الواقع يؤكد عزوف أغلب المهنيين عن تحمل المسؤوليات تفاديا لتبعاتها .. المستشفى الجهوي لأكادير .. بين الإعفاء، المحاسبة، وأعطاب السياسة الصحية

أدت الوقفة الاحتجاجية الثانية التي نظمها عدد من المواطنين رفقة فعاليات مدنية بأكادير أمام المستشفى الجهوي نهاية الأسبوع الفارط، والتي تعتبر ثاني وقفة احتجاجية، في مغادرة أمين التهراوي لمقر وزارة الصحة والحماية الاجتماعية بالرباط والانتقال إلى هذا المرفق الصحي لمعاينة الوضع به وتفقد ما الذي يجعل عجلته عاجزة عن الدوران في الاتجاه الصحيح، ومحاولة تصحيح أي اختلال جعل هاته المؤسسة الصحية تحيد عن سكّتها الصحيحة التي تتمثل في تقديم العلاجات وتلبية الاحتياجات الصحية للمواطنين.
الزيارة، وصفها عدد من المتتبعين للشأن الصحي بـ «الشكلية»، بالنظر إلى أن هذا المستشفى الجهوي ظل مثار انتقادات مهنيين وفاعلين لمدة طويلة، وكان موضوع مطالب بـ «تأهيله» لكي يستوعب أعداد الوافدين عليه، ليس من المدينة فحسب بل حتى من خارجها ومن مناطق تبعد عنه بمسافات طويلة، لكونه الوجهة الصحية العمومية الوحيدة بالنسبة للكثيرين، قبل أن يصبح مصدر قلق وخوف، خاصة بعد ارتفاع أعداد الوفيات التي سُجّلت به. ومباشرة بعد جولة وزير الصحة أعلن التهراوي عن اتخاذ مجموعة من القرارات الإدارية «الجديدة/القديمة»، على رأسها إعفاء المندوب الإقليمي والمديرة الجهوية والمدير السابق للمستشفى من المسؤولية، وتعيين مدير جهوي بالنيابة، إضافة إلى ما يتعلق بشركات تدبير النظافة والحراسة الخاصة، في انتظار ما ستسفر عنه نتائج التحقيق الذي أوضح بأن المفتشية العامة تشرف عليه والتي ستحال على الجهات المختصة.
القرارات التي جاءت لمحاولة امتصاص غضب ساكنة أكادير مما وقع ومن تدني الخدمات الصحية في المستشفى الجهوي، هي وإن كانت مهمة لكنها تبقى جزئية، بالنظر إلى أنه يمكن بالفعل أن تكون هناك أخطاء في التدبير وسوء التقدير في اتخاذ مجموعة من القرارات وغيرها، والتي إذا ما تأكدت فيجب بالفعل إعمال المحاسبة الذي هو شرط أساسي مقترن بتحمّل المسؤولية، خاصة إذا ما كانت هناك تفاصيل تبين إهمالا وتقصيرا واستخفافا بأرواح المواطنين وأشياء أخرى قد لا تراها الأعين «العادية». إلا أن قرارات إدارية من هذا القبيل، يرى الكثير من المهتمين بالشأن الصحي بأنها لا يجب أن تصبح «موضة» وأن يتم تحويل المهنيين إلى مشجب تعلٌّق عليه كل أخطاء السياسة الصحية، لأن من الأسئلة البديهية التي تُطرح، هل لم تكن الوزارة على علم بما يقع؟ ألم تتوصل بمراسلات وتقارير تشير إلى خصاص في الموارد البشرية، خاصة على مستوى التخصصات الطبية المختلفة، وكذا في المعدات التقنية وغيرها؟ ألم تتوصل الجهة الوصية بمعطيات تفيد بأن غضبا عارما يستشري في نفوس المواطنين وتتسع رقعته ومداه بشكل تدريجي، وكان من الضروري حينها التدخل بشكل استباقي تفاديا لأي خطوة قد يكون لها ما بعدها؟ ألم تسمع النداءات التي تدعو إلى فتح المستشفى الجامعي؟ وإذا تكرر نفس السيناريو في مناطق أخرى هل سترفع الوزارة «البطاقة الحمراء» في وجه مسؤولين آخرين، محليين وإقليمين وجهويين، وبالتالي يكون هذا «التوجّه» هو وصفتها لـ «علاج» جراح المنظومة الصحية؟
