الوصول إلى مطار المدينة المنورة‮:‬‮ على متن طائر عملاق مثل منام ابن بطوطة!

أسترجع لحظات الحج،‮ ‬في‮ ‬شكل مدارات كتابية،‮ ‬عن تلاطم المعرفة والإيمان،‮ ‬المشاهدات المهنية مع الفتوحات المكية،‮ ‬كما رصص لها الطريق،‮ ‬بخيال زلال ولغة طافحة صاحب المراتب العليا ابن عربي‮. ‬وبنقل ما كان‮ ‬يدور في‮ ‬ذهني‮ ‬وما‮ ‬يدور أمامي،‮ ‬وما كنت أراه من إعادة تمثيل نوبات من النبوة،‮ ‬في‮ ‬المدينة أو في‮ ‬طريق منى والجمرات،‮ ‬والحوارات التي‮ ‬تجعل الأمان أحيانا أكثر قلقا من الغربة في‮ ‬الوجود،‮ ‬مع الحرص على أن تكون للتأملات الصحافية حظها من الجدارة الدينية،‮ ‬كما للمشاهدات المحسوسة قسطها من مراتب الوجدان‮… ‬
كنت أحدس بأن حياتي‮ ‬ستدخل منعطفا‮ ‬غير مسبوق،‮ ‬وتتغير رأسا على عقب‮. ‬لا لأني‮ ‬جئت إلى الحج من فراغ‮ ‬روحي‮ ‬طافح ومطلق،‮ ‬أو من فيافي‮ ‬ديانة أخرى،‮ ‬أو من فراغ‮ ‬عقدي،‮ ‬كلا‮. ‬لم أكن طارئا على الغيب‮: ‬فَأنا ليَ‮ ‬فيه أقاصيص ورؤى من الطفولة‮. ‬فقد كنت أصوم وأصلي‮ ‬وأزكي‮ ‬وشهدت الشهادتين بالسليقة والإرادة والالتزام اليومي‮ ‬مع كل خطوة أخطوها في‮ ‬الحياة‮. ‬وعليه كان الحج واردا‮ ‬في‮ ‬منطق الأشياء،‮ ‬ولما تحقق الإمكان واستوفيت القدرة،‮ ‬تحققت الزيارة‮ …‬
هل أزعم بأنني‮ ‬لم أكن عرضة للشك،‮ ‬أو لتنسيب الاعتقاد،‮ ‬أو حتى للابتعاد عن نشأتي‮ ‬الدينية وسط أسرة تسكن بالقرب من المسجد،‮ ‬تولت القيام بشؤون هذا المعبد من جيل لجيل،‮ ‬من جد وعم وخال وأخ؟
لا‮ ‬يمكن لهذا الادعاء أن‮ ‬يكون صادقا‮..‬ ربما من بين كل الملايين من الذاهبين‮ ‬إلى المكان المقدس،‮ ‬كنت موزعا بين دعة وسكينة حياة ألفتها،‮ ‬وحياة تتراءى في‮ ‬مستقبل مثير أو لعله ملغز‮…‬
كنت مقبلا على قطيعة أنثروبولوجية،‮ ‬بين اليومي‮ ‬المتكرر وبين الجدول الزمني‮ ‬العام والأفكار التي‮ ‬لا تمتحن بميزان العدم‮!‬
لكن كنت أحدس أن قلوبنا التي‮ ‬نضعها مؤتمنة عند صاحب القيامة‮‬،‮ ‬تعرف كيف تلتفت للنظر في‮ ‬الحياة والنظر إليها من جهة أخرى‮.‬
كنت مثل من وجد الجواب عن معنى حياته،‮ ‬لكن الذي‮ ‬يقلقه هو السؤال الذي‮ ‬يكون بعده‮! ‬أو قُلْ‮ ‬صرت‮ ‬لا أجزم بأن الإيمان أو الارتكاز إلى حقائق،‮ ‬يُعفي‮ ‬من‮ … ‬القلق الأنثروبولوجي‮!‬
التحول كان في‮ ‬الخطوة نفسها،‮ ‬مع تدقيق النظر في‮ ‬الهوية الدينية على مشارف الستينيات‮.. ‬كهوية في‮ ‬الموقف من الحياة اليومية في‮ ‬سريانها‮: ‬كيف أعيشها وقد تخليت عن بعضها الكثير‮…‬؟ كيف أواصل العيش،‮ ‬ولم تعد الحياة أولوية،‮ ‬وقد تجاوزتها مشاغل الموت في‮ ‬الجولة السادسة من العقد السابع من العمر،‮ ‬وكيف لا أساير جسدا تعود على الجموح،‮ ‬كنمط وحيد في‮ ‬الكينونة؟ جسد الإيروس الطافح،‮ ‬وهو‮ ‬يستدرج نفسه إلى الطيطانوس الغابر؟
كنت أعرف أيضا أن هناك تيارا من المقادير‮ ‬يجرني‮: ‬لقد أصبحت محاطا بالموت والموتى من الأصدقاء والأهل‮.‬ لا‮ ‬يمكن أن أسلُّم بأنهم ذهبوا إلى اللامكان،‮ ‬اللاعالم‮ ‬صنو العدم الجليل،‮ ‬أو تبخروا في‮ ‬الثقب الأسود لما قبل الخليقة،‮ ‬كما‮ ‬يشاء علماء الفيزياء الكوانطية،‮ ‬ووجدتني‮ ‬في‮ ‬مفترق المشاعر لا القناعات أتساءل،‮ ‬أي‮ ‬طريق سأسلك إلى ذلك‮…‬
الاطمئنان على قسطي‮ ‬الإنساني‮ ‬من الروحانيات كان‮ ‬يتطلب أن تكون الكعبة رمزًا لقلبي‮ ‬كما‮ ‬يشاء الشيخ ابن عربي‮!‬

 

