الوصايا السبع للسيدة العجوز جَرْحُ السُّؤالِ بِسَرْدِ الأَحْوالِ

ها قد عادت عادتي إلي، وعادتي أن أعود إلى نفسي هديرا صاعدا إلى العمق العصي. يقود المرءَ نصفُه إلى نصفِه حين يحجب حضوره عن عيون الآخرين وأنوف المَشّائين، ثم إنني مَشّاء جَيّد؛ قد لا أشي بأحد إلى أحد، غير أنني أنقل عبير الكلمة إلى الكلمة بين إيقاعين يخرج منهما الصوت صورة للمعنى، ثم لمن قد يخط الشاعر نُدف القصيد؟ هي الآن دفينة المرتفعات، الغوص إليها عزيز عن الدفع، لذا أرغب عن القصيد بالقصد، وأرغب بالقصد عن القصيد؛ وهنا الأولى يتجلى القصف، قد يقول القائل: ما المعنى؟ قد تتشابه الكلمات على بعضهم جراء انحطاط اللغة في الرصيدِ، رصيدِ المودة في العبارة، ثم إنها نائمة كما لو أن زمنَ العيد شاهق المبنى؛ قد رأيت الأعشاش ترحل من أصابع إلى أخرى، رأيتها ورأيتُ كيف لا يعزّ على القوم ذل عزيز القوم، وتساءلتُ: يا أنتَ ما أنتَ؟ أأنتَ أنتَ أم أنتَ أنثى لا صدرَ لها ممتلئٌ ينزعُ عنّا شبهةَ انتمائكَ؟ وهنا الثانية أضع نقطة غير أني لن أعود إلى السطر؛ فالمعنى القصيُّ سِجال، والمعنى الجليُّ عِقال، والسؤال العتيد، ما من أحد يبحث عن فحوى السؤال؛ ولأن الأمر موكول إلى العيد، وفي العيد من غير اللائق طرحُ الأسئلة، يبقى السؤال البَدَهِيّ البديل عن السؤال العتيد: ما المعنى؟
ولو أنني ما سرتُ في ركابها كنتُ حتما راكبها وانتهى الأمر؛ ولا أراني إلا حطبا لنار سليلة الموقد، ولا أراني إلا حجرا سميكا يَنْرَصُّ على حجر سميك. إنهم يبحثون عن صعود سقف المبني، ولا أحد منهم يبحث عن شَغْلِ موطئ قدم أو لبنة أساس؛ ثم إنه لن يكون شرف المبنى إلّا لخلّاط العجين، ولن يكون سيِّدَ القوم إلا خادمُهم، ولن تغني مسّاكات الورق عمّا يحمله الورق؛ وهو ما يدفع بالسؤال البَدَهِيّ البديل عن السؤال العتيد: أين المبنى؟
وأرافق جسدي إلى نهايته مَتى ينتهي السياق، هناك أجد اللحظة والسياق رديفين في تشكيلٍ لا علاقة له بتشكيل الموتى لمعنى وجودهم تحت الرَّدْم، والكل عاجز عن فهم ما يراه الكل واضحا، والواقع أن ملابسات اللحظة تبقى نتيجة وحسب، ويبقى السياق هو الخبر اليقين؛ وهنا الثالثة يشحب لوني، وأتصل بالسيدة العجوز؛ إنها عجوز بما يكفي كي تَمِيزَ البقر عن البشر، هي عجوز مرصاد، أنتبه لما تقول فأرى صوتي ينعكس إليّ شَفاهة، بِكراً، تختفي الكلمة، تعود إليّ؛ الصورة لا ترجع إلا كرَجْع الشبيه المستباح، الصورة مقبرة الكلام؛ قد سئمتُ كل الثنائيات، ماذا لو جعلناها واحدا؟ أليس من الواحد تنبعث الآحاد، وهي الجمع المتعدد؟ وليس بعيدا، اُنظر إلى نفسك، إنك لست واحدا؛ إنك وجه بائس لشخوص تمعن في التضارب، السيف الذي يقطع رأسك يقطع رأسي، فلمَ البكاء على نفسك دون نفسي؟ هل تراني لستُ أهْلا لاعتلاء عرش نحيبك؟ أنا ترسانة قنابل مُسَيّلةٌ للدموع، اُنقر عكس اتجاه الهشيم ترى الأنهار مالحة والعيون بلون الدم؛ ثم هي ذي العجوز تفتح كتاب وجع أصيل، تبدو نصوصه واحدة إلا من أسماء مختلفة، تقف عند الصفحة الأولى؛ الصمت..