«النكاية في الألم»: انتصار للحياة

لجميع الكتاب أسبابهم ومبرراتهم التي دفعت وتدفع بهم، سواء بوعي أو بدون وعي، نحو الكتابة للتعبير عما يعتمل في دواخلهم من أفكار وأحاسيس وقناعات ومواقف، والعمل على نشرها وتقاسمها مع الآخرين. قد يكون السبب خوفا وقلقا وجوديين، وقد يكون غضبا وسخطا وثورة على السائد والآسن والنمطي في الحياة، وقد يكون هروبا من الوحدة والعزلة والفراغ، أو من حالة اكتئاب حادة، وقد يكون استشفاء من أعطاب أصابت الروح والجسد، وقد يكون كما في كتابة اسمهان عمور بكل اختصار:» نكاية في الألم». أو حسبي بها تردد في كل ما كتبت، ما قال جوزيه ساراماغو:» أنا لا أكتب فحسب، بل أكتب ما أنا عليه.»
من خلال قراءتنا للكتاب الصادر حديثا، في 207صفحة عن دار سيليكي أخوين للنشر، والذي وسمته الكاتبة بعنوان مثير، براق ومنتصب كنصل سكين في وجه شعاع، هو»نكاية في الألم» مع إضافة كلمة «مقالات» تحته كتجنيس له، ربما تواضعا من الكاتبة وربما أيضا تفاديا لأي تأويلات ملتبسة أو مغرضة. وكان الأنسب، من وجهة نظري، الاكتفاء بالعنوان، أو إضافة كلمة نصوص عوض مقالات إن كان ثمة من داع لأي توضيح أو تجنيس. فالقارئ للكتاب سيجد في هذه النصوص،على قصرها، ما يبرر انتماءها بقوة، أسلوبا ووصفا ولغة وسردا، للأدب، وبالخصوص أدب السيرة واليوميات والتخييل الذاتي. أو ليس «كل ما انتقل من الواقع إلى الكتابة يصبح تخييلا «كما قال، ذات حوار، أستاذنا محمد برادة؟
لكن الألم الذي كتبت عنه اسمهان عمور جاء معرفا بالألف واللام، بمعنى أن كل ما سوف نقرأه بين دفتي الكتاب، لم تقترفه الكاتبة إلا بسبب الألم ونكاية فيه. ألم مخصوص، معلوم وواضح كمصارع حقيقي داخل الحلبة. تكتب عنه اسمهان بهذا المعنى وبهذا الوعي، أي كما لو كانت في مواجهة حقيقية معه، يهاجمها بضراوة وشراسة حيوان أسطوري برؤوس متعددة ومختلفة، وهي لا تدخر جهدا لمجابهته والرد عليه بقوة وببسالة، ومطاردته ومحاصرته حيثما وجد، ثم تنكل به.تقول:
« تكفينا لحظات من العمر، نكاية في الألم، لتروي ضحكاتنا هذا الجسد، فتحيي خلاياه وينبت زهرا وتفوح مسامه عطرا».ص 118
ومع ذلك نتساءل: عن أي ألم بالضبط تتحدث الكاتبة في مؤلفها؟ هل هو ألم واحد في جميع نصوص الكتاب، أم هي آلام متعددة ومتنوعة؟ هل هو ألم مزمن ودائم أم هو ألم مؤقت ومتقطع؟ هل هو ألم جسدي أم ألم نفسي وروحي؟ هل هو ألم فردي، خاص بالكاتبة أم ألم عام يشمل الإنسان حيثما كان وباقي الكائنات؟ ثم لماذا،وفي هذا الوقت بالضبط، تريد الكاتبة تصفية الحساب مع هذا الألم والنكاية به وليس قبل سنوات مثلا؟ وهل كانت هذه النكاية بالكتابة فقط أم بوسائل وأسلحة أخرى وماهي؟ ويبقى السؤال الأهم، هو: هل انتصرت الكاتبة في حربها الضروس على الألم أم كانت الكلمة الأخيرة في حسم المعركة لجبروته؟ أم لايزال الصراع مستمرا؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، سأحاول التركيز على مسألتين:الألم في علاقة الكاتبة بذاتها، والألم في علاقة الكاتبة بالآخرين.
لست أدري لماذا استحضرت بقوة وأنا أقرأ هذه النصوص رواية القاصة والمبدعة الراحلة مليكة مستظرف «جراح الروح والجسد»، وبشكل خاص جملة تقول فيها:» أحاول أن أتذكر الأشياء الجميلة في حياتي، فلا أكاد أجد شيئا… حتى حياتي ليس فيها سوى الخوف والخوف والحزن ثم المر ض».
ربما المشترك بين الكاتبتين، هو الجرأة القوية في البوح والشجن الذي يخيم على الكتابتين كضباب كثيف. شجن نحسه ونحن نقرأ، ينقش في قلوبنا بمشرط الألم، زخارف ونقوشا تنز دما ودمعا. تماما كما تكون عليه حالنا، ونحن نقرأ نصوصا أدبية عظيمة، شفيفة وصادقة في مديح المعاناة والقهر. ويكون العازف الأوحد فيها على أوتار القلب الحساسة، هو الألم.

