المقومات السردية في «مرافئ الوجع» للقاص الحسن أيت العامل

– على سبيلِ التقديم:

مُنذُ أنْ خُلق الإنسانُ تذوق طعمَ الوجع؛ ففي الجنة تذوقَ آدمُ وجعَ مكْرِ إبليسَ وإغرائه، وقابيلُ قتل أخاه فتوجع، خاصة لما رأى الغرابَ يواري سوءةَ أخيه. إذن، فالوجعُ حالٌ كونيةٌ يُحسها الإنسانُ والحيوانُ، والنباتُ هو الآخر يتوجع، لكنّ الوجعَ لم يتمّ رصدُه إلا مع الذاتِ الإنسانيةِ التي تسعدُ وتحزنُ، وتبكي وتتوجع. كما أن الوجعَ لم يكن، يوما، وقفا على النساء وحدهن، وإنما يشتركن فيه مع الرجال، ومن ثم، فالاختلافُ بينهما هو اختلافٌ من حيثُ الدرجةُ لا النوع.
وبعد هذه الإطلالةِ السريعةِ على الوجع، سنحاولُ تتبعَ المقوماتِ السرديةِ في «مرافئ الوجع»، وهي مجموعةٌ قصصيةٌ للقاص المغربي، الحسن أيت العامل، صدرت عن جمعية المبدعين الشباب سنة 2019م.
– حول العنوان:
وقبل ذلك، أجدنا مطالبين بالوقوف عند عنوان المجموعة الذي يُدخل القارئَ في حيرة السؤال، ويدفعُهُ إلى رحابة التأويل؛ إذ كيف ستكون للوجع مراكبُ ومرافئُ، وبالتالي، فإننا نقولُ إن دلالةَ العنوانِ تُمثلُ بنيةً دلاليةً صغرى، يتوسلُ بها القارئُ ليصلَ إلى البنية الدلالية الكبرى للنص ككل. ومنه، فمرافئُ الوجعِ كثيرةٌ ومتعددةٌ، منها: الذكرى، والمستقبل الغامض، والحب، والخيانة، وظلم الأوطان، وجور الحكام، وغدر الأقارب والزمان، والفقر، والبطالة والفاقة، والعطش، والأمية، واندحار القيم، وسيادة الأسطورة والخرافة، والبؤس، والموت. فكلُّ هذه المرافئِ تُوجعُ الإنسانَ وتؤلمُه، لكنّ الفردَ المثقفَ الذي يملكُ قيما ومبادئَ، يتوجع ويتأوه أكثرَ من غيره؛ لأنه يحلمُ بغدٍ أفضلَ، ثم يراه شبهَ مستحيلٍ بوجود هذه المرافئِ الموجعة.
وهكذا، يمكننا أن نقولَ إن المرافئَ التي رصدناها أعلاه، فضلا عن قضايا وجودية، ودينية، وفكرية فلسفية، وأدبية، ونفسية، كلها تشكل مواضيعَ ومادةً سرديةً للمؤلف، وكلّها تشكلُ عالما سرديا خاصا بها، وهذا الأخيرُ لا يخلو من السخرية التي تُضحك وتُبكي، في الوقت نفسه، كما نجد في قصتي «الجاذبية» و» حمُّو». فلئن كانتِ الناقدةُ اللبنانيةُ، يمنى العيد، قد أكدت أن ثقافةَ الهامشِ والمتداولِ جديرةٌ بتوفير مرجعيةٍ لخطابٍ روائيٍّ عربي، فإننا نرى أن المؤلفَ قد جعلَ منْ مرافئ الهامشِ الموجعةِ مادةً خصبةً لسرده، وعالما سرديا يتطلب مقوماتِه، ما مكنهُ من صياغةِ الهامشي والمسكوتِ عنه في خطاب سردي قصصي اعتمادا على مقومات تخييلية، وفنية قصصية حديثة.
– القوى الفاعلةُ:

اختار المؤلفُ شخصياتٍ متنوعةً بين الآدميين، والحيوانات، والجماد، ومن ثم، فإنه استطاعَ أن يؤنسنَ الحيوانَ، ويُنطقَ الجمادَ ويجعلَه مساهما في تحريك دينامية السرد نحو النهاية، وهذه الشخصياتُ المتنوعةُ قريبةٌ منه، إنْ على مستوى بيئته، أو مرجعيته وذخيرته المعرفية. ثم حاول أن يقسم أدوارَها، ويُنطِقها بأفكاره وتصوراته حول: الانطولوجيا، والسرقات الأدبية (القلم، والورقة…)، والصراع بين القديم والحديث، أو قضايا اجتماعية (الفقر، العطش…)، أو فلسفية (ديكارت)، أو نفسية (فرويد (اللا شعور)، أبيقور (اللذة))…
– الزمان:

سيتبين القارئُ أن ثمة أزمنةً تتناوب بين الماضي، حين يعودُ مسارُ السردِ إلى الذاكرة بناءً على التذكر والاسترجاع، والحاضر، لما يقفْ وقفةَ تأملٍ، ومعاينةٍ أمام قضاياه، والمستقبل من حيثُ استشرافُ مستقبلٍ مزهر، وغدٍ أفضلَ، ومنه، فإن الزمن، هنا، ينصهرُ وسطَ الأحداثِ والوقائع، إلا أنه يكون، دوما، متطلعا إلى المستقبل في أغلب القصص. فالساردُ، عبر شخوصه وأفعالها، وحالاتها وتحولاتها، يعود إلى الوراء خطوةً، ليلقيَّ نظرةً متفحصةً على الحاضر، ثم يشيح بوجهه نحو المستقبل المرغوب فيه. وهكذا، يغدو الزمنُ عنصرا بنائيا في الفنية السردية القصصية في المجموعة.
– الفضاء:

تتنوع الأمكنةُ لتشكلَ فضاءاتٍ متباينةً، وهذا ما يدفعُ بالقارئ إلى الانفتاح على السياق الخارجي للنص، فالقرية، والضريح، والمقبرة، والمدرسة… إلخ، تشكل فضاءً قرويا ذا قيمٍ ومبادئَ، وعاداتٍ وتقاليدَ خاصةٍ به، والشيءُ نفسُهُ ينسحبُ على فضاء المدينة، والذي يتشكل من: الدار البيضاء، وورزازات، والجنوب، والشوارع، والقصدير … إلخ، ومن ثم ينقل لنا قيما مغايرةً لقيم القرية؛ كالإنساني في القرية، والمادي في المدينة، وغيرها من القيم كثير، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، نجد أن الجامعةَ قد مثلت فضاءً آخر، له قيمُه، وأحداثُه، ووقائعُه العالقةُ في ذاكرةِ المؤلف الضمني. كما أن لهذه الفضاءاتِ المتنوعةِ بعدا نفسيا يتجلى في العلاقة الجدلية التي تربطها مع الشخصيات من حيثُ التأثرُ والتأثيرُ.
– ملاحظاتنا حول المجموعة:
– الجمعُ بين القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا،
– اعتمادُ لغةٍ سرديةٍ متضمنةٍ لمختلِف مكونات السرد الحديث: الاسترجاع، الحذف، تعدد الساردين، تنوع المنظور أو التبئير…إلخ،
– تنوعُ السردِ بين سرد الشخص الثالث (مهيمن على القصص)، والشخص الأول (نمثل له بقصة «ما أكثر ثرثرتك يا حسن…)، والشخص الثاني، ونمثل له بقصة «بائعة الورد» (… كنتِ لما انقضَّ عليكِ البوليس… ص: 49)، وقصة «مجاز».
– توظيفُ الحوارِ بين الشخوص لتمرير قيم، وتصورات، وأفكار، وأدلوجةِ المؤلف الضمني،
– المزاوجةُ بين الوصف الداخلي والغوصِ في أعماق الشخصيات، والوصفِ السريع الخارجي، كما أن الوصف تركّز على الأماكن أكثر من الشخوص في أحيان كثيرة،
– تقديمُ المجموعة معارفَ متنوعةً للقارئ، وهذا دليلٌ على غنى ذخيرة المؤلف،
– إحالةُ بعض الشخصيات (ديكارت، نجيب محفوظ، فرويد، وبروست، وكنفاني…)، وبعض القرائن اللسانية (اللذة التي تحيل على أبيقور) على مرجعية المؤلف المتنوعة،
– حضورُ المعجمِ القرآنيِّ الذي وردتْ ألفاظُه وبعضُ آياتِه في السرد.
وبعدُ، أجدنا مطالبين بالتنويه بهذه النصوص القصصية الممتعة، والتي تنمُّ عن مدى اطلاع الكاتب على تقنيات السرد الحديث، واعتماده عناصرَ تُكسرُ الجمودَ والرتابةَ في الكتابة السردية، فضلا عن كونها قد جمعت بين القصة القصيرة، والقصيرة جدا، مقدمةً قيما ومعارفَ للقارئ، ومتطلعةً إلى المستقبل بكل ما يحمله من آمال وأحلام. كما تبقى هذه القراءةُ السريعةُ محاولةً منا لرصد خصائصِ ومقوماتِ السرد في القصة القصيرة، والتي بينتْ لنا أن المجموعةَ تحتاج إلى قراءاتٍ متعددة، حتى تسلطَ الضوءَ على جوانبَ كثيرةٍ تستحق البحثَ والتحليلَ. وهكذا، نقول للمؤلف ما قاله درويش، مرة أخرى: «قف على ناصية الحلم وقاتل».


الكاتب : محمد الورداشي

  

بتاريخ : 08/02/2020