شكل المعرض الجماعي الذي احتضنته إحدى دور العرض الفني بمدينة الدار البيضاء خلال الفترة الممتدة بين 3 فبراير و10 مارس من سنة 2016، مناسبة للوقوف على نتائج الجهد المسترسل والتنقيب المستدام والخلق الرائد الذي طبع التجربة الثرية لرواد الفن التشكيلي بمدينة أصيلا. لقد قيل الشيء الكثير عن هؤلاء الرواد، وعرفت دور العرض، الوطنية والدولية، لقاءات ومنتديات باذخة لمساءلة رصيد تجربة «مدرسة أصيلا»، بتعبيراتها الإبداعية المتداخلة وبقيمها الجمالية المجددة وبأبعادها الإنسانية الواسعة.
وإذا كان المعرض المشار إليه أعلاه، قد أثار مواكبة إعلامية واسعة في حينها، إلى جانب التفاعل المتميز الذي حظي به لدى نقاد الفن التشكيلي وعموم المهتمين، فإن العودة لتفكيك نظيمة الخلق والإبداع لدى العارضين، تظل أمرا متجددا ومفتوحا على رحابة فعل السؤال وعلى تحديث متواصل لذهنيات قراءة المضامين، بحثا عن بهاء صور العطاء الذي نزعم أنها تصنع للمدينة هويتها البصرية المتميزة داخل وسطيها الجهوي والوطني الواسعين. لا يتعلق الأمر برؤى نوسطالجية حالمة بأيقونات النبوغ والأصالة وسحر المكان، ولا بكليشيهات انطباعية تختزل الصور والرموز لتعيد إنتاجها استنساخيا وتجسيديا بطريقة تقنية مجردة، بقدر ما أنها استلهام عميق لعبق المكان قصد تطويع شواهده ورموزه المادية قبل تحويلها إلى بؤر لتفجير ملكة الخلق والإبداع والتجديد لدى الذوات التشكيلية المبدعة. باختصار، أمكن القول إن المعرض المعني في هذا المقام، لم ينته بانتهاء فعالياته، بل ظل ورشا مفتوحا للمساءلة المتواصلة وللقراءة المتجددة، خاصة وأن الكتاب/الدليل المرافق قد نجح في تقديم مواد ثرية، بصرية ومكتوبة، تساهم في وضع أرضية صلبة لكل محاولات التوثيق للتجربة ووضعها في سياقاتها المخصوصة المرتبطة بتفاعلات المشهد الثقافي الوطني المعاصر. فالكتاب/الدليل يشكل الأثر الوحيد المتبقي بعد انتهاء فعاليات العرض، تكون العودة للبحث في مضامينه حجر الزاوية في التوثيق للتجربة ولعطاء أصحابها.
لا شك أن الحديث عن الهوية البصرية لمدينة أصيلا يظل أمرا مكتنفا بالكثير من عناصر الحذر والاحتياط المنهجيين، إذ لابد من توضيح ضوابط التقييم المعتمدة بهذا الخصوص، خاصة وأننا نتحدث من خارج القواعد الإجرائية للنقد التشكيلي المتخصص الكفيل لوحده بوضع التصنيفات وبإنجاز التقييمات. ومع ذلك، فالانشغال بإبدالات حقل التاريخ الثقافي، يعطي لمؤرخي الزمن الثقافي الراهن الحق، كل الحق، في الإنصات لكل الأصوات وفي النهل من معين عطاء كل التعبيرات الإبداعية والفنية والجمالية التي تعكس سمو إرادة الخلق والجمال والإبداع في نسق حياتنا المعيشية ونظمنا الفكرية المتوارثة. لا نقصد بالهوية البصرية، تحنيطا للأسماء أو استنساخا للتجارب، فلكل اسم عالمه التخييلي الخاص به، وأدوات اشتغاله الخاصة، ومنطلقاته الفكرية الموجهة، وقبل كل ذلك، رؤاه الخاصة في التعاطي مع فضاءات الاستلهام وفي توجيه العين نحو التقاط التفاصيل والجزئيات وثقل التاريخ وتقاسيم الوجوه وتعبيرات الشواهد المادية القائمة وتغيرات المحيط. وفي إطار هذا التداخل في مكونات العناصر الارتكازية لفعل التشكيل، تحرص كل عين على الوفاء لحميمياتها المخصوصة، مما يساعدها على بلورة تجربتها الخاصة بها، والتي لا تشبه سواها، لا في تمارينها المدرسية، ولا في أيقوناتها المتفردة، ولا في أدوات تعبيرها، ولا في الحمولات التجديدية على المستويات الفلسفية والجمالية الموجهة لفعل الإبداع، والمؤطرة لعوامل الخلق لدى كل واحد من الأسماء المشاركة في المعرض.
