في زمن تربوي يتأثر يوميا بالتحولات الرقمية المتسارعة، حيث تتداخل العوالم الافتراضية مع تفاصيل الحياة اليومية للأطفال واليافعين و الشباب … وتتحول الشاشات الصغيرة إلى نوافذ واسعة على العالم وإلى فضاءات موازية قد تجرف الوعي وتعيد تشكيله، يبرز سؤال جوهري حول قدرة المجتمعات على حماية فتيانها وفتياتها من الاستلاب الثقافي والاغتراب الاجتماعي الذي تفرضه التكنولوجيا حين تصبح غاية لا وسيلة.
ان ما يثير الاهتمام و يفرض على الجميع الانتباه إليه اليوم هو ما يشكله العالم الافتراضي من مخاطر متوسطة و بعيدة المدى على الطفولة و الشباب، حيت أصبح ابناؤنا اليوم عرضة لفيض من الصور والمقاطع والرسائل اللحظية التي تسلبه متعة الاكتشاف البطيء، وتجرده من التفاعل الحي مع محيطه، وتضعف حسه النقدي، وتحد من قدرته على بناء علاقات إنسانية حقيقية.
وفي مواجهة هذا المشهد، تقف الجمعيات التربوية الجادة كحصون متقدمة، ليست في معركة ليست ضد التكنولوجيا، بل في سعي لاستعادة التوازن بين ما هو رقمي وما هو إنساني، وبين ما يقدمه الافتراض وما يتيحه الواقع من إمكانات للنمو والتطور الطبيعي .
إن تجربة الملتقى الوطني لليافعين الذي تنظمه جمعية الشعلة للتربية والثقافة بمدينة أكادير تحت شعار خمسة عقود من الفعل الجاد و الملتزم بقضايا الطفولة و الشباب بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسها، تقدم مثالا حيا وملهما على هذه الأدوار، حيث اجتمع مائتا يافع ويافعة قدموا من ثلاثين مدينة مغربية، يحملون معهم تنوع اللهجات والعادات، واختلاف المرجعيات الثقافية والحضارية، ليشكلوا معا لوحة فسيفسائية تمثل جوهر التعدد الذي يميز المجتمع المغربي، فساعات قليلة بعد انطلاق الملتقى كانت كافية لتذوب المسافات، وتتراجع الحواجز، ويبدأ الحوار العفوي بين أبناء الشمال والجنوب، والشرق والغرب، في مشهد يعكس قدرة الفعل الثقافي التربوي على صناعة الوحدة من التنوع، وعلى تحويل الاختلاف إلى مصدر إغناء متبادل. هذه الكثافة البشرية وهذا العشق اللامتناهي للجمعية وما تقدمه من برامج وأنشطة ليسا أمرا عابرا أو نتيجة ظرفية، بل هي مؤشرات على حاجة حقيقية تعيشها هذه الفئة العمرية للانخراط في مشاريع ذات معنى، مشاريع تمنحهم الفرصة ليكونوا فاعلين لا متلقين، وتعيد إليهم الإحساس بقدرتهم على الإبداع والتأثير، وهنا تحديدا يتضح أن الفعل التربوي الذي تمارسه الجمعيات يعتبر في جوهره رافعة أساسية في مسلسل التنمية المستدامة، لأنه يستثمر في الإنسان قبل أي شيء، في وعيه وطاقاته وقيمه، ولأن التنمية التي لا تضع التربية والثقافة في صلب أولوياتها، تبقى ناقصة ومهددة بالهشاشة.
لقد صمم الملتقى الوطني لليافعين ليكون مساحة مفتوحة للتجريب والاكتشاف، حيث توزعت أنشطة المشاركين بين ورشات المسرح التي أطلقت العنان للطاقة التعبيرية، وورشات الشعر التي حولت الكلمات إلى جسور بين الحساسيات المختلفة، وورشات القصة القصيرة التي دربت الخيال على صناعة الحكايات و تمثل معانيها و قيمها و ابعادها السردية و صورها الجمالية ، إضافة إلى فضاءات القراءة والموسيقى والرقص والغناء الفردي والإنشاد الجماعي والفنون التشكيلية….، وكلها أنشطة شكلت ممارسات تربوية تزرع في النفوس قيم الحرية والمساواة والعمل الجماعي، واحترام الآخر، والحق في الاختلاف والقدرة على تدبيره والبحث عن الجمال، والأهم من ذلك أنها تحدث بعيدا عن ضوضاء التكنولوجيا المفرطة، فهنا لم يكن الهاتف الذكي سيد اللحظة، ولم تكن الخوارزميات هي من يقرر المحتوى الذي يستهلكه اليافعون، بل كان الواقع المباشر و حرية الابداع هما المصدر والمرجع، وكان التفاعل الإنساني الحي هو المحرك الأول لتجربة تربوية نتفردة.
