«الوجْهُ أوّلُ الإنسان»، أو وُجُوهٌ من أرْضِنَا

تَفاعُلٌ مع وُجُوهِ فنّان تشكيلي شاب «عصام رابع»

 

لَيْسَ سَهْلاً أن تتحدثَ عن تجربة في بدايتها؛ وربما هي مُغامرة، لا سيما ومرحلة الشّباب يَطْبَعُهَا الفضول والتّقليب والتّجريب والسّؤال والتمرّد على كل الأشكال الّتي تُؤلّفُ مرجعاً أو نموذجاً للنظرة السّائدة؛ النّظرة بما هي إطار عام لمختلف الأفهام والتصورات الّتي بموجبها تَنْتَظِمُ الحياة ويُدْرَكُ الْعَالَمُ ويتأسَّسُ الإنسانُ… لكن، أحيانا تثيرك تجارب شابّة بالنَّظَرِ لِمَا لها من قُوّة على الجَذْبِ ولَفْتِ الانتباه (وحتّى التأثير)، أي لما تَلْمَسُ فيها من عناصر الجِدِّ والصِّدْقِ والعَنَاءِ ووَجَاهَةِ السّؤال الّذي تتقدَّمُ بهِ إلى العينِ ما يَفْرِضُ التوقُّفَ والالْتِفَاتَ إلى صاحبها بكثير من المسؤولية؛ ونحنُ هنا بصدد الحديث عن تجربة تشكيلية شابّة، إذْ بدأ شَغَفُ «عصام رابع» بالأشكال والألوان منذ الطفولة.
افْتُتِنَ عصام منذُ بدايته المبكرة برَسْمِ الوُجُوهِ على الخُصوص، وأجَادَ في رَسْمِها دُوُنَ أنْ يَعْرِفَ أنّ ما يقومُ به هو فنٌّ قائمٌ بذاته؛ أي أنّهُ يُمارس فنَّ «البورتريه». وزادَ فُضوله وعشقه لَمّا توَجَّهَ في مرحلة الثانوي إلى دراسة الفنون التطبيقية، الشّيء الّذي جَعَلَهُ ينتبهُ أنّ المجالَ الّذي أصْبَحَ يخوضُ فيهِ شاسِعٌ ومُتَشَعّبٌ، ويحتاجُ إلى معرفةٍ علمية دقيقة. وحُصوله على الباكالوريا في مجال تخصصه، زادَ من لهفته على المعرفة والبحث بمُختلفِ الطّرق الممكنة لتطوير مهاراته وتوسيع ثقافته البصرية. ومَكَّنَتْهُ إقامته في الرباط لمتابعة دراسته من الانفتاحِ على تشكيليين مُكَرَّسين، ومنهم من زارهم في محترفاتهم، ناهيكم عن إقباله على زيّارة المعارضِ الّتي تُقامُ في أروقة الرّباط: محمد الفاسي، باب الرواح، لوداية، النّادرة، مسرح محمد الخامس، متحف محمد السادس للفن المعاصر…
مهارةُ عصام في عمله، لُطْفُهُ، قُدْرَتُهُ على الإنْصَاتِ، استعدادهُ الدّائم للتَّعَلُّمِ… مُمَيّزاتٌ جَعَلَتْهُ يحظى بالقبول في أوساط المهتمين، ويربط علاقات طيّبة مع تشكيليين من أعمار مختلفة وحساسيات مختلفة، إذ شاركَ في مهرجاناتٍ (شبابية) عدّة، قدَّمَ فيها مساهمات محترمة، سواء تعلّقَ الأمر بأعمال صباغية (peintures) أو الرّسم على الحيطان، دونَ أن يَحِيدَ عن الوَجْهِ كموضوع، وكأنّ بلسانِ حالهِ يُرَدِّدُ مع الشّاعر أدونيس قولته البليغة: «الوجْهُ أوّلُ الإنسان».
إن المُتَأَمِّلَ في أعمال عصام يُحسُّ بجِدِّيَتِهِ وانْهِمَامِه بتطوير نظرته وأدواته من أجْلِ صيّاغَة جُمْلَتِهِ البصرية الخاصة به؛ وحديثه المتردد عن لوحته، بكلمات قليلة (عالمة)، ثم يداه اللّتان لا تتوقفان (عن الرّسْمِ بالحركة) تُحِسُّهُمَا تستدركان لتقولان ما تخلَّلَ كلماته من صَمْتٍ بالخطّ واللّمْسِ… إشارات عِدّة تُؤكد أنّ عصام، وبرغم حداثة سنِّهِ، قد تلَمَّسَ، أنّ الأسلوب ليس مجرّد تطويع لتقنية ما، لكنه رؤية جمالية للعالم، يُعَبِّرُ من خلالها الرّسام عن هموم وأحلام الكائن البشري بالخط والشكل واللون.
