المنفى الوجودي

 

(1)

هل يجدي نفعا التفكير في هذه الحياة والتّيه في مرابضها المترامية،من أجل الإنصات لعبور نملة مثقلة بذخيرتها للشتاء القادم، لهديل الحمام اليقظ في شرفة يتيمة، لنقيق الضفادع في واد منسي من لائحة الجغرافيا ومكر التاريخ، لحفيف الشجر وهو يداعب ريحا عابرة ويحتضن شغب العصافير في صبيحة ربيعية، للصمت وهو يرخي سدوله على المدى في انتظار جلبة العالَم. أعتقد أن السؤال حول هذا أصبح أمرا مُغيّبا و مبتذلا وبدون جدوى، في نظر غالبية الناس الضّالّة عن جمال الله في هذا الكون الممتدّ في اللانهائي والسرمدي، والغارقة في تقنية أتت على الأخضر واليابس سواء على مستوى العلاقات الاجتماعية أو الإنسانية، أو على مستوى الحياة برُمّتها، بل إنّ طارحَه يُعتبر، خارج السياق، متخلّفا ومجنونا، وفي حالة شرود عن العالَم، ومجرياته المثيرة للكثير من الأسئلة المقلقة والشائكة والمتشابكة، والقضايا المحيّرة والمصيرية.
فإنسان الألفية الثالثة قيمَتُه في هذا الخواء الوجودي؛ وفي العطالة الفكرية وفي ذيوع ثقافة الضّحالة، تُغريهِ تفاهات الواقع وسطحيته، دون الوعي بأنّ هويته تفتقد للمعنى والدلالة ، فالتشييء والتسليع والتبضيع وانهيار القيم من ملامح القرن الواحد والعشرين، والسّعي إلى تجذير ثقافة السطح ومحاربة كلّ ما يحفّز الإنسان على إعمال التفكير و البحث عن العميق والجوهريّ في الذات والعالَم، كل هذه المظاهر من تجليات الهيمنة الرأسمالية التي تعمل ولاتزال على ترسيخ الثقافة المعولمة والمعلّبة. فالعولمة وما بعدها -رغم الرهانات و التّحدّيات الكبرى الّتي خاضها مهندسوها وصانعوها- لم تُؤْت أُكْلَها المأمول والمحلوم به، بقدر ما أثمرت أشواك الضياع والعيش في المنافي الداخلية والعِلل المستشرية في روح الإنسان المسلوب الإرادة ، وتحويل الإنسان إلى عَبْدٍ للآلة وللتقنية المعلوماتية، مما أفقده كينونته ووجوده، وحسّه وحدسه للتبصّر في ملكوت التغيرات المهولة، الّتي أصابت البشرية قاطبة. فأصبح مصيره رهين سياسات عالَمية تقوّض ما شيّدته الحضارات السالفة من صرْح قيميّ ذي أبعاد إنسانية، وتروم سنّ عبودية جديدة قوامها القهر الاقتصادي والشرخ الاجتماعي وثقافة معولبة. إن ماتمّ جرْده من مواصفات كارثية للوجود والموجودات يعطي حقيقة واحدة وموحّدة تكمن في أن العالَم يمرّ من مرحلة عصيبة تقوده إلى نهايته، وأن الإنسان والقيم- التي جاءت بها العقلانية الغربية- ما هي إلا آليات استعملتها القوى المتحكّمة في السياسة الدولية للتحكّم في مصير الشُّعوب التّوّاقة إلى التّحرّر والانعتاق من سطوة الغرب وصلافته وعنجهيته، وتجتهد في تقييد هذه المجتمعات بأغلال التبعية الهجينة وتكبيلها لتكون تحت سيادة رأسمالية تُعيد البشرية إلى سالف العهد، حيث الجَورُ والفكر الغابوي لسان حال المستقبل.
فالمنفى الداخلي محنة الإنسان المعاصر، وصفته وصورته، وسيرته المعطوبة في الوجود وماهيته المختلة، كما أنّه داخل الرقعة الجغرافية المنتمي إليها يشعر بالاغتراب الروحي و بالعزلة، ويغدو وجوده إقامة في النسيان،وقذفا في سجن قضبانه من قفاز، ولكنها أكثر شراسة من القضبان الحديدية، ممّا نجم عنه ظهور العديد من الظواهر الاجتماعية المشينة، والأمراض النفسية المستشرية بين صفوف فئات عمرية مختلفة، الأمر الذي يطرح العديد من الأسئلة المتعلقة بمستقبل الأمم وأحلام أفرادها ، كل هذا أدّى إلى تكريس أعراف جديدة وتقاليد مستنبتة في بيئة ملوثة على المستويات كافّة. وبالتالي ما السبل الكفيلة بالإنسان للتخفيف من هذه المنافي الوجودية ؟ وهل باستطاعة الإنسان أن يتغلّب عن المعوقات الحائلة لاستعادة القيم الإنسانية؟
أظن أن ما يجري، اليوم، من وقائع وأحداث ينبئ بميلاد الاستبداد والتحكّم في الرقاب والأرزاق بصيغة جديدة ومجدّدة للأدوات والوسائل، وهنا مكمن العطب الحضاري المعاصر.