أولا: الألم في علاقة
الكاتبة بذاتها

سيتوقف القارئ وهو يقرأ نصوص هذا الكتاب (79نصا)، عند الكثير من الوجع والمعاناة الثاويين في أعماق الكلمات الأمارة بتعرية الذات والبوح والصدع بما ظل يعتمل في الدواخل لسنين طويلة. كلمات لا تلوك كثيرا،فكرتها ولا معناها، بل تطلقها على أهدافها كرصاصات الرحمة، سريعة وواضحة ومركزة. وفي كثير من الأحيان، هي كلمات مرهفة وشديدة الحنين والحساسية، وخصوصا لما يتعلق الأمر بالحكي عن الألم الذي صاحب سيرتها الذاتية، وبالضبط مرحلة الطفولة الأولى وزمن الفقد والبدايات.
في هذه النصوص المتفرقة والمتنوعة وغير الخاضعة لأي لمنطق كرونولوجي أو ترابط سردي في شكل متواليات حكائية يشد بعضها إلى بعض، سنقرأ في شكل نتف موزعة هنا وهنالك داخل هذه النصوص، الكثير من التفاصيل عن حياة إسمهان عمور، مولدها ونشأتها، سر تسميتها، تعليمها، مرضها المبكر بالقلب، تنقلها اضطراريا، بسبب مهنة الأب كعسكري، بين أمكنة متعددة، وفاة الأب في حادثة سير ويتمها المبكر،مسارها المهني منذ البداية، وتجربتها الإعلامية داخل المغرب وخارجه، زواجها بالإعلامي الحسين العمراني، علاقاتها بأسرتها الصغيرة والعائلة،علاقاتها بزملاء العمل والأصدقاء والآخرين.وربما الأهم هو السياقات الزمنية التي عاشت فيها الكاتبة تلك الأحداث والتي تحيل على فترة تاريخية مهمة من تاريخ المغرب الحديث، من بداية الستينيات من القرن الماضي إلى الآن.
ستعاني اسمهان عمور منذ يفاعتها من آلام جسدية مختلفة،سأشير هنا بالخصوص إلى اثنين: أولها مرض القلب، الذي اكتشفته مبكرا وظلت لسنوات تنتقل بسببه، من وجدة(مكان الإقامة)إلى العاصمة الرباط لمتابعة العلاج. تقول:» اشتكى القلب مبكرا من الوهن بسبب مرض اللوزتين، عانيت منه طويلا منذ الصغر. صار القلب ضعيفا بسبب الروماتيزم. أربع سنوات من الذهاب والإياب والوقوف في ردهات المستشفى انتظارا للطبيب المعالج..» ثم تضيف بحرقة شديدة: «مازلت أتذكر انفلات دموعي وانهياري…قهري وإحساسي بالحكرة أنا الآتية من أقصى الشرق(وجدة) في حافلة لم يكن يمنع فيها التدخين، فأجدني بعد خمس ساعات من جحيم الانتظار أمام جبروت طبيب القلب (ابن زعيم سياسي)يرفض الكشف بدعوى انتهاء الدوام. « ص53.