يومه السبت‮ ‬26‮ ‬يوليوز،‮ (2025) ‬سيكون قد مر بالضبط شهران على انطلاقنا نحو البيت الحرام. كنا في‮ ‬المطار‮‬، كما أسلفت عشية السبت الاحد25‮=‬26‮ ‬مايو‮.‬
وما زالت في أطراف الروح والجسد آثار ذلك اليوم وما تلاه، كما ليس مفاجئا أن الرحلة، تقدح زناد ذكرى رحلات سابقة، كما قلت، جاء ذكرها على لسان الأصدقاء الذين تبادلت معهم أخبار الرحلة المغربية إلى الحجاز عبر التاريخ. ولم يكن أيضا استثناء أن يحضر كتاب «رحلة الرحلات: مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة» للمؤرخ والديبلوماسي المغربي عبد الهادي التازي، الذي استبدت به الرغبة في تخليد اسمه في تاريخ تدوين الرحلات والمساهمة فيه، بعد أن كلفه المغفور له محمد الخامس برئاسة الوفد الرسمي للحج سنة 1959 وأشهرها رحلة محمد العبدري الحاحي «الرحلة المغربية»، والتي قطع فيها الطريق مشيا على الأقدام من شمال افريقيا الى مصر ثم إلى العقبة ثم مكة، أما عودته فكانت عن طريق فلسطين، كما كان العديد من الحجاج يختارون ذلك. فيقيمون في القدس أيام أخرى للحج الثاني.
ولعلي سأحرم، مثل قرون أخرى كثيرة من المسلمين من تلك المشاهد الحية للطبيعة من سهول وجبال وأنهار وبحار، وأوصاف المدن والمعالم الأثرية كما تأتَّى له رؤيتها.
عندما بدأنا الصعود،‮ ‬كان قد مضى علينا قرابة خمس ساعات من الإجراءات والانتظار،‮ ‬من تسجيل الأمتعة إلى التوجه إلى الطائرة،‮ «‬ريان اير‮»‬،‮ ‬التي‮ ‬اختارتها الخطوط الملكية المغربية‮. كانت الطائرة، هي الطائر العملاق الذي رآه ابن بطوطة وروى عنه في كتابه «تُحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» في تدوين سيرة الحج.
فقد رأى في حلمه أنه قد «حلّقَ على جناح طائر عملاق فوق نهر النيل»، ثم عبرَ به البحر الأحمر إلى مكة المكرمة.
‬في‮ ‬مصعد الطائرة، سيفجر حاج في أول درج من أدراج الرحلة موجة من الضحك‮: ‬ فقد كان على اتصال هاتفي‮ ‬مباشر بالواتساب/فيديو،‮ ‬ في حديث أيدر أنه دار بينه وبين شريكته،‮ وهي ‬تسأله‮: ‬هل قدموا لكم وجبة العشاء‮؟ ‬
أجابها بصوت صارم وتقطيبة جدية‮: ‬داروا لينا خمسة خمسة للماعون‮!‬
لم تتمالك زوجتي‮ ‬نفسها ولا أنا من الضحك بصوت عال‮ ‬ومن القهقهة‮!‬
هل هو التعب سبب هذا الضحك أم الطريقة الساخرة التي‮ ‬تميز المغربي‮ « ‬الطنَّاز‮» : ‬أم تراه كل هذا‮..‬؟
‮ ‬كنا تخلصنا من الأمتعة‮‬،‮ ‬بعد تسجيلها‮ ،‮ ‬ولم يبق من متاعنا سوى ‬حقائب‮ اليد‮‬،‮ ‬شخصيا وضعت فيها لوازم الهاتف النقال‮!!! ‬والكتاب الذي‮ ‬سيرافقني‮ ‬في‮ ‬الرحلة الى المدينة،‮ ‬والمذكور ‬سابقا‮ «‬رحلة إلى الجزيرة العربية‮» ‬لجيرالد دي‮ ‬غوري،‮ ‮ ‬والذي‮ ‬كُتب سنة‮ ‬5391،‮ ‬وعن زيارة الجزيرة العربية وما رافقها من سياسة وجغرافيا وتهويمات عن طائر العنقاء العربي‮.. ‬كانت الطائرة من النوع الضخم،‮ ‬لِنقل قرابة‮ ‬003 ‬حاج وحاجة‮.‬
دخلنا بطن الطائرة الضخمة وجدنا طاقمها أغلبه أو لم‮ ‬يكن كله من «إسبانيولا»،‮ ‬واتضح بأن الخطوط الملكية قامت بكراء طائرة إسبانية‮ لنقلنا. ‬اتخذنا أماكننا بين ‬المقاعد المتزاحمة،‮ ‬والفاصل بين الصفوف ضيق للغاية‮ ‬يُشعر الحجاج بضيق الحركة‮. ‬وبالقرب منا علقت سيدة سمراء،‮ ‬بلباسها المغربي التقليدي،‮ ‬وعمرها المثقل بالورع‮: «‬ضاصيا‮»‬ DACIA ‬هادي‮ ‬ماشي‮ ‬طيارة». اندلعت موجة ضحك جديدة‮!