وبفضل مثابرته، صَارَ له من الكفاءة ما جَعَلَهُ اليوم يمشي بثباتٍ وهو يُقَلِّبُ الْوَجْهَ (البشري) الّذي ما فتئَ يَفْتِنُهُ، على أسْنَادٍ مُتنوعة: ورق، كارطون، خشب، قماش… والحيطان الخلفية المنسية، يرْسُمُ عليها وجوهه المُتخيَّلَة؛ وُجُوُه شخصيّاتٍ تاريخيّة يُعيدُ إحياءها/ تخيّلها: شُعراء ، مُفكّرون وفلاسفة (قادة سياسيون)، حتّى لتَبْدُو للعينِ وكأنّها تَسْكُنُ الحيطانَ أو تُطِلُّ منها علينا، لتُنَبِّهنا إلى مَكْرِ التّاريخ وغَدْرِ الزّمان.
يَدُ ربيع ماهرة خفيفة كبهلوان يمشي على حَبْلٍ، تَتَنَقَّلُ من الرُّسَيْمَةِ إلى الرّسْمِ باحترافية فائقة؛ والعَيْنُ المتمرسة تلتقط ذلك بسهولة؛ إذ تظهرُ بلاغة رسماته جليّة حين ترى توظيفه لأكثر من تقنية في عمل واحد؛ ثم الكثافةُ والقُوة الّتي تَتَدَفَّقُ بها الألوانُ والأشكالُ من اللّوْحَةِ إلى العَيْنِ، تُحِسُّها، في الوهلة الأولى، تنْقَضُّ عليكَ كوَحْشٍ، لكنها لا تلْبَثُ تَتَخَفّفُ وتَشْرَعُ أمَامَ العَيْنِ كلّ المُتَعِ الّتي يُتيحها تناغُم الألوان النّاجِمِ عن خِمِيّاءٍ صَهَرَتْ هَيْئَاتٍ وسِمَاتِ وُجُوهٍ ومَوَاد مختلفة وتقنيات مُتنوّعة بشكل جميل رَامِز.
إنّ اللّوحة عندَ «عصام رابع» تكشفُ عما بداخلها، ويُمكنكَ أن تَتَنَقّلَ من مرحلةٍ (جنينية) انْدَمَغَتْ خطوطها المُحتشمة على مساحة ما إلى سِمَاتِ مرحلةٍ أخرى، تَبْزُغُ فيها عناصرُ الوَجْهِ بخُطوطٍ وضربات قوية دُونَ أن تُحِسّ بالتّنافُر… والعينُ كالفراشة تتَنَقّلُ بسلاسة من أثار قلم الرصاص إلى أثار الفحم أو الباستيل أو الصّباغة التي تُحِسُّها وكأنّها تَدَفّقَتْ من إناءٍ وسالَت على مساحات في اللّوحة أو انْطَبَعَتْ بصماتٍ أو قطرات أو شوارد أو خُطَّت رموزاً… بأسلوبٍ ينْشِدُ جمالية المُنْفَلِتِ، والشّارِدِ، والْحَواشي أو الحدود السائلة التي لا تنْفَكُّ تَذُوبُ في الخلاء… أسلوبٌ مُعْظَمُ ملامحه /عناصره تشكّلُ ما يمكن أن نسمّيه «نظام» الهامش أو جُغرافياه… أسلوبٌ يَحْفِزُ النّاظِرَ على مزيد من التأمل دون أن تَمَلَّ عينه أو تَتْعَبَ وتُفْلِت رَأْسَ الخَيْطِ إلى المعنى (الفهم). ففي كلّ تراكيبه/ وُجُوهِه، نُحسُّ بذكاء بصري يُوَجِّهُ الْيَدَ والْعَيْنَ إلى ضالَّتِهِمَا دُونَ الوقوع في الحَشْوِ أو العسف؛ أي دون اقتراف زيّادات قد تُشوّش على تجانُسِ وتناغُمِ مكونات مُؤَلَّفِهِ البصري.
إننا أمام تجربة شابّة واعدة؛ تجربة تؤمن بالمثابرة، وأيضاً بالمغامرة، لأن عصام (هاجرَ/يُهاجِرُ) إلى إيطاليا وكلّ أمله أن يتابع دراسته الجامعية في مجال الفن. والدّليلُ على جِدَّةِ مُنْجَزِه هو مُنْجَزُهُ (نفسه)؛ فكلُّ وَجْهٍ/لوحة هو حصيلة لأكثر من مرحلة؛ ابتداء بالتأمل والاستعداد والإقْدَامِ والتّراجع، إذ يرسُمُ عصام ويَمْسَحُ بلا كَلَلٍ، يتوقّفُ يُفَكّرُ يُصوّبُ ثم يشرعُ في العمل من جديد. كلّ مرحلة في البناء/الرسم/المُعالجة، تتطلّب أدوات ومواد ومهارات ومِزَاج، حتّى ينبثق الوَجْهُ الّذي يسميه عصام «وَجْهُ الأرضِ»، أو وجوه إفريقيا ورموزها السّاحرة. وُجُوهُ عصام أزهارٌ تَنْبُتُ من الأرض. وكأنه يريد أن يقول لنا، إن أرض أفريقيا وَجْهُنَا جميعاً، ويجب أن نتصالح مع وجهنا، لأنه بليغ وأصيل وحقيقي كالأرض. ومن خلال ألوانه الّتي تتفرَّعُ عن التّرابِ/الوطَنِ؛ أتْرِبَةٌ حمراءُ ومحروقة ورمادية وسوداءُ وجيريّة… تحسُّ بأنّه لا يريد أن يكبر، يريد أن يبقى طفلًا ليطلي وجوهه بحرية، وبكل ألوان الأتربة التي في مُتناول يده.

ذ. التربية التشكيلية


الكاتب : عبد الله لغزار

  

بتاريخ : 28/12/2022