الناقد والباحث الإيطالي غيدو ماتزوني:الرواية تمكننا من تصوير الحياة اليومية بطريقة جدية ومأساوية وإشكالية 2/1

غيدو ماتزوني شاعر وناقد أدبي وباحث ومحرِّر لـ la parole e le cose، أبرز مجلة ثقافية إلكترونية في إيطاليا، وأستاذ في جامعة سيينا. نشر في 2011 كتابه “نظرية الرواية” الذي تُرجم مؤخراً إلى الإنكليزية وصدر عن جامعة هارفارد.
الحوار التالي أُجْريَ معه بمناسبة صدور الترجمة الإنكليزية.

 

p ألقيتَ محاضرة في جامعة فريجي تلخّص فيها أفكاراً طرحْتَها في كتابك الجديد “نظرية الرواية”. هل يمكن أن تحدثنا بتفصيل أكبر عن نظريتك في الرواية وكيف تختلف عن النظريات السابقة؟

n هناك عنصران يُعرِّفان الرواية: يرتبط الأول بلعبة اللغة، فالرواية شيء يُسْرد، أي تروي قصة. أما العنصر الثاني فهو حقيقة أن الرواية صارت النوع الذي تستطيع أن تسرد فيه أي شيء بأية طريقة كانت.
لنعد إلى العنصر الأول: ما الذي يعنيه أن نسرد قصة؟ قدمتْ نظرية السرد Narratology في القرن العشرين جواباً غير تاريخي، لكن جوابي يستند إلى نقطة بدء تاريخية.
فحتى وقت محدد في في تراثنا الغربي لم يكن السرد والشعر بعامة (ما دعتْه الثقافة اليونانية شعراً) معرَّفاً كمنفصل عن لعبة اللغة. ولم يُفصل عن ألعاب أخرى إلا بعد معركة فكرية طويلة خيضت بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد. وبدأت هذه المعركة بالتعليق المجازي الأول على هوميروس وانتهت بكتاب أفلاطون “الجمهورية”. وكان أفلاطون هو أول من فصل بطريقة دقيقة تخصصاً معرفياً يُدعى الشعر عن تخصص معرفي يدعى الفلسفة. أما على صعيد السرد فقد كان أفلاطون أول من صاغ ما تسميه نظرية السرد القالب العام للسرد. ويقول إن السرد هو عن كائنات معينة تعمل (يتحدث عن الرجال بعامة)، وفي نهايته هم سعداء أو غير سعداء، أو يحققون هدفهم أم لا. ويقول أرسطو تقريباً الكلام نفسه. وهكذا لدينا تعريف أساسي للسرد. وحين تتعاملين مع السرد فأنت تتعاملين مع تعددية الكائنات البشرية. وهذه الكائنات البشرية تهدف إلى شيء ما وهكذا تسوقها قوة في داخلها. ويحدث الفعل في الزمن.
ملقّحاً نظرية السرد الحديثة بأفلاطون وأرسطو حاولتُ صياغةَ قالب سردي يعرّف ماهي اللعبة اللغوية للسرد. وتشبه العبارة تعريفات الفعل والوضع البشري التي قدمتْها الأنثروبولوجيا الفلسفية في القرن العشرين. بالتالي إن تعريف السرد يتطلب القيام بتعريف جوهري للحياة البشرية: كائنات معينة خاضعة للزمن وموجودة في المكان، يعرّفها اسم عَلَم وجسد وشخصية وسلوك، وهي كائنات قلقة لأنها معرضة للصيرورة وللرغبة، كائنات تتقاطع حيواتها مع حيوات الآخرين، تفعل وتتحدث وتصوغ الأفكار، وتجرّب العواطف وتعيش في نظام اجتماعي إلى أن يتم إصلاح خلل التوازن وتصل القصة إلى نهايتها. هذه مسألة القصص.
سأعود الآن إلى العنصر الثاني في تعريف الرواية: إن السرد يسرد أي شيء بأية طريقة كانت. وينبغي أن يُفْهم هذا تاريخياً، بما أن السرد لم يكن قادراً لقرون على فعل هذا. وكان هناك قانونان، قانون جمالي وآخر أخلاقي، جعلا ذلك مستحيلاً لآلاف السنين. وكان الأول قانون فصل الأساليب الذي وصفه آورباخ في كتابه “المحاكاة”. أما الثاني فهو ما أدعوه (متبعاً في ذلك مارك فومارولي Marc Fumaroli) الأفلاطونية الجمالية، حقيقة أن حرية الرسامين والشعراء خضعت طيلة آلاف السنين لسيطرة أخلاقية غير موجودة الآن، لكنها كانت من أعتى القوى في تاريخ الأدب الغربي.
إذا قرأنا مقدمات ما دُعي على مراحل “روايات” من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، سندرك أن المشكلة الرئيسية التي واجهها الكتاب هي التصريح بأن عملهم كان صحيحاً أخلاقياً وجمالياً. وكان سرد أي شيء بأية طريقة سيرورةً تاريخية استغرقت وقتاً وكانت لها لحظتها الحاسمة من حوالى 1550 إلى 1800. وفي هذه الفترة بزغت سلسلة من النصوص لم تلائم الفرضيات المسبقة الجمالية والأخلاقية للفصل بين الأساليب والجمالية الأفلاطونية لكنها حاولت أن تفاوض من أجل موقعها داخل هذه القواعد.
منذ النصف الثاني للقرن الثامن عشر، وخاصة في بداية القرن التاسع عشر، صارت الرواية واعية لذاتها أكثر، وفاوضت على موقعها بشكل أقل وقدمت نفسها كجنس أدبي ثوري جديد، يحطم جميع القواعد. لكن القرن التاسع عشر كان ساحة معركة حيث كانت أسئلة الأخلاق والقيمة الجمالية مفتوحة. لكنها كانت أضعف، وأصبحت الرواية أكثر استقلالية.
ما الذي يعنيه أن الرواية تسرد أي شيء بأية طريقة كانت؟ أولاً، إن الرواية تسمح لذاتيتنا الجمالية بأن تعبّر عن نفسها: وهذا صحيح في جميع الأنواع الأدبية الحديثة. ثانياً، تمكننا هذه الحرية من سرد الحياة الخاصة للناس العاديين بطريقة جدية ومأساوية وإشكالية. ولقد استعرتُ هذه الصفات من آورباخ. وفي الحقل الواسع للحرية الجمالية داخل الأدب الحديث هناك ذلك الجوهر المهم، المهم كالحرية الجمالية نفسها. إنه شيء ما لم يفعله الأدب الغربي أبداً ويرتبط بإدراكنا الذاتي الحديث، فكرتنا الحديثة عن قداسة الأفراد، وأهمية الأفراد العاديين.
في نظرية الرواية هناك فرعان: الأول هو التراث الذي بدأ بفردريك شليغل واشتهر مع باختين في القرن العشرين: إن الرواية هي جنس أدبي قائم على المحاكاة والحرية الأدبية تستطيع أن تسرد فيه أي شيء بأية طريقة كانت، وترفض الرواية تعريف النوع وتتغير دون توقف. ثم لديك تراث آخر بدأ مع هيغل وتواصل عبر القرن التاسع عشر إلى لوكاش وآورباخ وإيان واط في القرن العشرين. وبحسب هذا التراث، إن الرواية تحظى بأهمية خاصة لأنها تسرد ما دعاه هيغل “ملحمة الحياة البرجوازية”. ونستطيع إعادة صياغة هذا من خلال آورباخ كسرد جدي ومأساوي وإشكالي للحياة اليومية للناس العاديين.
قرأت هذين التراثين على أنهما واحد. لديكِ الفضاء العام للرواية، الذي هو شليغليٌّ وباختينيٌّ، لكن في المركز لديك جوهرٌ هيغليّ. وإذا لم يكن لدينا هذا الجوهر الهيغليّ والآورباخيّ فإن الرواية لن تكتسب هذه الأهمية. وحتى إذا كانت جميع الروايات لا تنتمي إلى هذا الجوهر، أو كانت الروايات التي تنتمي إلى هذا الجوهر ليست أفضل من الأخرى، فإن الرواية تكتسب هذه الأهمية لأنها تمكننا من تصوير الحياة اليومية بطريقة جدية ومأساوية وإشكالية. إن هذا التراث جوهريٌّ لفهم الرواية كتشكّل خطابي، وكشكل رمزي.

