليه وأنا مُمَدَّدٌ فوق فراشي لا أتحرك، أشاهد يوميًا الدخان يتعالى والنيران تتصاعد والمساكن تتهدّم فوق رؤوس أهلها من النساء والشيوخ والأطفال في فلسطين المحتلة، حيث يُواصل الكيان الصهيوني ردود فعله الانتقامية المجنونة، على ما لحقه من رجّة عنيفة جراء الطوفان، الذي جرف ذات ليلة أغلب الأساطير التي ركَّبها، وأصبح يؤمن أنها عنوان سؤدده وجبروته ومستوطناته على أرض فلسطين… لا يتردد قادة خلية الحرب في الغرب ومن يمثلهم في إسرائيل، من تكرار مفردة الإبادة والقتل وإخلاء غزة، إخلاء أرضها وبحرها وتاريخها ومخيماتها… تتوالى الأيام والضربات، يتوالى إلحاق الضرر بشعب أعزل أمام العالم، أواصل التمدد جريحًا مكسور الرِّجْل والخاطر من كل ما أشاهد وأسمع… ومن عجزي وعجز العرب، وكذا عجز كثير من الأحرار في العالم، عن إيصال الحليب والدواء والأغذية إلى سكان غزة، وقد تساقطت بيوتهم ولحقها الخراب من ضربات عدو تسنده القوى الغربية، بعد أن مَكَّنَته في مطالع القرن الماضي من جوهرة الشام، فلسطين، بكل ميراثها التاريخي الحامل لعلامات كبيرة من تاريخ الإنسانية وأمجادها…
مُمَدَّدٌ فوق سريري، ينتابني فزع كلما تابعت أخبار ما يجري في فلسطين، ولأن الحرب اليوم لم تعد كما كانت بالأمس، ولأنها تُمارس بأشكال ووسائل متعددة، فقد اختلطت فيها الأحداث والوقائع بالصور وبالأكاذيب… وأصبح فيها لوسائط التواصل الاجتماعي حضور مكثَّف… اختلط كل ما يجري بالصوّر المفبركة والفعلية، ولم يعد التمييز بينهما ممكنًا. كما اختلطت بالأساطير والكوابيس وحروب الأفلام، ولم يعد في إمكان أحد أن يدعي بأنه أقرب إلى معاينة ما يجري… أصبحنا أمام حالات من الانهيار مخيفة…
أكملت فوق سريري شهرين مُمَدّدًا، لم أتوقف فيهما عن معاينة الحرائق والخراب في حواضر ومخيمات غزة… كانت الحرب قد أكملت شهرًا كاملًا من القصف والتخريب والقتل، من دون أن يَرِفّ للقائمين على تدميرها جفن، ومن دون أن ينتبهوا إلى صور القتل والتهجير والإبادة، ومختلف الجرائم التي يمارسونها بكثير من العجرفة أمام أنظار العالم، أشاهد الخراب وأُعايِن الجثث وأجسام الجرحى، يتقلص ويختفي جرحي بفعل المقاومة أمام عشرات الأجساد المثخنة بجروحها وكسورها… تدفن عشرات الجثث تحت خراب الأبنية، التي تتساقط بفعل الضربات الانتقامية المجنونة، لكي تعكس عنوان نصر ساهم الطوفان في ترتيب ملامحه وعلاماته يوم 7 أكتوبر الماضي.
أُعايِن عجزي وعجز الأحرار في العالم، أتماثل للشفاء، وأقف، يملأني الخوف والحزن، أشعر بعودة الروح إلى المشروع الوطني الفلسطيني، وأتأكد من أصوات زغاريد النصر التي فجرت كل هذه الحرائق، أردّد مع المتظاهرين والغاضبين في المدن الكبرى في العالم أجمع شعارات وأغاني التحرير… أعانق المقاومة وهي تعود من بعيد، بعد أن اعتقد الصهاينة أنهم في طريق تعميم أساطير السلام!