(2)

إن واقع التّيه قائم الذات في وجود غارق في جحيم الهباء وسديم الغموض والالتباس، يؤسس لحياة أخرى، حياة البؤس الحضاري، والجرح الوجودي، وخلخلة القيم وامّحاقها من التداول والعيش اليومي، بإنتاج فكر مقنّع بالتقنية ذات الوجهين، وجه يبدو ظاهريا إيجابيا فيه خدمة للإنسان وتثوير للحضارة الإنسانية، ووجه باطنيا يحمل الشّرّ والخراب،العبودية والفناء. هذا الفكر الذي تسهر عليه مؤسسات عتيدة تنتمي جلّها للقوى العظمى؛ لن تجني منه البشرية سوى إفقاد كلّ ما يمكن أن يحافظ على قيمة الفرد داخل منظومة جماعية، إذ سيتحوّل إلى مادة/ سلعة سيتمّ تشكيلها وَفق مخططات هذه المؤسسات العالمية ، وما يشهده الواقع من انهيار في بورصة القيم داخل مجتمعاتنا المتخلفة والموجودة خارج أسئلة التاريخ والمفتقدة لإرادة حقيقية واضحة لرسم أفقها الحضاري واستقلاليتها، يكشف بالملموس أننا أصبحنا عبيداً لحضارة التكنولوجية ومشاريعها الخطيرة والمهدّدة لكينونة الإنسان. والأنكى من هذا أننا نوجد تحت سلطتها المتحكمة في العقول والمشاعر، في الرغبات والأهواء. هذه السلطة الجهنمية تتفنّن في جعل التقنية آلية من آليات الهيمنة والسيطرة، والطريق الأنجع لتصفية رهانات الأمم في بناء ذاتها وتقوية مجالات التقدّم والتّطوّر، ولاعجب في هذا فالترسانة التقنوية التي يمتلكها الغرب تُعطيه القدرة على القضاء على كلّ أمل في التخلّص من عبوديته وعنصريته، وذاك منفى مرعب يزرع الأفق بكوارث طبيعية وإنسانية ستكون مؤلمة في نتائجها ومخرجاتها.
هو منفى يزيد من طرح التساؤلات ويؤجج الرغبة في اقتحام الملتبس في الذات والوجود، وإحداث الهوّة بين الخير والشر، بين القيم واللاقيم، بين اللغة والأشياء، بين الوجود والموجود، بين الحقيقة والوهم، بين الشكّ واليقين، بين العقيدة واللاعقيدة، بين الأمل والألم، بين النور والعتمة، هذه الثنائيات تعبير واضح عن وجود أزمة إنسانية، تتطلب من الإنسان في كل بقاع المعمور الوقوف ولو برهة قليلة من الزمن للتفكير فيها وإعادة التساؤل حولها، بعبارة أخرى أن تكون موضوعا للتفكير والجدَل والتفكيك بغاية الخلوص إلى مخرج ينقذ البشرية من هذا المنفى الكاسح للبسيطة.

(3)

