يشغل المكون الرحلي المبدعَ في رواية «جنة الفلاسفة» ليبين أثره في الشخصيات وما يترتب عنه من تغيير.
فالشخصيتان المحوريتان لم تعودا كما كانتا قبل الرحلة، فقد صارتا مختلفتين بفعل التجارب التي خضعتا لها، ونجحتا في عملية اختبار الفكر.
وإذا كان التغيير هو الهدف المعلن وتقوم الكثير من القرائن النصية دالة عليه؛ إلا أننا نعثر على هذه الفقرة الطويلة التي توحي بالهدف المضمر منها، تقول الفيلسوفة في كتابها وبصوتها الخاص:
ترى ألم يكن كل ما حدث مفكرا فيه، ألم أكن مدفوعة برغبة لا واعية على الأقل، لأفعل ما فعلت، ألم يكن عقلي الباطني هو ما دفعني للتفكير في السباحة، وأن أتجرد من كل ملابسي دفعة واحدة، ثم ما الذي جعلني أستلذ العوم وأستمر فيه، كان من الممكن أن أرتمي في الماء لفترة قصيرة وأغادره، لكنني مكثت هناك وانني مغيبة عن الوعي، أو قل إن شئت إنني بكامل وعيي انتظر حضوره، وكأن إيروس كان يوسوس لي من طرف خفي، أن امكثي هناك حتى يحدث أمر كان مفعولا. لا يمكن لأحد أن يقتنع أن كل ذلك حدث صدفة، وأنني لم أسع إليه…
رغم أنني أجزم أنني أبدا لا أفكر في إثارة الأستاذ، لكن مع ذلك أعجبني أن يرى جمالي سافرا، هكذا في هذا المكان المميز على ضفة البحيرة. ثم من يدري؟ ألم تكن هذه المغامرة كلها من أجل أن يحدث ذلك؟.. لست متأكدة من شيء لكنني لا أبرئ نفسي. كما أنني لا أبرئه هو كذلك.. «ص 66.
في المكون الرحلي تم بسط الرغبة الثاوية في أعماق الشخصيتين والتي لم يتم تحريرها إلا خارج المكان المألوف. فالبحيرة فاعل أساسي في تحقيق البغية إذ أنها تستدعي السباحة، والسباحة تستدعي التجرد من الملابس، وهو نوع من الستريبتيز مارسته الفيلسوفة بقصد وعن عمد لتحريك هوى الأستاذ وإثارته. أي أنها تعمدت إخراج ما في نفسيهما من رغبات وبسطتها على أرض الواقع بغاية امتحانه. هو أيضا كان يخفي هذه الرغبة، وقد أدركت بحدس الأنثى نيته غير المعلنة، لربما لوضعيته الاعتبارية،. ولجعله يخرجها من القوة إلى الفعل، تعمد اقتراح الرحلة ظاهرها التغيير وامتحان الأفكار وباطنها الرغبة في التلاقي.
الفقرة رغم طولها هي بمثابة بوح قصدت منه الفيلسوفة شرح أبعاد فعلها، فهي في خلوتها قادرة على قراءة الوضع وتحليله وتفكيك عناصره، وقراءتها على ضوء العقل.
والفقرة جمعت بين المقدس والأسطوري حتى لا نقول المدنس، أي جمعت الآية القرآنية الكريمة: حتى يحدث أمر كان مفعولا. ووسوسة إيروس التي اتخذ بهذا الفعل صورة الشيطان.
وبناء عليه، لم تكن الرحلة إلا في نفس الشخصية المحورية، أقصد: الفيلسوفة التي ظلت متمحورة حول فكرها وشغبها في طرح الأسئلة ومناورة الأستاذ، وحان دور إظهار ما تمتلكه من جمال جسدي، فهي أنثى قبل كل شيء، وحلمها أن تشعر بأن أستاذها هو المنبهر بها فكرا وجسدا، لكنه كان يناور لإخفاء هذا الافتنان بالجسد.
هي رحلة في أرض المتعة التي بقيت جرداء إلا أن جاء الماء ليخلصها من ترددها ويجعلها عارية أمام نفسها وأمام الأستاذ، إنها لحظة التجلي التي ستجد اكتمالها في «جنة الفلاسفة» بعد أن يكون الجسد قد اكتملت دورة ارتوائه، فما عاد مرتبكا، لقد تحقق الإشباع وتمكنت النفس من تحقيق توازنها بعد اختلال، فالاهتمام بمكون على حساب آخر يقود إلى اللاتوازن، مما يربك الشخصية ويجعلها غير قادرة على استكمال حياتها إلا بجعل طرفي المعادلة في حالة اكتمال، فكان النشوة في النهاية جزاء وإثابة.
ولا بأس من أن نكرر حديثنا عن رمزية الماء في الرواية بناء على هذه الرحلة ذات الطابع الاستكشافي لنفسية الشخصيتين:
رمزية الماء في الرواية:
ثراءٌ دلاليٌّ مُتعدّد الأوجه
يُعدّ الماء عنصرًا أساسيًا في الحياة، ورمزًا غنيًا بالدلالات في الرواية.
تتنوع دلالات الماء في الرواية باختلاف سياقه واستخدامه، لكن بشكل عام، يمكن ربطه بالمعاني التالية:
1-الحياة والنماء:
يُمثّل الماء مصدر الحياة على الأرض، وعنصرًا ضروريًا لنموّ جميع الكائنات الحية.لذلك، تم استخدام الماء في الرواية لتمثيل بداية جديدة، أو أملٍ في المستقبل، أو إمكانية التغيير والتحول.
2- التطهير والنقاء:
يُعتقد في العديد من الثقافات أنّ الماء يمتلك خصائص تطهيرية، ويُمكنه غسل الخطايا والذنوب.
لذلك، استخدم الماء في الرواية لوصف رحلة الشخصية نحو التنقية الروحية.
3- اللاوعي والعواطف:
يرتبط الماء غالبًا بالعواطف والأحاسيس، حيث تُستخدم صور البحار والأنهار والمحيطات لتمثيل مشاعر عميقة مثل الحبّ والكراهية والخوف.
وقد مثل الماء ي اللاوعي، أو تلك الأفكار والمشاعر التي تُخفى عن الوعي والتي ظلت مكبوتة .
4-المرونة والتكيف:
يتمتع الماء بقدرةٍ كبيرة على التكيف مع محيطه، حيث يتغير شكله ليلائم أي وعاءٍ يُوضع فيه. وقد وظف الماء في الرواية لتمثيل المرونة والتكيف، و لوصف قدرة الشخصية على التغلب على الصعاب.
في النهاية، تُعدّ رمزية الماء في الرواية ثريةً ومتعددة الأوجه، حيث تم استخدامها لتمثيل مجموعة واسعة من المعاني والأفكار.
إنّ فهم رمزية الماء في أي روايةٍ يُساعد القارئ على فهم الشخصيات والأحداث بشكلٍ أعمق، واكتشاف المعاني الضمنية للنص.