p بالنسبة للكتاب الذين خارج “الجوهر”- ماذا عن النقد اليساري للتفكك الاجتماعي الذي سببه المنظور الفرداني؟ وماذا عن الفن البرجوازي كمحاولة لتجاهل المجال السياسي؟ كيف يلعب هذا دوراً في تاريخ الرواية؟

n إن الخصوصية متضمنة في جميع الأشكال الأدبية الحديثة. فالأدب الحديث، بعامة، على وشك أن ينشأ من الفرد كوجهة نظر وكموضوع. إن التراث النقدي الذي أنكر هذا الجوهر الفردي بشكل أكثر علانية (التراث الذي ينتمي إليه دولوز وغواتاري في “نحو أدب قاصر”) جسّد نفسه كتراث مضاد. إذا جسّدتِ نفسكِ كتراث مضاد تفترضين ضمنياً أن التراث المهيمن ليس تراثك، والتراث المهيمن هو الجوهر الفردي للأدب الحديث. وتستطيعين نقده من موقع سياسي، وأدورنو يفعل هذا جيداً، لكنك الا تستطيعين إنكاره.
إن الأفراد وتجليهم الاجتماعي الأول (الأسرة) هم جوهر كيف نحن الحديثون ندرك أنفسنا. إن تراث “عصر الثورات” (التراث الذي بدأ مع الثورة الفرنسية وانتهى مع اليوتوبيات السياسية اليسارية للقرن العشرين) قاتل ضد مصير المجتمع البرجوازي، ضد هيمنة النصر السياسي للطبقات الوسطى. ومن وجهة نظر سياسية أتعاطف بشكل كامل مع جميع نقاد العزلة البرجوازية، والفردية البرجوازية، كتقطيع المجتمع إلى مجالات صغيرة متمركزة على الذات. لكن هذا التراث ضاع.