هل نستطيع الوعي بهذا السّقوط الذي نحياه؟
سقوط لم يكن مطروحا على الإنسان، بل جاء فجأة ليغيّر من منظوره إلى الحياة وعلاقته بذاته ووجوده ومحيطه، ويحتّم عليه إعادة النظر في كل الأشياء والكائنات، هذا السّقوط المباغت نتيجة حتمية لتمادي البشرية في جنونها اللامحدود للقضاء على الحياة ومن ثمّ على الكائن ، بكل ما أوتيت من قوة العلم والصراع من أجل البقاء على هذه الكرة الأرضية، هذا الغلو في اللامعقول وعقلية التّحكم أصيبت بزلزلة انهار فيها اليقين وغدا الإنسان في أسْر اللايقين واللامعنى واللاطمئنان، وتحوّلت الحياة إلى سجن مقيّد خانق وقاتل لكل أمل في معانقة شساعة الأرض وملكوتها التّخوميّ، لأن الجائحة طرقت أبواب العالَم بدون جواز ، لتقلب العالَم رأسا على عقب وتكون» الإقامة الجبرية» مآل الإنسانية جمعاء، فأصبح الوجود يصدّر السأم والملل والكآبة، والأفئدة تنفخ رماد العدم والفراغ بروح كليلة عليلة ضئيلة الأمل في حياة أخرى أكثر جِدّة، وسؤال الموت/ الفناء لسان حال الشعوب المقهورة جرّاء تهور الأنظمة في كيفية استغلال الأرض بطريقة جنونية تنتفي فيها العقلانية المتّزنة والمتبصّرة، فكان انهيار الحياة بتجلياتها سبيلا يفضي إلى تحجيم تحركات وأنشطة الإنسان اليومية، حيث بات معتقلا في زاوية ضيّقة داخل جدران البيت، يكرر الزمن ويحاصره. مكان فقَد هوية الألفة والحميمية والشعور بالأمن والأمان.
منفى السقوط هو العنوان البارز الذي لا يخطئه أحد، بل أصبح الجميع تحت رحمته؛ يعاين دورة الحياة المريرة الذاهبة في اتّجاه العدم، ولا حاجة للإنسان فيه سوى المحافظة على طريقة الانهيار، وكيفية الإيمان بحتمية الاختناق بسعة الضيق في فضاء محاصر بوباء لامرئي يأتي على كل بصيص حياة.
إن الإنسان يمرّ من سقوط مدوّ يقوده إلى العيش في منفى وجوديّ يبتلع الإرادة ويسلب الوعي رشده، ويئد الإحساس بجدوى الوجود، هو منفى اللاجدوى يسطّر ملحمة العدم والفراغ، ويطرد النبوءات والخرافات والأساطير من ذاكرة الكائن والكون.

(4)

منفى الحدود واختلاق الشبهات وعودة الإنسان إلى الاعتقال القسري والحياة بلاطعم ولا نفَس وجود، تشكيل للفزع النفسي والوجودي، حيث العالَم يمرّ من وضع منذر بالآلام والمآسي، وغارق في مقبرة ممتدة من أقصى الكرة الأرضية إلى أبعد نقطة فيها، فضاء مسوّر بالبؤس والقمع، بؤس البشرية وهي في أحلك لحظات وجودها، وقمع المتحكمين في الرقاب والبلاد، فسيف الحجْر الصحي والتهويل والترغيب والترهيب عناوين سادت فضائيات الإعلام الدوليّ لزرع الفزع الوجودي، بعد أن كانت العولمة تكسيرا للحدود ومحوها، غدا العالَم متاريس حدودية بين القارات والدول والمجتمع والأفراد، وسقطت الحياة في كماشة الفصل والوصل، الانفصال والانغلاق، إذ فرض كوفيد19 حدودا مشوبة بالحذر والهلع، بالموت والفناء، وأعيد الاعتبار لمكانة العزلة بعدما طالها النسيان، لكنها عزلة مفروضة بقوة الجائحة، وهي عزلة إجبارية تماهت وتتماهى مع حياة الإنسان بارتكاستها ومفجآتها، بل إن معنى الحق غُيّب وحضوره بات من باب العصيان والتمرّد على السلطة القائمة. وتمّ تعليق الحقوق إلى أجل غير مسمّى. ليسود الفراغ كقيمة وجودية كل الفضاءات، التي تحوّلت إلى قفار تنعدم فيها الحياة، ويصول الفراغ محتميا بوهم الاستمرارية.
إن الحدود ميثاق وُضِعَ لتكبيل إرادة الإنسان، وتشديد الخناق، لتشييد جدار برلين جديد، وتكريس سلطة الوباء في حياة الناس. كما أن الشبهة صارت الراية التي ترفعها السلطات لإحجام حرية التنقل والتجوّل، ووضع الإنسان في علب الإسمنت من طلوع أخبار الوباء إلى غروب اليقظة في الأحداق. وتلك مشيئة كوفيد الذي يتربع عرش الملكوت.

(5)

هو ذا الطّوفان يزغرد
يزرع الطمي
ويحرس العدم
ينفخ في الأرض قيامة أخرى
يرقص جذلا على الجماجم
جبال تخور
وربيبتها السهول تشقّ المدى
بعواء القبور
وحيرة الجماجم….


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 20/11/2021