وربما كانت أول نكاية بمرض القلب والحكرة التي أحستهما الكاتبة من كثرة التنقلات بين وجدة والرباط وما يصاحب ذلك من معاناة الانتظار، واستجداء رحمة الطبيب المعالج دون جدوى، هي التوقف تماما عن متابعة العلاج وتعريض حياتها لخطر محتمل،كأغلبية المواطنين، الذين تعوزهم الإمكانيات وقلة الحيلة للولوج إلى المستشفيات والتطبيب، فيتركون أنفسهم لقضاء الله وقدره.تقول:» مزقت كل صلة لي بالمستشفى، كشوفات وتحاليل ومواعيد، وأمرت قلبي الضعيف بأن يكون قويا في الآتي من الأيام وتواعدنا بأن لا يخونني ويتوقف نبضه، تحديا للحكرة» 53.
وهكذا رفعت اسمهان عمور عارضة التحدي عاليا وتعايشتمع مرضها بقوة الإرادة والمثابرة على التعلم والتحصيل فأضحى ماكان بالأمس ضعفا وعجزا، قوة ونجاحا.
أما المعضلة الجسدية الثانية، فجاءت بعد ذلك بسنين طويلة، عندما اكتشفت اسمهان عمور، أنها مصابة بداء الشلل الرعاشي، حين استفاقت ذات يوم على»رعشة طفيفة فضحتها الرجل اليسرى، حسبتها ولأيام رد فعل عصبي ،حاولت تهدئتها بشرب الينسون والبابونج…توالت الرعشات، قفزت إلى اليد اليسرى… نعم إنه الباركنسون/الشلل الرعاشي، هذا ما يعانيه الجسد الذي أطلق صفارات العجز والإنذار بالضعف.» ص94.
وكانت هذه المرة أفضل وسيلة واجهت بها إسمهان عمور هذه المعاناة الجسدية الجديدة نكاية في كل ألم، هو مقاومة المرض بالعلاج ومواصلة الاستمتاع بالحياة،بسرقة لحظات الفرح والعطاء متى وجدت إليها سبيلا، سواء بالسفر أو بالقراءة، أو بفعل الخير أو بممارسة رياضة المشي على الكورنيش وفي المنتزهات والحدائق، أو بقضاء أمسيات ممتعة رفقة صديقاتها. والأهم من كل ذلك شرعت في الكتابة. وكأنها اكتشفت جدوى الكتابة وقوتها في ما قاله باولو كويلو بهذا الخصوص:» الأجدى أن يقوم كل واحد منا بما يستطيع وسط هذه المعمعة الفظيعة: أن يعطي، أن يحب، أن يتقاسم، أن يكتب..».

