النداء الخفي

كمن سيرمي كل أوجاع العمر في مجرى الريح، نهر دابته حتى لا تتململ. عينا تلك العشرينية الملثمة، تطلان مرة أخرى على فوهة قلبه، وهو يتحسس أغصان الشجرة الوارفة، وصمت الليل أعمق من هوة. أقسم في سره أنه لن يسمح لها ولا لأية امرأة أخرى أن تتلصص على جرح لم يندمل، كل هذه السنوات، وهو الهارب من خطيئة ماض بعيد. لم يعرف كيف قادته خطواته إلى هذه الشجرة، التي شهدت مباهج بكر، تحولت إلى سياط آثمة تلهب ذاكرته.
حدقت الشابة في ندبة جبينه، بين حاجبيه… وهب صوت الجدة من أعماق طفولتها، كريح تثير في القلب غبار الأحزان، واهنا، متخما بالانكسار والغدر.. مرارا، طلبت منها ألا تمنح قلبها لأي رجل، ألا تخلع ثيابها، مهما كانت الوعود.
تمسك الشيخ بغصن سميك، رمى حبل البردعة الاحتياطي فوق الغصن، شده بقوة مختبرا قوة العقدة.. اعتادت الشابة الوحيدة أن تجلس تحت تلك الشجرة، تسأل الممر الزراعي عن خطوات فقيه الجامع، الذي أطلق ساقيه للريح، بعد أن بذر نطفتها في رحم أم، لم تحدثها عن هذه الظلال الوارفة، التي شهدت قصة حب قديمة، انتهت بندبة بين الحاجبين.
ألقى الرجل نظرة أخيرة على مكان، هرب منه كل هذه السنوات، وعاد إليه، وهو مغمض العينين، فوق ظهر دابته، التي لم تنس خطواتها القديمة على هذا الطريق.
تحسس الندبة : «خطوة واحدة، وينتهي كل هذا العذاب السخيف، أيها الرجل الصالح.
«لو كان بالإمكان أن نعود إلى الحياة مرة أخرى، أن نعيش فتوة العمر مرة ثانية.. حتما، سنتفادى الكثير من الأخطاء القاتلة». همس لنفسه، بينما كل الموجودات تواصل حوارها الأليف والمعتاد، منذ بداية الخلق؛ ذلك الحوار الذي لا تسمعه سوى القرى، في صمت جليل.. «حتما، خلق الله تعالى القرى قبل المدن»، هتف الرجل لنفسه بصوت خفيض، وشكر في سره، خالق السماوات والأرض على هذا السكون المثالي، الذي لن يعكر صفوه أي أحد. هنا، عاش أجمل لحظات الحب، تحت هذه الشجرة المنعزلة عن العالم. مثلما، عاش طوال رحلة هروبه في سكينة يحسد عليها.
لعن الشيطان، الذي أقحمه في هذه التجربة المؤلمة.. صديق شبابه، الذي أفتى عليه أن يسلب فتاة أحلامه عذريتها، حتى توافق أسرته على زواجه من «بنت الشيخة». كان شيطان آخر يدسها في صلواته، قبل أن يهم بالسجود، فتفتح ذراعيها، ويغرق الفقيه الشاب في عسل عينيها الضاحكتين، يتنحنح المصلون من خلفه، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم : «لماذا لا تأتي – الآن- أيها الشيطان؟! أنت لم تعد في حاجة إلي، بعد أن دمرت حياتي وحياة آخرين! لن يسرق مني أي أحد طعم نهاية، لم أفكر فيها من قبل. لن تشفع لي كل هذه السنوات، التي قضيتها أعبد الله، وأنا هائم على وجهي. كانت خطواتي هي الطريق، ولا أطأ الطريق التي مشيت فيها من قبل، لأننا لا نمشي في نفس الطريق مرتين».
منذ عشرين عاما، تقف الشابة تحت تلك الشجرة، تنظر إلى القادمين. تمد بصرها إلى عمق الطريق. قبل أيام، خفق قلبها، وهي ترى نقطة سوداء، تقترب ببطء، وتتضخم رويدا رويدا.. هنا، عاشت جدتها شبه منبوذة، بسبب مهنتها كراقصة شعبية، وكذلك، عاشت والدتها بسبب حمل غير شرعي.