p شهد عام 2016 المزيد من الفشل في المشاريع السياسية الجماعية. فقد أظهرت الانتخابات في بريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة عودة ظهور فاقعة للانعزالية، هذا إذا لم نقل شيئاً عن القومية. لكن هناك مشكلات سياسية وحتى وجودية ضاغطة كمثل التغير المناخي الذي لا يمكن أن يُحلّ إلا من خلال تعاون متجاوز للقوميات. أولاً، هل أنت متفائل حيال إمكانية اتفاقات سياسية كهذه، مفترضين الأحداث الأخيرة؟ وثانياً، إذا افترضنا أن الرواية كشكل إيديولوجي مرتبطة بالمجال الفردي، فهل تعتقد أن رواية سياسية قادرة على تصوّر جماعة كونية؟

n إن المسائل السياسية والأدبية مختلفة تماماً. حين نتحدث عن “حالة الأمور الراهنة”، مستخدمين العبارة الماركسية، علينا أن نبدأ دوماً من الديموغرافيا. في 1970 كان عدد سكان العالم 3,5 بليون نسمة. هذه نقطة البداية الأولى. إن نقطة البداية الثانية هي أن الروابط بين سكان العالم (العولمة) صارت أكثر قوة مع مرور تلك الأعوام. فنحن أكثر ارتباطاً من وجهة نظر اقتصادية، لكن أيضاً من وجهة نظر ثقافية. نسمع عما يحدث في الصين وسوريا والصومال وأندونيسيا، وفي جميع الأمكنة. وبسبب النمو السكاني العالمي وهذه الروابط الموضوعية نحن محاطون ونُقصفُ بالمعلومات والأفكار والصراعات التي لا نستطيع تأويلها. نرى السطح لكن ليس التفاصيل. ولا نعرف في الحقيقة ماذا يجري في الصين بما أننا لا نعرف اللغة الصينية، ولم نذهب أبداً إلى الصين، أو كنا هناك بالمعنى السطحي. كيف نستطيع تخيل بناء جماعة في هذه الأوضاع؟
هناك مشاكل عالمية (التغير المناخي، مثلاً) لكن هناك إمكانات أقل للعثور على حلول عالمية بما أننا مرتبطون، موضوعياً، معاً، على المستوى الاقتصادي، لكننا أكثر انفصالاً على المستوى الذاتي. إن كل ما يربطنا ذاتياً هو بعض الأساطير الجماهيرية المتصلة بمجتمع المشهد لكنها ضعيفة جداً من ناحية الجماعة. إن أحد الفيديوهات الأولى لتنظيم الدولة الإسلامية يصور إعدام مجموعة من السوريين الموالين للأسد، أو نُظر إليهم كمفرطين في غربيتهم. مُدٍّدوا على ظهورهم في حفرة وأطلقت النار على رؤوسهم من أسلحة آلية. إن المشهد مسمّر بحد ذاته، لكن التفاصيل مثيرة للانتباه. يرتدي بعض الضحايا مثلاً القمصان الصوفية لفرق كرة القدم الأوربية: يعيشون مقمطين بميثولوجيا عالمية تقاتلها داعش مباشرة، وتزهق أرواحهم مرتدين القمصان الصوفية التي كُتبت عليها أسماء ميسي وكريستيانو رونالدو، وحتى ناني. إن جزءاً صغيراً من الرأي العام الأجنبي يعرف حقيقة ما يجري في سوريا من وجهة نظر سياسية، لكننا نحصل على أفكار من الآخرين. لا نملك إيديولوجيا سياسية تربط حيواتنا بحيوات أولئك البشر كما حدث، مثلاً، أثناء حرب فيتنام، لكن الجميع يعرفون هذه التفاصيل.
من وجهة نظر أدبية إذا لم نضع في عين الاعتبار بعض النماذج التنويرية لأدب طليعي، وإذا لم نفكر إلا بما نقرأه ونكتبه عادة، كالأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي نشاهدها، حينها علينا القول إن جوهر إدراكنا للعالم ما يزال الفرد والعائلة أو العشيرة، إذا أردت أن تجعلي التصور الغربي للعائلة نسبياً. إن إدراكنا للعالم ما يزال محلياً وفردياً على نحو كبير، وليس عالمياً أو جماعياً. وهكذا أعتقد أننا نواجه مشكلات عالمية بطريقة أنانية وجماعية مصغرة جداً. لكن التناقضات حقيقية وستنفجر.


الكاتب : أجرى الحوار: كريس فينويك ترجمة: أسامة إسبر

  

بتاريخ : 18/06/2022