المنتوج التلفزيوني الوطني : غير قابل للتصدير وحدوده الجغرافية لا تتجاوز المغرب

مضت شهورعديدة على انصرام شهر رمضان الماضي، ذلك الشهر المألوف بسمره وطقوسه الاجتماعية وأعرافه وعاداته التي تظهر وتختفي بتلازمه، وينماز عن باقي شهور السنة بفيض مشاعره المتلفزة العابرة للساعات وللأمزجة، لكن، لا أحد اليوم يذكر شيئا من ذلك، لاسيما تلك الساعات الطويلة من البث التلفزيوني الممل، الذي تم إعداد فقراته على عجل وتصريفها عبر وصفات إعلامية جاهزة ومكرورة النغمات.
مسلسلات تتمطط ضدا على الوقت، سيتكومات بنكهة الزفت، فكاهة كاميرا خفية بطعم آخر سفالة.. فلا تلاميذ المدارس ولا ربات البيوت، بإمكانهم اليوم استرجاع تلك الوصلات السخيفة السمجة إلا نادرا، وعلى منصات التواصل الاجتماعي للذكرى البئيسة. في مشهد يكاد يكون عقيما وغير جدير بالاسترجاع مثل الألم، كما لو كان نقاهة، وتطهيرا نفسيا لأولئك الذين دأبوا الالتفاف حول الشاشات الرمضانية من كل الأحجام، وأدمنوا متلازمة السخافة من كل الزوايا والأبعاد،ها هم اليوم بمنآى عن متابعة ركام المنتوج الموسمي الذي يطبل له المبرمجون بشتى الألحان والوصلات الدعائية المشروخة، كما لو كان للفرصة الأولى والأخيرة، ويقدمونه عادة قبيل الآذان، وبعد الإفطار كل سنة وسط طوفان إشهاري سافل ومريع.
يقول صديق صفحة فنون وإعلام وهو يداعب مفتاح هاتفه”مثل الفقاعات، تذهب مع الريح تلك السيول الجارفة من الوصلات الدعائية الثقيلة على القلب. ويصيف بنبرة ساخرة “كل تلك المنتوجات الموسمية بوصلاتها الإشهارية السخيفة، وبتفاهاتها ومجمل بثها الذي بلا معنى حقيقي سوى الربح، هي مجرد صفقات منتوجات مادحة، متزلفة تعاود الظهور بخبث مثل فواتيرالكهرباء والماء أو خدمات التطهير الصحي التي لا تترك أثرا لوجودها على أرض الواقع فتخلده هناك.
أما المتحدثة الأخرى فقد ضغطت بهدوء على وجنتيها، كان وجهها قد هزل، وأصبح شاحبا كشخص في مرحلة نقاهة، يتجول لأول مرة تحت أشعة شمس لافحة ثم قالت”اسمع رغم كهولته، لم يستطع هذا التلفزيون الفكاك من تجاربه البئيسة، سواء تلك التي يطبل لها أسابيع قبيل شهر رمضان ويسوق لها باعتبارها لألمع نجوم الفكاهة بالمغرب، أو تلك الطوافين من الإعادات بعد انصرام الشهر الفضيل، تصمت ثم تضيف”فمعظم ما يتم إنتاجه كان فكاهة أو دراما، هو سلسلة من الخيبات الباهظة الكلفة، إذ في كل مرة تتشرنق فيه الفظاعات والبشاعات كحنين، ما يحول المنتوج الى شاهد على مرحلة هشة هاربة بسرعة لافتة نحو النسيان..
وسرعان ما يتلقف الكلام أربعيني على الجانب الآخر، متسائلا”إلى أي حد يمكن اعتبار الأرقام القياسية للمشاهدة، التي تنتجها بعض هيئات الرصد الموضوعاتية لأسباب ترويجية بالأساس، ويتبجح بها في الغالب بعض المخرجين، دليلا على جودة المنتوج الفني؟ ويرى أن أكذوبة تحطيم الأرقام القياسية للمشاهدة، فتلك حكاية زيف من طراز رفيع، فلا فرجة هادفة ولا يحزنون، فقط ساعات تذكر بملل وفير يستحضر فيها الناس تلك الوجوه البئيسة التي تهرج قبيل الآذان بقليل، أو تجعل المتحلقين حول موائد الإفطار يشفقون لحالهم، خاصة بعد ظهورها بمظهرالفكاهة العرجاء، لا سيما أن معظم الفنانين الذين أتيحت لهم فرصة الظهور مرضى أو مصابون بأمراض مزمنة، ولا تغطية صحية لديهم، ويعتبرون موسم رمضان فرصة حقيقية لاستعراض عاهاتهم النفسية والجسدية، وينتظرون العلاج عبر حملات الشفقة والاستعطافعبر مواقع التواصل الاجتماعي أو على صفحات بعض الجرائد الوطنية، فكيف ننتظر من هؤلاء أعمالا إبداعية في المستوى؟
