لا يتفق بورخيس مع إدغار ألان بو الذي قال بأن قيمة القصة تكمن على الأخص في سطرها الأخير، ويعلل رأيه بأن هذا الاعتقاد «سيجعل من جميع القصص مجرد محكيات بوليسية». ذلك أن ما يثير الاهتمام في القصة هو انبناؤها، بكل تأكيد، على التحكم في الفكرة وضبط الجزئيات، أي أنها تتطلب نوعا فريدا من الإيقاع يختلف جذريا عن الإيقاع الشعري، مثلما نجد في قصص (كارفر) التي لا تخبئ لنا أي مفاجآت.
لا يبني كارفر قصصه على أفق انتظار؛ ولا على الدوائر أو المتاهات أو العود الأبدي، بل يحرص على أن يقود القارئ إلى فكرة أخرى غير آهلة بالنهايات، إذ أننا حين ننتهي، مثلا، من قراءة قصة «حماية»، لا نعرف حقا ما إذا كان زوج ساندي سيرافقها إلى المزاد العلني لشراء «براد» آخر أم لا!. وفي قصة «المقصورة»، يضيع مييرز عمدا محطة الوصول إلى ستراسبورغ التي كان يقصدها لزيارة ابن لم يره منذ ثمانية أعوام، ولا نعرف نحن القراء ما معنى أن يستسلم للنوم!، بينما في قصة «شيء صغير جيد» لا نعرف كيف لم يفكر آن وهوارد في مغادرة «المخبز» بعد لفظ طفلهما سكوتي أنفاسه الأخيرة بالمستشفى! وهل نسيا بالفعل حزنهما على الميت بتلك السرعة!؟
تكتمل قصص كارفر تقريبا حين لا نشعر بأنها اكتملت بالفعل. هذا هو التعقيد السري الذي يراهن عليه. وهنا يمكن القول إن كارفر لا يبني قصصه على ما نسميه لحظة التنوير أو ما درجنا على تسميته «الحل». النهاية ليس قدر القصة، ومن المدهش أن قصصه تبتعد عن المسار الديني اللذي تقتضيه النهايات (التواب/العقاب). لا يهتم بالعلل والغايات، ويجعلنا نشعر بأن عبادة النهاية سلوك أناني. ولهذا تميل «القفلات» إلى التحقق بشكل هادئ وغير متوقع. وبطريقة ما، إنه غير معني بالمآلات المنطقية أو العجيبة أو المدهشة، كما أن خططه السردية تستدعي القارئ وتشير إليه، وخاصة في نهايات القصص. إن نهاياتها مؤثرة، لكنه تأثير بالسلب. لا تقدم «حلا»، ولا تجهد نفسها في ما تحديد ما يمكن أن نسميه «الخطوة التالية». إنها قصص مبنية على حكايات لا تعيش لترى نهاياتها، مثلما يحدث في قصة «كاتدرائية»، إذ لا نعرف ما الذي حصل عليه روبرت والأعمى، ولا ما معنى ما كان يقومان به، وما هي القيمة المضافة التي تقدمها الرسمة للخط الدرامي، ولا ما دورها في الحبكة أو تطور الحدث القصصي.
إن كارفر يثبت أن «النهاية» ليست جزءا مهما في الحكاية. فلا يجري الحديث، في قصصه، عن النهاية الجيدة أو المرضية أو المقنعة، ولا عن مدى تأثيرها على الشخصيات أو القارئ بشكل عام، ولا عما إذا كانت تدعو القارئ للتأمل والتفكير. إنها نهايات مقعرة بوسعها أن تترك، بشكل ما، خيبة صغيرة أو سوء فهم لدى المتلقي. غير أنها، مع ذلك، نهايات تقع خارج التفسير، ولا تراهن عليه، إلى حد ما تبدو غير منشغلة بالخروج من المحتمل. نهايات تغلق النص، ولا تغلق انتظارات القارئ، كما أنها غير معنية (أو تكاد) بما يمكن أن نسميه تثغيرا، أي بما تحمله تطورات الحدث القصصي من سيناريوهات ممكنة. لكن ألا يهتم كارفر بنهايات قصصه؟ أليس راعيا كبيرا لـ»اللا اكتمال»؟ أليست «النهاية» هي سر أسراره السردية؟
لا نستطيع الجزم بأن نهايات كارفر مفتوحة، أو أن القاص منشغل، بأي قدر كان، بإشراك القارئ في مشروعه السردي. إنها نهايات تشبه القضم، كما لو أن الحدث القصصي يتعرض للموت في اللحظة الخطأ التي لا مجال لاستيعابها أو إدراك أسبابها، ولو من باب التخمين.
ليس معنى هذا أن «النهاية» لدى كارفر تفتقد إلى الموقع الاستراتيجي حيث يحتشد الأثر المتوقع. وهنا يمكن القول إنها عمق اللعبة برمتها، رغم أنه يقول ليصرفنا إلى غيرها: «أحبّ الوثبة المرنة السريعة للحكاية القصيرة، والإثارة التي تتولّد منذ الجملة الأولى، والشعور بالجمال الملغز الذي ينشأ عنها». إنه باختصار يحب القصة، لكنه في الوقت نفسه مروض كبير للوثبة الأخيرة. وبهذا المعنى، فإن الوحش هو الكاتب. هو الذي يقضم لينهي الحكاية في لحظة مستحيلة. والأمر الغريب بالفعل هو أننا لا يمكن أن ننخرط، رغم كل هذا، في التفسير على وجه اليقين أو التعقب على وجه الاحتمال.
مهما يكن، فإن كارفر- وهذا هو التفسير الوحيد (على الأقل بالنسبة إلي)- يكرم النهاية بكيفية واعية جدا، ما دام قد تخلى عن المنطق الرياضي أو الفانتاستيكي أو الديني، وما دام قد أقام استراتيجيته الكتابية على جعل القارئ يتابع مباراة لكرة القدم، بلاعبيها وجمهورها وحكامها، ثم في لحظة ما يجعله يتابع ( في ذروة الحكي) مباراة لكل الشطرنج بين لاعبي دكة الاحتياط، ثم في لحظة غير متوقعه نكون أمام مباراة في الملاكمة بين المدريين. كل شيء يتم في فضاء واحد، وكل شيء يجرنا إلى منطقة خارج ما تعودنا عليه من نهايات سعيدة أو سيئة أو مفتوحة. إننا نعرف متى بدأت الحكاية، لكننا لا نعرف إلى أين ستؤول.
يعلمنا كارفر، إذن، أن النهايات يمكنها أن تكون شبيهة باليقظة من حلم ( أو كابوس) لم يكتمل، ولا أحد يمكنه- بمن فيهم الحالم حتى لو عاد إلى النوم- أن يقبض على نهايته كما يجب (أو كما نتوقع) أن تكون. كما يعلمنا بأن القصة ليست علاقات سببية، وليست دائما صراعا بين قوى متعارضة محددة سلفا. لا شيء ثابت، ولا شيء نهائي، ولا شيء يفضي إلى شيء واحد فقط. غير أن كارفر، مع ذلك، يدعي أن ما يهمه في النهايات هو أن تكون إيجابية حتى لو كانت تعمل ضد منطق الحكي. يقول: «على القصة أن تكشف شيئاً وليس كل شيء. يجب أن يكون هناك لغز معين في القصة. لا أحب أن أصيب القارئ بالإحباط، لكن هذا صحيح، أنا أخلق توقعاً، لكني لا أحققه».
النهايات الأخرى
الكاتب : سعيد منتسب
بتاريخ : 22/11/2024