يتطاول عنقي، تُشيحُ، تقف بلا أرجل ثم تقرأ: ما كان لبني أُمَيّة على بني العباس من فضل، وما كان لبني العباس على بني أمية من فضل؛ إنهم شركاء في هزيمة السادس من حزيران.. الشكرلأبي جعفر يقود قوافل الذهب شمالا، وللجنوب غصة الحلق؛الصمت.. يتطاول عنقي، تطالعني الصفحة بيضاءُ عذراءُ، براءةٌ من كل ما قيل؛ ويأتي السؤال البَدَهِيّ البديل عن السؤال العتيد: (ما) نحن؟
وهنا الرابعة، يصبُّ العطرُ جميلَ القبلات على الجيد المديد، وتعاودني الأمكنة، ثم إنني متيم بها وبما جاءت به، تعلو كأعلام الكشافة، لها طرب النفس في نفس الأعزل الواقف في الظل؛ ثم لو لا أنها ما استعجلت رحيل العمر وانكفأت إلى الركن الذي ينتهي أصحابه سهوا، لكان في الكلمة بقيّة مما يُقال، فهل تراني أحيا إلا كما تحيا ويحيا الآخرون؛ ثم هل لي أن أسألك بنتوء الإبصار لا برماد الأعين: من يحمل الأنفاس إلى النفس؟ أليس هو الكشف البهيّ عن المعنى، حيث شموس الصبح تضيع، تضيع المطايا السبع، تنأى النوايا ويَبْعُدُ السعد، فيرحل العمر مهرولا إلى الله. وإني لا أشك في يقين الألوهة، غير أنني عاجز عن تشكيل نفسي وَفق ما أوصى به العزيزُ أبي آدم حين أنزله وبعضا منه على هذه الأرض؛ وليس لي في الأمر، هو الأمر خارجٌ عن نطاق التحكم والاحتجاج. أي نعم، هي سريرة نفسي ما حمل إليّ هذا الشجن، غير أن الأيادي التي صنعتني، بعد يد العزيز، كثيرة ولا تُحصى؛ لأبي يدٌ طُولَى، ولسائر العائلة، للمهرولين معي ومن قبلي، لدكاكين العطارين، لصديق عاديتهُ نصف زمن صداقتنا، لأستاذ الصف الرابع، وما تبقّى مني صنعتهُ الأجهزة؛ ولأنني عربيّ وريث، عربيّ بالموهبة، صرتُ مَوبوءا بالنقط والحروف والفواصل، صارت تخافني القبّرات. وأمام الجسد المليء يقف الكل على السكون، وعلى حركة الخطو أخط السؤال البَدَهِيّ البديل عن السؤال العتيد: ما يُخيف القُبَّرات؟
وهنا الخامسة، لا شيء غيرُها يدعو للأسف؛ الخيبة وتوالي الخيبات، لذلك لا تأسى على موتي، إن أنا متُّ قبل شروق شمسي؛ لن أضع أحدا في مطب إخراجها، كرما من سريرة نفسي التي حملت إليّ هذا الوجع؛ ومقولة موت الشاعر موت النصّ، هذه لا تبعث على الارتياح، لذلك أواري في مخابئ النفس هواجسي إلى حين، وأنطلق إلى السيدة العجوز؛ إنها تغزل صوفها على وثيرة الأصيل، حمرة الشفق، يا ليمونة الأفول، يا نهاية يومٍ وبداية يومي، كيف أخلص نجيّا من نسق السكين؟ العجوز توقد نار تنورها مع هسيس الصباح الأول؛ الشمس الثانية للمدافعات عن الشطح والركح دون وجه حقّ أو سبيل؛ يا جسور العالم انكسري! نساء الأطلس لسن للبيع، دونهنّ ودونكِ صدور رجال أينعت زرابيَ من شباب شجر البلوط واللوز، وعجائز الأطلس كلهنّ شائخات المبنى؛ فما المعنى، وما المبنى إلّا ما لثمته خطوط جباههنّ البهية الحرية بالمجد؛ ثم هل لي أن أسأل خارجا عن سياق الأسئلة؛ ثم إنني أتردد في السؤال، لذلك أوقف تنورة الصبية الرقطاء عن اللعب في الهواء، وأستجدي ماء الورد وطِيبَ الأهازيج للسيدة العجوز، وأُوَقّع أسفل ورق الزعفران سؤالا بَدَهِيّاً بديلا عن السؤال العتيد: ما بالها تفرُّ من الأسئلة؟