وحسب منظور التحليل الاجتماعي، فإن مثل هذه الفضاءات تشكل ما يسميه علماء الاجتماع رأس المال الثقافي، أي ذلك الرصيد من المعارف والمهارات والقيم الذي يرافق الفرد طيلة حياته ويؤثر على مساره الاجتماعي والمهني، كما أنها تنتج رأس مال اجتماعي قائم على الثقة والتعاون وتوسيع الشبكات الإنسانية، وهي عناصر يندر أن تتحقق في بيئة رقمية مغلقة يحكمها منطق العزلة الفردية. واللافت أن الإقبال الكثيف على الملتقى يفند فكرة أن الشباب المغربي عازف بطبعه عن الثقافة، فالمشكلة ليست في انعدام الرغبة بل في غياب الإطار الجاذب الذي يمنح الثقافة معنى ويقرنها بالمتعة، فحيثما وجد اليافع مشروعا متكاملا تحكمه رؤية واضحة وقيم مشتركة، فإنه يندفع إليه بكل حماس، ويتحول إلى عنصر فاعل فيه، بل وسفير له بين أقرانه. هذا ما لاحظه مؤطرو الملتقى في الطريقة التي اندمج بها المشاركون منذ الساعات الأولى، وكيف انتقلت الحوارات بينهم من النقاشات البسيطة إلى تبادل الرؤى حول قضايا الحرية والديمقراطية والعيش المشترك، وهي مفاهيم لم تطرح كعناوين نظرية بل مورست في الحياة اليومية للملتقى، من خلال أسلوب اتخاذ القرار، وتقاسم المهام، وحل الخلافات بروح الحوار. وما يعزز قيمة هذه التجربة أن المشاركين أنفسهم هم أبناء زمن الرقمنة، جاؤوا من بيئات مشبعة بالتكنولوجيا، لكنهم وجدوا في الفعل التربوي الثقافي ما يمنحهم إشباعا أعمق من أي تفاعل افتراضي، اكتشفوا أن الإبداع ليس فقط أن تنتج محتوى يلقى الإعجاب على منصة ما، بل أن تبتكر مع آخرين فكرة أو عرضا أو نصا شعريا أو قصة قصيرة يتفاعل معه جمهور حقيقي أمامك، وأن لحظة التصفيق الصادق من زميل أو مؤطر لا يمكن استبدالها بأي عدد من الإعجابات الرقمية. هذه الحقيقة تفرض إعادة التفكير في موقع الفعل التربوي داخل السياسات التنموية الموحهة للطفولة والشباب، باعتباره استثمار استراتيجي في الرأس المال البشري، لأنه يساهم الى جانب مؤسسات التنشئة الاجتماعية في تكوين أجيالا قادرة على التفكير النقدي، والعمل الجماعي، والتكيف مع التغيرات المحتمعية ، وهي صفات أساسية لأي مشروع مجتمعي ناجح.
وإذا كان التحول الرقمي قدرا لا مفر منه، فإن التحدي الحقيقي يكمن في جعل الأطفال واليافعين وااشباب شركاء في صياغة هذا التحول بدل أن يكونوا مجرد مستهلكين سلبيين له، وهذا ما يمكن أن تقوم به الجمعيات التربوية بفعالية، لأنها تشتغل بالقرب من هذه الفئة، وتعرف حاجاتها وتطلعاتها، وتستطيع أن تدمج التكنولوجيا في أنشطتها بطريقة نقدية هادفة، تجعل منها أداة للتعلم والتكوين والإبداع لا أداة للهيمنة والاغتراب والاستلاب.
ولعل ما يجعل تجربة الملتقى الوطني لليافعين بأكادير جديرة بالتحليل والتعميم هو أنها جمعت بين ثلاثة عناصر نادرة التلاقي: التنوع الثقافي والحضاري الذي مثله المشاركون القادمون من ثلاثين مدينة، الفضاء التربوي المؤطر الذي وفرته جمعية ذات خبرة طويلة في العمل مع الشباب، والرؤية القيمية التي جعلت من الحرية والديمقراطية والعيش المشترك ممارسات يومية وليست شعارات، فكانت النتيجة حالة من الانغماس الجماعي في تجربة إنسانية غنية، أعادت للثقافة بريقها وللتربية معناها، وأثبتت أن الاستثمار في اليافعين هو الاستثمار الأكثر مردودية على المدى البعيد، لأنه يبني مواطنين أحرارا ومسؤولين وقادرين على الإسهام في تنمية مجتمعهم. وفي ضوء ذلك، يبدو أن السؤال لم يعد هل تحتاج التنمية إلى الفعل التربوي الثقافي، بل كيف يمكن تعزيزه وتوسيعه وضمان استمراريته، لأن غيابه يترك فراغا سرعان ما تملؤه منتجات رقمية عابرة للحدود، لكنها غالبا عابرة للمعنى أيضا، بينما حضوره يصنع أفقا جديدا يعيد وصل الأجيال بثقافتها، ويمد جسورا بين الحاضر والمستقبل على أساس من الوعي والقيم الوطنية والخضارية المشتركة.
الملتقى الوطني لليافعين… جمعية الشعلة تبني حصون الثقافة في زمن الاستلاب الرقمي

الكاتب : مراسلة خاصة
بتاريخ : 12/08/2025