إنه جهد معرفي ونظري وتطبيقي للدفاع عن قدسية الفردانيات الصانعة لمعالم التميز والاختلاف داخل بنية ناظمة للانتماء الجماعي لفضاء يظل من الخصب ومن التنوع ومن الثراء، لدرجة يعطي لكل صوت فرص الاستمتاع بالمشاركة في ترصيص عوالم هوية أصيلا البصرية، على اختلاف منطلقاتها وعلى تباين رؤاها وعلى كثافة تعبيراتها، من نحت وصباغة زيتية وأخرى مائية ومعلقات مشرعة على الفضاء العام… ولعل هذا ما انتبهت له جل الكلمات المدرجة في دليل معرض فناني أصيلا بالدارالبيضاء لسنة 2016، والتي ساهم بها كل من الزبير بن بوشتى، ومحمد المليحي، وجان بيير فان تييغيم، والطاهر بن جلون، وأحمد الفاسي.
هي تجارب لفنانين يصنعون بهاء أصيلا الثقافي الراهن، يجمعون بين تجارب التأسيس ومخاضات الولادة وآفاق الاستشراف. هي منجزات لاشك وأن الاهتمام بها، إلى جانب تجارب أخرى خارج هذا التجميع، تشكل مدخلا لتشريح منطلقات الوعي التشكيلي الذي استثمر تجارب رائدة إما بشكل فردي أو في إطار تجارب مواسم أصيلا الثقافية أو تجارب جمعيات محلية وعلى رأسها جمعية قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي، من أجل تحقيق التراكم الضروري الكفيل –لوحده- بصنع عناصر الريادة والتميز، أو لنقل، بتأثيث مكونات الهوية الثقافية المحلية، الواحدة والمتعددة، الفريدة والمتنوعة، الوديعة والمنفتحة، المنبهرة بعمق منطلقات الاشتغال الخاصة بالمكان والمنفتحة على نتائج الجهد الأكاديمي والتكويني الهائل الذي تعرفه الممارسة التشكيلية وطنيا ودوليا.
لقد استطاع المشاركون في المعرض توفير مادة خام هامة للاشتغال بالنسبة لكل المنشغلين برصد تحولات المشهد الثقافي المحلي، بعمقه الأخاذ وبكثافة معانيه وتمثلاته، وبغزارة رموزه وتوظيفاته الاستيتيقية. يتعلق الأمر بأعمال كل من محمد عنزاوي، وسهيل بنعزوز، وأنس البوعناني، وحسن الشركي، ونرجس الجباري، ويونس الخراز، وحكيم غيلان، وعبد القادر المليحي، ومحمد الأمين المليحي، ومحمد المليحي، والباتول السحيمي، ومعاذ الجباري.
هي أعمال تتمدد فيها اللحظات، لتنهض عليها حيوات ومسارات، وتتمطط فيها الألوان والرموز والأمكنة لتعطي لقيم الخلق المتنافرة والمختلفة زخمها المطلق الذي ما هو إلا عنوان لهوية أصيلا البصرية المركبة، في طراوتها وفي تعقيداتها وفي تعدديتها.
الهوية البصرية لمدينة أصيلا .. حين يناجي أزرق البحر بياض الحيطان
الكاتب : أسامة الزكاري
بتاريخ : 11/10/2017