وهنا السادسة، يُمْعِنُ العرس في الإيقاع بحبال المودة، فلا طاب بنا المقام، ولا طال؛ حين صار رجالُنا قواريرَ نسائنا، تاهتْ أرجلنا عن خطوها الوئيد، وانكفأت رؤوسنا عن وسادة الجدّ إسماعيل؛ ويأتي الزمان بما فيه، وما فيه غنيّ عن كل تشبيه؛ تسقط الأجنة عن أرحامها، ولا غرو! تُغرّد العصافير بعيدا عن أعشاشها، ولا غرو! لا هوادة على الرأس الفصيح تهوي المصائب جائعات النفس، ولا غرو!تنسكب الجموع على الجموع، ولا دمع يكوي المُقل؛ ولولا أنها الكرامة، ترقص على وجع المرايا السائحات السابحات في الهواء ابتهالا، ولولا أنها الكرامة ترقى إلى الأكفّ الضارعات الماثلات في رموش الماء انسلالا، كنتُ الأعلى، في المعنى، اشتهاءً؛ فلا غرو، تنكسر الجموع!
أيتها العجوز، ما لي ومالكِ، تسكنين هدير الروح، تملكين رغبة البوح؛ ما لي ومالكِ، تمسحين عين الصقر بمرود الكحل وشموس الجسد، ولا غرو، تنهدّ الصروح على سيماء الحرير المُرَقّط ببسمة من سهام الأطلسية الصبوح؛ ثم لا غرو، لا أخلص من مشيئة الله عليّ من أودية الكمد؛ وها القلب يرتوي ماء سليلا من العين المباركة في الخلاء المبارك، لينساب السؤال البَدَهِيّ البديل عن السؤال العتيد: أين تضع السهامُ وِصالها؟
وهنا السابعة، يحاصرني المد والمدى، ولا أرتقي إلا كائنا محترما جديرا بالأطلسية، أراقصها، واليد البيضاء، يا لونها! أجاهرها نشيد الروح، أنحني لجيدها الموشوم بعطر صباحات غابات الصنوبر الباردة، ترنو إليّ من دفئها مشيئة الحياة، يا لونها! إن لها وهجا بليغا، تُطوّق الحمامات البيض أدرعها، تنهال على صمتيَ المواويل، يا لونها! سهام الأطلسية تراودني وشرفة البوح غربة المساءات؛ التيه تيه المسرّات، يا وجعي؛ حين يبادرني البهاء بالتحية، لا أملك ناصية النفس، فأنجلي؛ أندثرُ، أنعدمُ، لا وجودَ، أنمحي، لا وجودَ، أضيعُ، أتيه، أرافقني إلى حتفي؛ عربون الوفاء شرود الشعراء، غضب الشعراء، والأزيز على الأريج يَحط، يا موت الصاحب الوشيك، يا عُمْرَهُ! نحن الطلقاء إلى التحام نابض بالقرب؛ أنتِ الوفاء إليّ، لا تبتئسي؛ إن موتي عزيز على كلمة منحتني الوجود؛ ولي سماء على فضاء، لي أَنْهُرٌ أُجيدُ صيد الأسماك فيها، ولي مساء يراجع حروف وجهكِ المحفورة أصالة على وجه الاصيل، في عبق الذكرى، ونزق الذاكرة؛ اليد البيضاء، يا لونها! وما كان لي إلا ما كنتُ مَدفوعَ النفس مَرفوعَ الرأس هاجِرا ومُهاجرا؛ وهجيرٌ هو القلبُ حين لا يفتأ يفتح أبواب الصدر المذبوح؛ دم مستقطع من ربيع مستقطع؛ ولي في ما قيل أكثر من سؤال، غير أنها العبارة أوسع من مُتّسع، يا لونها!


الكاتب : عبد الله بن ناجي

  

بتاريخ : 28/06/2024