لم يعرف كيف ساقته خطوات البغلة إلى هذا المكان الموشوم في القلب والذاكرة. كأنما تعبت الدابة من رحلة الهروب من المكان، الذي كانت تسوقها الريح إليه، حين يشرد لب راكبها الكهل، الذي شاخ قبل الأوان. لم يكن يدري أنه كان يهرب إلى نفس المكان، عبر طرق أخرى.. اكتشف أن عاطفة خفية تشده بحبل لا مرئي إلى هذه القرية أقوى من كل عواطف الحياة الدنيا. كان معول الشوق يغوص في أعماق قلبه، ويفتت تربة دواخله في لوعة، فيسلبه ذلك التوازن الداخلي، الذي تعكسه مرآة الملامح.
ضاعت حياته في رمية نرد…
مقامرة انتهت بندبة، على يد حبيبة، تحولت، فجأة، إلى لبؤة شرسة، في وضع حميمي. لم يعرف أنها تركت فلذة كبدها، بعد الفطام، بين يدي أمها، وألقت بنفسها في بئر مهجورة، حتى ترتاح من ألسنة لا تكف عن نهش لحم سمعتها.
خذلهما الحب سوية، فاقتسما الحزن المتوارث، الذي لا يفرق بين النبلاء والأنذال.
أرخى لحيته مثل نبي، وغادر قريته، فارق مسجدها، الذي اعتاد تشذيب نباتاته بين الصلوات. أحيانا، يبيت في الخلاء.. التهم زهرة عمره قلق مزمن، كأنه هارب من السجن.
انتفض قلبه، مثل ديك مذبوح، حين حدقت في جبينه المرأة العشرينية، التي يتمطط في عينيها القاتلتين، يتم فادح؛ كانت تعتبر جدتها أمها، لأنها لا تتذكر ملامح المرأة، التي أنجبتها، وعمق هذا اليتم المضاعف غربتها في كوخ منعزل عن بقية المساكن الطينية.
جاءته في منامه، راودته عن نفسه، رأى نفسه يبتر اليد، التي نسيت التسبيح، وراحت تمسد شعر الغواية، لكن شيطانه الداخلي حرضه على أن يعود إلى قريته، وينتقم منها.. زين له أن يحمل الأشواك على ظهر بغلته، يطوف حول البيت، ينثر الحطب أسفل جدرانه، وبعود ثقاب واحد ينتهي كل هذا العبث، سيرتاح من تاريخ خطيئة لا تريد أن تتقادم، وتندثر على شفير النسيان: «أبونا آدم خرج من الجنة مرة واحدة، فهل سأخرج منها مرتين؟!»، واسى نفسه. من فوق ظهر دابته، كان ينظر إلى الأشواك المتناثرة في الحقول الجرداء، فتتأجج نيران أشواقه إلى قريته، ولهاث البغلة يجرف صمت المغيب..
في ذلك المساء، لم يطلب «ضيف الله»، مثلما كان يفعل، منذ عشرين عاما. توقفت البغلة أمام الكوخ، والمرأة الملثمة، بدت في وقفتها، وكأنها كانت تنتظره منذ زمن بعيد.. التقت النظرات برهة. نفس العينين، نفس النظرات، نفس القامة القصيرة، التي جعلته يرفعها، ويطويها تحت تلك الشجرة. نخس الدابة، لكي تطوي الطريق بحوافرها، انتظر حتى أرخى الليل عباءته على القرية. لم يعد يسمع نباح كلاب القرى البعيدة. عاد إلى الشجرة، التي نقش عليها اسم حبيبته، قرأ الحروف للمرة الأخيرة، انهمر شلال من الدموع في قلبه، حين تذكر صوتا واهنا تناهى إلى مسامعه من داخل الكوخ، صوتا أليفا كان يصهل – من قبل- في ليالي القرى البهيجة. سمع الجدة المقعدة تأمر حفيدتها بالدخول، وهي تسألها مع من تتحدث..
أحكم لف الربطة حول عنقه، بدأ يضيق دائرتها، وهو جاث على ركبتيه، فوق البردعة. لام جبنه الطارئ، لأنه لم يستطع أن ينطق باسم ابنته، لكنه لم ينس هذا الاسم؛ إنه يطارده مثل لعنة. للمرة الأخيرة، واسى نفسه في لوعة: «الأم والابنة والبغلة. يا الله! البغلة ستنهي كل شيء بعد برهة». باعد بين فخذيه، مستعيدا وضع الركوب، ثم طلب من البغلة فاطمة أن تتحرك…


الكاتب : هشام بن الشاوي

  

بتاريخ : 02/06/2023