الناقد والباحث الإيطالي غيدو ماتزوني: شهدت فشل الحركة المضادة للعولمة في التسعينيات التي شاركتُ فيها 2/2

غيدو ماتزوني شاعر وناقد أدبي وباحث ومحرِّر لـ la parole e le cose، أبرز مجلة ثقافية إلكترونية في إيطاليا، وأستاذ في جامعة سيينا. نشر في 2011 كتابه “نظرية الرواية” الذي تُرجم مؤخراً إلى الإنكليزية وصدر عن جامعة هارفارد.
الحوار التالي أُجْريَ معه بمناسبة صدور الترجمة الإنكليزية.

 

p لنعد إلى الكتاب، إنه يقدم منظوراً أنثروبولوجياً ثقافياً حول صعود الفردية. لكن ألا ترى هذا وصفاً علمياً يختفي فيه الصوت الفردي؟ أين في نظرية الرواية تملك التجربة الفردية (التجربة الجمالية) مكاناً، وماذا تستطيع أن تقول عن الوظيفة المعرفية أو الابستمولوجية للرواية كمكمِّل للتاريخ والعلم؟

n كما تقول كاتي هامبورغرKäte Hamburger في كتابها “منطق الشّعر”، إن الرواية هي الشكل الرمزي الوحيد الذي يستطيع أن يتناول الآخر كذات وليس كموضوع، أي الذي يجعلنا ندخل في ذهن شخص آخر ونتعامل مع هذا الشخص لا كموضوع للتحليل، كما يفعل التحليل النفسي وعلم الاجتماع وعلم الإناسة والإثنولوجيا، بل كذات أخرى مساوية ومناقضة لي. هذا فريد. ولهذا ستبقى الرواية قوية حتى في عصر السينما والتلفزيون. إن ما لا تفعله المسلسلات التلفزيونية والأفلام أبداً (إلا إذا تبنت أداة ملحمية بالمعنى البريختي للكلمة) هو إدخالنا في أفكار أشخاص آخرين. يستطيع أشخاص آخرون أن يعبّروا عن أفكارهم في السينما من خلال التحدث. لكن حين نرى الشخصيات في الأفلام، فنحن عادة لا نسمع أفكارها. لكن هذا هو منطق الرواية وما يجعلها فريدة.

p كريس فينويك: أنت تكتب أيضاً النقد الثقافي والشعر. كيف ترتبط هذه الأنشطة بعملك كناقد أدبي وأستاذ جامعي، هذا إذا كانت؟ هل تشعر بعدم رضا ما حيال التعليم الجامعي المهني والدراسات الأدبية؟

n أنا شاعر قبل أن أكون منظّر أدبي. كان أول ما كتبته ونشرته هو الشعر. لا أعتبر نفسي أستاذاً بدأ بتأليف الشعر في لحظة ما لأن الشعر جاء أولاً. ولقد نجوت من التناقض المحتمل بعدم السماح لليد اليسرى أن تعرف ما تفعله اليمنى. ما أزال أعتقد أن يدي اليمنى هي الأدب ويدي اليسرى هي النظرية الأدبية. إنهما تعبران عن النظرة نفسها إلى العالم، لكنهما لا تؤثران ببعضهما بعضاً.
جاء النقد الاجتماعي فيما بعد بالمصادفة. جمعتُ سلسلة من التأملات التي هي في قصائدي، في الكتاب عن الرواية وطورتُها لأنني شعرت بالحاجة إلى ذلك. كتبت مقالتين نُشرتا في la parole e le cose، الموقع الذي شاركتُ في تأسيسه. نوقشت المقالتان على الإنترنت. وطلبت مني دار نشر أن أحوّلهما إلى كتاب، وهذا ما فعلته وأصدرت كتاب “مصائر عامة” (2015). وقد حدث هذا بالمصادفة. أنا عادة أخطط لكتبي لكنني جعلتُ هذا يحدث لأنني بحاجة إلى أن أعبرعن الأفكار التي شغلتني لوقت طويل. إن التأملات التي تتوجت في كتاب “مصائر عامة” بدأت على الأرجح في 2001 وهذا عام عنى الكثير لي، ليس فقط بسبب الحادي عشر من أيلول، بل أيضاً بسبب فشل الاحتجاجات ضد قمة مجموعة الثماني في جنوة حيث كنت أعيش وحيث شهدت فشل الحركة المضادة للعولمة في التسعينيات التي شاركتُ فيها. كانت هذه صدمة سياسية لي. إن تأملاتي حول الحالة الراهنة للأمور بدأت مع تلك التجربة.