لتجيب صديقتنا الدكتورة فاطمة أحسين بتحد صامت، أولا حتى لا نقارن ما لا يقارن، المغرب ليس لديه صناعة فنية مثل تركيا والمكسيك وكوريا.. سواء في المسرح الموسيقى، الأفلام أو المسلسلات، وليس هناك استثمارات ضخمة في هذا المجال حتى يمكننا أن نتكلم عن صناعة الفن والنجوم الفنية، وأغلب الإنتاجات هي إنتاجات متوسطة أو ضعيفة نظرا للإمكانيات المسخرة لذلك العمل الفني، ومع كل الأسف تضيف فاطمة، عندما يكون العمل ضعيفا لا يمكن للشركات أن تقدم على الاستثمار في الدبلجة وتسويقه خارج الحدود، وتبقى هذه الإنتاجات كلها تعتمد على الدعم العمومي المحدود، وأغلب نجومنا الفنية “إن صح هذا التعبير محليا” لم تتح لها العالمية إلا بعدما هاجرت إلى دول لديها الصناعة الفنية حيث الشركات تستثمر في المجال، وبعد ذلك، جاءت مرحلة خلق قنوات خاصة تستثمر في المجال الفني وفق عقود من الفنانين، إذن يمكننا القول أن إنتاجاتنا الفنية هي نتيجة الصراع من أجل البقاء، حيث الفنان يصارع من أجل الظهور على الشاشات العمومية خاصة في شهر رمضان، او انتظار فرصة المشاركة في عمل فني عالمي ككومبارس أو لأدوار ثانوية عمل له مقوماته المالية عبر شركات كبرى تستثمر في المجال، وهو ما ليس متاحا للجميع، ويبقى الأمل هو إيجاد مستثمرين قادرين على خلق شركات لصناعة النجوم والفن.
ويختم جلستنا أحدهم بعنفوان: رغم أن الصحافة المكتوبة عبر ملاحقها الفنية الأسبوعية تشكل ترمومترا أمينا لهذه الحالة الكئيبة والمزرية، إلا أن الأوصياء عن تدبير هذا القطاع غير مكترثين بذلك، ما يجعل المجال الفني في بعدة السينمائي والمسرحي يوالي حصد الهزائم بحلول شهر رمضان من كل سنة، اليوم يبدو من المنطقي أن يسال هؤلاء أنفسهم عن سبب فشل أساليبهم في التدبير، وبالتالي، يقررون إعادة النظر في سياستهم في تقديم منتوج ثقافي يليق، حيال جمهور واع ومتعطش وناقد، وهو ما لا نعتقد أن أحدا من هؤلاء ينوي القيام به.
من شاء له حظه من المشاهدين المغاربة أخد قسط من عذاب العين، واستشراف ضغطه النفسي وخضوع معدته لإواليات قرحة المعدة، سيكون قد شاهد بضعا من منتوج رمضان التلفزيوني بالتأكيد. وأكاد أجزم أن معظم ما قدمه هذا الفرعون الاعلامي مجرد مشتل تجريبي لاستنبات مفهوم الضحك الجاف، وهي مواقف لن تخلق الفرجة المزعومة إلا لمن له عاهة الضحك، أما الفرجة الحقيقية التي تدمج المتلقي وتشاركه الفرحة في الفكرة والغاية وتجعله يطمئن أنه في أيد أمينة تصون رغباته وتلبي انتظاراته وحقه في الفرجة ككائن حي. فلم ير النور بعد.. وهو ما يجعل كل ما يبث من تفاهات مصورة مجرد استفزازات يائسة لإضحاك الكائن الميت الذي لا إحساس له، بالأحرى المشاهد الحي الذي يمتلك ذوقا وأسلوبا ونظرة حداثية للحياة.
يتبع 2/4


الكاتب : عزييز باكوش

  

بتاريخ : 25/02/2019