الألم في علاقة الكاتبة بالآخرين

كان الألم على المستوى البدني مسألة خاصة وشخصية إلى حد ما، بل ويمكن اعتبارها زمنيا، مؤقتة أو مرحلية. أما على مستوى الآلام الفظيعة التي كانت تصيب الروح والنفس والمعنويات، فهي كثيرة ولا يكاد يخلو منها نص من نصوص الكتاب، تزيدهاحساسية الكاتبة المرهفة ووعيها بمسؤوليتها الصحفية والإنسانية، إذكاء لنيرانها ونكأ لجراحاتها. تقول الكاتبة في وعي تام:»أشد الأعطاب عسرا على الشفاء هي النفسية…» ص 39.الكتاب مليء، من أوله إلى آخره، بالتعابير والإشارات والتلميحات إلى الأشياء المتسببة في هذه الآلام.منها آلام ذات بعد اجتماعي إنساني، كفقد الأب في حادثة سيرواليتم المبكر. هذا الأب الذي عاش أصلا في الغياب، بحكم وظيفته العسكرية أكثر مما عاش في الحضور، وسط دفء الأسرة والأبناء.تقول الكاتبة:»كنا ننام ونصحو نحن سكان الثكنة على مقدم رجال الدرك، لنتلقف بوجع خبر الموت ونعيش ألم الفقد والحزن واليتم» ص49.إن هذه الفقرة توثق بشكل مكثف وبليغ لتجربة مريرة عاشها جل المغاربة، بسبب الحرب الطويلة والضارية في الصحراء(1975-1991) وبسبب أخبار الموت المتكررة والمروعة التي كانت تردعلى الأهالي من هنالك.
كذلك معاناتها مع الترحيل المتكرر،من مكان إلى مكان في شروط غير لائقة وفي ظروف حرجة.كالترحيل مثلا، من أهرمومو إلى وجدة،إذ تقول الكاتبة بنوع من الأسى:»في ليلة خريف وجدنا أنفسنا(نحن أفراد الأسرة) مكدسين إلى جانب «الرحيل» في شاحنة تقودنا إلى وجهة شرقية. ص47.أو الترحيل من وجدة إلى صفرو. «في بداية خريف 1986،كنا ملزمين بإفراغ السكن التابع للقوات المسلحة الملكية بعد قضاء 15 سنة بين جدرانه وحديقته، أصبحت صفرو(مدينة حب الملوك) هي مقر إقامتنا…» ص53.
بعدها، فقد الأم والخال، وموت العديد من الأصدقاء والزملاء الصحفيين والفنانين والمبدعين والأقارب في زمن كوفيد اللعين، إذ رحلوا في عزلة قاهرة بلا جنازة ولا عزاء، ولا أي اعتبار كانوا أهلا له ويستحقونه، كرحيل الفنان الكبير محمود الإدريسي، والإعلاميين المقتدرين حكيم عنكر، إدريس أوهاب وصلاح الدين الغماري وغيرهم. تقول اسمهان بوجع شديد:» آه، كم يلزم هذا الجسد من القوة ليتحمل النعي كل يوم؟ لقد بتنا على ألم وأصبحنا على ألم، ولم نعد قادرين على إحصاء عدد النفوس التي اختارها الله إلى جواره: فنانون، كتاب، إعلاميون، سياسيون، وجوه ألفناها في خطب جماهيرية وحوارات إعلامية وأدبية…»ثم تردف بفقرة كزمجرة إنسان مقهور:» لماذا لا تمهلنا يد المنون كي نبكي بحرقة؟إن اليد معاندة والألم أكبر والجسد أجوف…أجوف بفعل النعي والنكبات» ص23.
كذلك نصادف في الكتاب آلاما، ذات بعد سياسي وثقافي وإعلامي، يبدو من خلالها أن اسمهان عمور عانت كثيرا حتى في المجال الذي كانت تحبه وتشتغل فيه وتضحي لتقديم أجمل وأفضل ما عندها، لإبراز الوجه المشرق والمستنير للثقافة والفكر المغربيين والعربيين. تقول بمرارة عما أصابها من تهميش وإقصاء من مدير القناة المغربية لما خاضت تجربة مع القناة الألمانية الناطقة بالعربية:»تخليت عن موقعي كمقدمة لبرنامج الصالون الثقافي، ليس فشلا أو استسلاما بل كرد فعل على ما أصابني من بلاء…» ص 83.
بل خصصت في الكتاب، نصا كاملا تحت عنوان»عن أي يوم عربي للإعلام يتحدثون؟»، صبت فيه جام غضبها على جامعة الدول العربية وعلى السياسات القمعية والاستبدادية لدولها، عندما طرحت جملة من الأسئلة الاستنكارية والحارقة.
والخلاصة، هو أن هذا الكتاب وإن كان يبدو كانحدار شديد نحو مهاوي الألم، ونكء لجراح لم تندمل لا في البدن ولا في المجتمع والإنسان، لكنه في الحقيقة انحدار من أجل صعود أقوى نحو الأعلى حيث التجلي والنور والحياة أجمل وأبهى. أو كما أشار إلى ذلك، الكاتب والإعلامي عبد العزيزكوكاس في تقديم جميل وعميق للكتاب:»إنها كتابة تغيظ الألم وتتشفى فيه، تقلقه وتضايقه لتثبت انتصارها على مخلفاته من جراح وانتكاسات لا تحصى». ص 12.

(*) روائي من المغرب


الكاتب : أحمد الكبيري (*)

  

بتاريخ : 13/12/2024