p إن المقالة الثانية في الكتاب هي عن برلين. ما الذي تراه في المدينة؟

n إن برلين هي المدينة المجازية للقرن العشرين. فقد كان فيها ثلاثة أشكال للمجتمع حاولت أن تسيطر على العالم الغربي: الفاشية والشيوعية وطريقة الحياة الغربية،وكلها خاضت قتالاً مباشراً من أجل تحقيق هذا الهدف. حين تتجولين في برلين ترين آثار هذه المعركة.
في المرة الأولى التي جئت فيها إلى برلين كان الجدار ما يزال هناك. كانت بداية التسعينيات وكان لبرلين مظهر مأساوي. وقد تجلت مأساة القرن العشرين في جميع الأمكنة في هندسة عمارة المدينة . ثم زرتُ برلين في 2013 وصدمني التحول. حاولت أن أفهم كيف تعاملت برلين مع تاريخها. زرت جميع المتاحف المتعلقة بوقائع التاريخ الألماني (النصب التذكاري للقتلى اليهود، المتحف اليهودي في برلين، متحف طبوغرافية الإرهاب، الذي ينتصب على أنقاض مقر الجستابو، متحف جدار برلين في شارع برناوير وبقايا الجدار في بوتسدامر بلاتز) وأدركت أن هناك خطابين: الأول رسمي، وهو خطاب الدولة، ألمانيا الموحدة. ويقول هذا الخطاب: “خرجنا من تاريخ مأساوي ومرعب. نعتذر عن النازية، ونعتذر أن جزءاً من بلادنا أغراه الاستبداد الشيوعي. وكان هذا مكتوباً على نصب الجدار باللغتين. وهذا ما كان على الديمقراطية الليبرالية، طريقة الحياة الغربية أن تفعله، وبطريقة ما تمتلك الحق لفعله كونها انتصرت. من ناحية أخرى، إلى جانب هذا الخطاب الرسمي الذي تتبناه الدولة هناك خطاب آخر مثير جداً تتبناه الرأسمالية. التقطتُ صوراً في بوتسدامر بلاتز حيث ما بقي من الجدار كان مغطى بإعلان ضخم عن الأيباد. وحين تغادرين متحف الهولوكوست تشاهدين على الفور نوعاً من ملك البرغر بهوت دوغ ضخمة من معجون الورق في الخارج. أثناء خروجي، كان ملك البرغر ذاك يعزف موسيقى: “عش وأنت شاب لفرقة اتجاه واحد”. أمام متحف الجدار صورة لشارع غارتين كما كان في 1989. في الجانب الآخر من الشارع صورة أخرى. اشترت وكالة عقارات قطعة من الجداروغطتها بصورة لأبنية جديدة في برلين مكتوب عليها “شقق بإطلالة”، أمام ما تبقى من الجدار.
كانت الدولة جدية، واعية جيداً لتناقضات القرن العشرين، وكانت الرأسمالية سعيدة جداً كي تكون نفسها، وعدمية دون رغبة. وكانت تتبنى خطاباً مضاداً. بالنسبة لي كان واضحاً جداً إنه كان هناك تناقض أخلاقي لكن التناقض كان موجوداً في كل برلين. إن الرأسمالية، بطريقة ما، كان تمتلك أيضاً الحق بفعل هذا. إن الذين عاشوا تاريخ القرن العشرين في ألمانيا أرادوا هذا في النهاية: لم يدركوا التناقض. إن الخطاب عن كم نحن متأسفون حيال تاريخنا تماشى مع خطاب آخر يقول :”ما نريده الآن هو استقلالية ورفاه مادي، لا شيء آخر”. وكان خطاب الدولة واعياً لذاته (جدي ومأساوي وإشكالي) إلا أن خطاب الرأسمالية كان فقط أننا سعداء بحصولنا على مجالنا الصغير من الحرية التي بلا حدود والسلع. هذه هي الملاحظات التي خرجتُ بها بينما كنت أطوف في شوارع برلين. وكان هناك شيء أخلاقي وأحادي في أفكاري، مع ذلك هناك شيء ما أقلقني: كان استيائي من برلين محملاً باستياء مساو ومضاد مع نفسي. لماذا هذا القلق؟
ما كنت أراه في شوارع المدينة كان بالنسبة لكثيرين، وتقريباً للجميع (ولجزء من نفسي) إنجازاً فائقاً للعادة. إن معظم الغربيين سعيدون لأنه تم تحريرهم من السياسات الكبرى: لم يعودوا مضطرين للخضوع للتعبئة الجماهيرية، ويستطيعون أن يعملوا ويتصرفوا في عالم خاص بهم دون إزعاج، غير مبالين بالبقية.
لكن كل يوم تُحْدث طريقة الحياة الغربية جراحاً في أوهام الثقافة الإنسانوية، في جهاز من المثل التي تظهر لاواقعيتها المطلقة من خلال انسحابنا إلى الخاص والاستهلاك والمشهد وعدم الانتماء والانسحاب. بتحررهم من المُثُل التجاوزية الدينية والعلمانية، لا يريد البشر ما تصورته التأويلات النبيلة للتنوير لهم. لا يريدون أن يشاركوا في حياة المدينة أو ينشئوا عالماً أكثر عدلاً. يريدون أن يمضوا وقتهم في تغذية عواطفهم الخاصة، وتحقيق أهدافهم الخاصة وممارسة طقوسهم الخاصة. يريدون براداً وعطلة على الشاطىء وكبسولة استقلالية مصغرة، يريدون نسيان الضجر والتعب والموت الذي يعوم متبخراً فوق زمن لا يشير إلى أي شيء، وبالضبط لهذا السبب، يجب أن يُستمتع به، يريدون أن يتسلوا ويحلموا.
تمتلك طريقة الحياة الغربية شرعية كبيرة وقوة جاذبية جبارة لأنها تكرس وجوداً عادياً وحقوق الناس العاديين. وهي تنتشر بزخم لأنها تستند إلى أساس بشري كوني. إن إمبراطوريتها التي لا تُقاوم تنشأ من الخاص أكثر مما تنشأ من الاستهلاك. إنها إمبراطورية الحياة العامة، الخاصة. إن مجال القيم هذا معروف لكل الثقافات، لكن الغرب المعاصر فحسب حوّله إلى خير أسمى، وهذا سبب آخر لتحقيقه للهيمنة. لا أمتلك شيئاً سياسياً أو حقيقياً أقدمه ضد أي من هذا. إن الشيء الوحيد الـذي لدي هو شكل من أشكال القلق.


الكاتب : أجرى الحوار: كريس فينويك ترجمة: أسامة إسبر

  

بتاريخ : 21/06/2022