قليلا ما نتحدث عن النحت في البلاد العربية، رغم أنه يعتبر من أهم الوسائل التعبيرية المباشرة، الذي اهتمت به بعض الحضارات القديمة كالحضارة الإغريقية، لتسويق أفكارها المرتبطة بالأساطير في علاقتها بالفلسفة، فكانت منحوتات ميكائيل أنجلو شاهدة على عصرها كبصمة ومرجع تقريري لمفهوم الأفكار السائدة آنذاك، ليتطور النحت ويصبح من الوسائل التواصلية الملموسة بعد ذلك، خاصة عندما تجاوز حدود المقروء والأبعاد المتداولة في الصباغة التي اعتمدت في بداياتها على الأبعاد الثلاثة كالطول والعرض والعمق، مما دفع الفنان الإنجليزي هونري مور بأن يخصص معرضا للعميان للاستفادة باللمس من استشفاف تفاصيل المنحوتات لتعم الفائدة.
أما بالنسبة للعالم العربي، فقد تأخر ظهور النحت لأسباب تاريخية وموضوعية وأخرى عقائدية، ارتبطت بالمذاهب الأربعة في الديانة الإسلامية، لعب فيها التحريم دورا مستقلا نسبيا عن الصباغة كتقنية، استنادا إلى نصوص من الحديث حرمت في بعض المذاهب فيما قبل إنجاز المجسمات بشكل واقعي، منها المذهب المالكي، فكان هناك غياب تام للاهتمام بهذا الجنس التعبيري، فرغم الانفراج النسبي الذي عرفه النحت في تاريخ التشكيل العربي على مستوى حرية التعبير، فلا زال هناك اهتمام محتشم بهذا المجال، وحتى لا يسقط الفنانون في محاكاة الخالق فقد التجؤوا للنحت التجريدي كما نجد عليه على سبيل المثال لا الحصر في أعمال الفنانين المغاربة أمثال محمد المليحي وإكرام القباج ومحمد العادي وعبد الحق السيجلماسي وغيرهم، منذ بدايات الاهتمام بهذا الجنس التعبيري.
إن التجربة النحتية تطورت بشكل سريع في الدول العربية كالعراق ومصر وتونس وسوريا والمغرب… إلى جانب الاهتمام بفن الخزف المستوحى من الحرف التقليدية القديمة من زاوية نفعية واستهلاكية، كجنس ينتمي لفنون النار المقدسة كجزء من العناصر الأربعة، لمرونته وسهولة تشكلاته، لذا فإن الاهتمام بالنحت أصبح من الأجناس التعبيرية التي تضاهي الأجناس التعبيرية الفنية الأخرى، التي يجب أن تحظى بالمواكبة النقدية كضرورة حتمية وراهنية.
وكما قيل «الشكل موجود في الكتلة لكن يجب استخراجه أو التقاطه بطريقة ذكية»، وهذا ما خول لهذا الجنس بأن يكون مصدر إلهام وإبداع، لما يحتويه من مكونات مادية تدعو النحاتين للخوض في غمار التجارب بقوة عقلية وعضلية في بعض الحالات، وبما أن النحت يعد من بين اللغات البصريّة التعبيريّة الفيزيائية الأقوى حضوراً في الواقع، فإن علاقته بالمعمار والفضاء أساسية، جعلت منه مكونا بصريا وجماليا يسهم في المقومات الإستيتيقية المكملة لوحدة الرؤية بينه وبين المعمار.
إن مفهوم النحت تطور منذ أول عمل للفنان الفرنسي الروماني الأصل «كونستانتان برانكوزي»، الموسوم ب «عمود بدون نهاية Colonne sans fin الذي أجمع عليه النقاد باعتباره نقطة تحول في تاريخ النحت العالمي، لأنه كسر حدود القواعد الكلاسيكية المتداولة، واستطاع أن يفتح باب التعبير بحرية مطلقة، خضوعا لفكرة تصب في عمق طرح السؤال عند هذا الفنان، وهي للنحات الفرنسي الهنغاري الأصل إيتيان هاجدو الذي قال «من يستطيع خلق شكل غير الشكل الهندسي أو العشوائي، فإنه سيكون اكتشافا عظيما»، بمعنى أن حدود الحرية تجاوزت المألوف، ولهذا نجد أن بعضا من الدول العربية والإسلامية، حاولت أن تتفادى التشخيص في النحت والاهتمام بالتجريد، خاصة بالمغرب، وما وجد في ما قبل من تنصيبات تشخيصية كانت من إنجاز ما تركه المستعمر.
إن تطور النحت عرف مع تطور كل الحضارات الإنسانية منها البابلية والكنعانية والسومارية والفرعونية… حضورا نوعيا تعرفت بواسطته الأجيال اللاحقة على أخبار وخبايا هاته الحضارات، حيث لعب دورا جوهريا في ارتباط الماضي بالحاضر، وهذا ما افتقدناه في حضارتنا التي بنيت على الحكي والسمع، نظرا لغياب هذا العنصر الأساسي الذي كان يحرم الصورة في فترات سابقة، إلى أن تحول النحت من أيقونات ذات بعد لاهوتي لأيقونات فنية لأجل التعبير والتواصل.
ففي ما يخص التجربة المغربية في هذا المجال، عرف النحت تطورا مهما موازاة مع تطور الهندسة المعمارية، فأصبح حاضرا في الفضاءات الخارجية كضرورة جمالية، وذلك من خلال عدة تجارب من بينها بعض المنشآت التي أنجزت بمدينتي الجديدة وأصيلة ضمن تجربة السامبوزيوم الذي كانت تنظمه النحاتة إكرام القباج، واستدعاء من خلاله عدد من النحاتين من كل الأقطار العربية، بالإضافة إلى تنصيبات أخرى من إنجاز الفنان محمد المليحي على الطريق السيار بين مدينتي القنيطرة وبرشيد في اتجاه مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، وكذا تنصيبات أخرى من إنجاز عبد الحق السيجيلماسي من بينها النصب الموجود قبالة مقهى لاشوب بالدار البيضاء، وحسن السلاوي صاحب المنحوتة التي كانت قبالة محطة القطار الرباط المدينة التي تم اجتثاتها لأسباب غير موضوعية، وفريد بلكاهية وعبد الكريم الوزاني وغيرهم، إلى جانب إنجاز منحوتات خزفية لكل من عبد الرحمن رحول وموسى الزكاني، اللذين لم تقتصر إنجازاتهما فقط على الخزف، بل على منحوتات أخرى من مواد مختلفة، كانت صلبة أو لينة.
إذن فالنحت بالمغرب عرف تاريخيا مدا وجزرا، تسببت في غيابه وحضوره، أسباب عديدة من بينها سبب رئيسي وهو الجانب المادي في الحصول على مشغل مناسب لذلك، ثم غياب الطلب من طرف الجهات المسؤولة عن الفضاءات الخارجية والقطاع المسؤول عن الثقافة والفنون، وغياب انفتاح المهندسين المعماريين على النحاتين…
*مداخلة على هامش ندوة «النحت والخزف» المنظمة بأكاديمية الفنون التقليدية بالدار البيضاء بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل يوم 20 دجنبر 2024، بشراكة مع المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء وآتوليي آرت بالمحمدية.