إن أعطاب السياسة الصحية في بلادنا متعددة، وهي ليست وليدة اليوم، لكن من غير المقبول في ظل التحولات الكبيرة التي يعرفها ورش الصحة، تشريعيا وتنظيميا، خاصة بعد إعلان الورش الملكي الرائد للحماية الاجتماعية، وتخصيص ميزانيات مهمة لتأهيل البنية التحتية وتجويدها، أن تستمر مشاهد الألم والأنين، وأن يعاين الكلّ مرضى من الرضع والأطفال والمسنين، وغيرهم، نساء ورجالا، «يحملون» عاهات وإصابات وغيرها وهم يعرضونها أمام الكلّ لإظهار ما عانوه من تداعيات بسبب تسويف ومماطلة، فيتم التدخل من أجل التعامل مع حالات فردية عوض اتخاذ ما يلزم لضمان عدالة صحية مجالية للجميع على قدم المساواة. لقد تتبع الجميع كيف بات مهنيو الصحة «يفرّون» من المسؤولية في القطاع العام، فمنهم من غادر «طوعا»، ومنهم من قدّم استقالته، والذي لم تقبل منه «هجر» المستشفى من أجل «طرده»، وهو ما تؤكده كذلك المناصب المالية المفتوحة التي ظلّت «معلّقة» ولم يتقدم أحد للتباري بشأنها، على مستوى مستشفيات من مستويات مختلفة، وهو ما يوضح وبشكل جليّ على أن تحمّل المسؤولية بات عند البعض بمثابة «المغامرة» غير محسوبة العواقب، بما أن قيادة مرفق صحي في غياب الشروط الأساسية والعملية التي يمكن أن تساعد على تحقيق الأهداف، التي قد تكون إما متوفرة نسبيا، أو غائبة كلّيا، وسيكون مصير «ربابنتها» الإعفاء في يوم من الأيام أو المحاسبة على نقائص تتجاوز ما هو محلّي وإقليمي أو حتى جهوي إلى ما هو مركزي!
إن ما شهده المستشفى الجهوي لأكادير، من وفيات، ومن غضب، ومن آلام متعددة، ما هو إلا صورة مصغّرة لما يقع في الكثير من المرافق الصحية العمومية، التي بات شعارها «التأجيل»، في المواعيد وفي الفحوصات وفي التدخلات الجراحية، وأضحت عبارة عن مرافق إسمنتية بدون روح، يجد المريض نفسه وأسرته حين ولوجها بعد جهد جهيد أنفسهم مطالبين بإجراء الفحوصات المخبرية وغيرها خارج أسوارها، وباقتناء مستلزمات طبية للقيام بتدخلات علاجية مختلفة، وهي ممارسات قد يكون بعضها بـ «سوء نية» عند البعض، ولغايات معلومة، لكن في كثير من الحالات تكون نتيجة لواقع مرير يؤكد بأن «هادشي اللي عطا الله»، وبأنه في غياب الحلّ لا يمكن القيام بأكثر مما هو متوفر. هذا «الفقر الصحي» الكبير تتعدد مظاهره ويترجمه كذلك واقع حال القطاع الدوائي الذي يعيش على إيقاع الندرة و»الانقراض»، وتتعدد المستويات التي تكشف تفاصيله بكل وضوح وبمنتهى المرارة، مما يجب معه تحمّل الوزارة مسؤوليتها كاملة، ومعها كل مكونات الحكومة، لأن الصحة تتقاطع في «مربّعها» كل القطاعات والسياسات الحكومية الأخرى.


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 18/09/2025