مع سقوط أولى قطرات الغيث منذ أسابيع عاد الأمل ليسكن القلوب، وتسابق الفلاحون لحرث أراضيهم وبذر ما تيسّر من بذور طالما انتظروا لحظة زرعها. امتلأت الحقول بالحركة من جديد، وعاد صوت الجرارات ليشق الصمت الذي خلفته شهور الجفاف، فيما انبعثت رائحة التراب المبلل لتعلن بداية موسم طال انتظاره. بعض الفلاحين اقتنوا ما استطاعوا من حبوب كبذور وآخرون استعانوا بما ادخروه من مواسم سابقة وكلهم أمل في أن يستمر الغيث ليكتمل الحلم ويستعيدوا رزقهم الذي ضاق عليهم في السنوات الأخيرة.
في هذا الروبورتاج القصير نصحب فلاحين من نواحي الجديدة وسط الأراضي الزراعية، ننقل ارتساماتهم وفرحتهم واستعدادهم، محملين بالأماني والأمل في موسم فلاحي جيد، موسم يزرعون فيه ويحصدون، وينسون من خلاله سنوات القحط والجفاف التي دفعت بعضهم إلى الهجرة نحو المدن هربًا من ضيق العيش وقسوة الطبيعة.
وسط أرضه المتواجدة نواحي الجديدة ، هذه المنطقة التي حباها الله بتربة خصبة ومحاصيل زراعية وافرة، خصوصًا فاكهة التين والعنب والقمح والشعير وغيرها، يقف فلاح وعلى وجهه علامات الرضا والفرح بالتساقطات المطربة.
يقول، وهو يلقي نظرة شاملة على الأراضي الممتدة حوله ثم يثبت عينيه على التراكتور الذي يرسم خطوطًا متوازية على الأرض، مقلبا التربة التي طوعتها قطرات المطر:
“منذ بداية اكتوبر وانا كنتسنى هاد المطر ..شحال من مرة هزيت عيني للسما كنقلب على شي غيمة فيها الما باش يسقي الله بها الأرض ويغيث بها الناس. ولكن كل مرة كترجع النظرة ديالي فيها الحسرة والغم”.
ويضيف ..،’حنا الفلاحة الشتا والارض هي حياتنا ولكن ملي ما كتطيحش كنتضررو بزاف. كنهزو هم أسرنا وحتى هم الماشية ديالنا ..
كنسولو راسنا كيفاش غادي نطعمو النعاج ، ومنين غادي نجيبو العلف للبقر وحتى شنو غادي ناكلو حنا واسرنا… حيث ما بقى ما عندنا من المحاصيل القليلة ديال العام الفايت،،”.
يتذكر هذا الفلاح المسن الذي يحيي السبعين من عمره ايام الصبا ويقول: ” ما بقاوش المطامر كيخزنو الزرع والقمح، بحال زمان ملي كانت الصابا كتجي مزيانة، وما بقاتش “الكاعة” كتحتضن اللي جادت بيه الأرض من الذرة والتبن، وما بقاش حوافر البغال كتدرس كيفما كانت في الماضي السنابل الذهبية اللي عامرة بآلاف حبات الغلة بأنواعها ..كل شي نقص بسبب الجفاف.”.
“دابا أنا فرحان، يستدرك قائلا،هاد الأمطار وخ جات شوية معطلة ولكن كنطلب من الله يكمل بخير. بدينا الحرث دابا حيث الأرض ولات رطبة بعد ما كانت جافة بزاف،،”.
الطقوس القديمة للحرث
في الماضي، كانت لطقوس بداية الحرث رمزية كبيرة يقول محدثنا:”بكري، الناس كانو كيستعملو المحراث الخشبي، وماشي التراكتور، وقبل ما يبداوا كياخدو خبزة من القمح أو الشعير يضربوها على المحراث الخشبي ثم يقسموها على أطفال الدوار تبركًا وتيمّنًا، وبالأمل في موسم فلاحي زوين. وكيقولو ديما: باسم الله، لي كال(أكل) شي ف سبيل لله، (يقصد البشر والدواب والعصافير وكل ما يدب على الارض) باش الخير يعم الأرض والناس كاملين. اليوم، هاد الطقوس ما بقاتش بزاف، والتراكتور ولا هو اللي كيدير الخدمة”.
حركة دؤوبة وسط الحقول
عجت الحركة داخل الحقول بعد سقوط المطر وأخرج الفلاحون جراراتهم أو اكتروا خدماتها وكل واحد يقوم بعمله وحده أو مع أحد أفراد أسرته فقد أصبحت الارض مهيأة للحرث بعد أن كانت قاسية بالجفاف. بل إن اللون الأخضر بدأ يظهر شيئا فشيئا من بين حبات التربة المشبعة بالماء، فهذه الحركة الدؤوبة وسط الحقول المحروثة للتو تجعل الجميع يشعر بالحماس، وتدفع الجميع ليشارك
في هذه العملية الحيوية التي تعتبر مرحلة فاصلة في كل عملية زراعية، كما أن الأمل في موسم زراعي جيد يظهر في أعين الجميع حتى الذين اضطروا للهجرة إلى المدينة خلال سنوات الجفاف.
حرث وبذر وتوكل على الله
لا ينسى الفلاحون، وهم في غمرة انشغالهم بحرث أراضيهم، عاداتهم الجميلة في اقتسام الطعام مع من حولهم. في كل فترة وحين، يقف سائق التراكتور ليرتشف كأس شاي ساخن حمله إليه أحد الفلاحين، مصحوبًا بما قسمه الله من أكل بسيط، ولكنه يفيض بالكرم والود والمحبة بين الجميع.
نترك الفلاحين في عملهم الدؤوب، ونحن نمني النفس معهم أن يستمر هطول الأمطار في وقته، وتخضر الأراضي الفلاحية، وتعطي غلة يستفيد منها الانسان والحيوان والطيور في السماء بل حتى دابة الارض التي يكون الفلاح سببا في إطعامها. وندعو لله أن يستجيب دعاءه “باسم لله، كل شي ديال لله، لي كلا شي في سبيل لله”.