‬بعضنا استغرق في‮ ‬التمتمة،‮ ‬ربما قراءة بالسر للقرآن المحفوظ أو ترديد الأدعية‮ .. ‬
شرعت في‮ ‬قراءة الكتاب الذي‮ ‬بين‮ ‬يدي‮.‬ تداعت صوره مثل تحفيز مقصود،‮ ‬سبقتني‮ ‬إليه الصدفة‮. ‬كما لوكان مكتوبا لهاته الرحلة‮!‬
لا مبالغة فهو‮ ‬يتحدث‮‬،‮ ‬من السطور الأولي‮ ‬للتقديم عن‮: «الجلال الذي‮ ‬لا‮ ‬يمكن حتى للآلهة أن تبلغه‮»‬،‮ ‬إنما تحصل عليه‮ الكائنات الفانية‮، ‬وذلك بسبب الحقيقة المجردة لفنائها‮ نفسه!.. ‬في‮ ‬تلك اللحظات التي‮ ‬تتألق‮ ‬الهشاشات الانسانية كلها‮ «‬كما لو كانت في‮ ‬ضوء إبادتها‮»! ‬العالم العابر‮ ‬يستمد نبله من صميم ضعفه بالذات،‮ ‬والأضواء والظلال تقذفها رؤية تلك الظلمة التي‮ ‬تُقْفل على نهارات مزهرة‮.! ‬يا للروعة التي‮ ‬تجود بها الصدفة‮. ‬في‮ ‬كتاب‮ تأخرت في قراءته أزيد من سنتين حتى هاته الرحلة:‬ هل جاءت الصدفة إلي؟ ‬أليس في‮ ‬الامر حكمة ما‮؟
ليست المعجزة هي‮ ‬أن أطير‮‬،‮ ‬بجوار الطائرة‮ مثل الطائر في المنام، ‬إلى المكان البعيد او أسمع وحدي‮ ‬نشيج ابن عربي‮ ‬الآن‮. ‬المعجزة هنا ان تجد كلمات في‮ ‬بطن ليل من حديد‮.. ‬تحدثك عن «ما ـ وراء» جميل في‮ ‬هذه اللحظة المادية الطافحة بالحداثة‮..‬
لا حاجة لعين القلب إلى ميتافيزيقيا‮ ‬مرئية‮! ‬كل شيء ‬يجد جدته،‮ ‬يستعيد دهشته وأضواءه‮: ‬فالطرق التي‮ ‬تربينا فيها مع جملة من القناعات‮ تكتسب جلالها‮.‬ كما‮ ‬يتيسر للمعرفة ذلك من بعدُ،‮ ‬عندما ندرك كم هي‮ ‬في‮ ‬حاجة إلى ضوء جديد‮: ‬اي‮ ‬تلك المعرفة التي‮ ‬راكمناها عن الايمان ستجد ضوء جديدا‮ ‬يجللها‮.. ‬
في هاته الايام القليلة التي سبقت الرحلة، تبين لي أن قليلا من الأصدقاء فقط،‮ ‬كما اتضح لي‮ ‬من ردود الفعل هم الذين لن‮ ‬يقاسمونني‮ ‬المستقبل‮ (‬أو أنني‮ ‬لن أتقاسم معهم مستقبلهم.. لا أدري‮). ‬ وفي كلتا الحالتين لا أحد‮ ‬يخون الآخر‮: ‬كل‮ ‬يبحث عن انسجام بين أبديتين متعايشتين في عمره ومخيلته…هما الماضي‮ ‬والمستقبل‮!‬
‮ ‬الكلمات التي‮ ‬نقشها الكتاب،‮ ‬كانت مثل جداجد ليلية تضيء… في‮ ‬متن الطائرة‮!‬
‮ ‬كلمات‮ أحيت في‮ ‬أعمق أعماق‮ ‬ ‬نفسي‮ ‬شعورا ‬غامضا هو ‬مزيج من الخوف من المجهول والرهبة من الحرية المطلقة كما تقتضي الوجودية ذلك!
لكن الشعور الواعي‮ ‬بأنني أفتح الطريق قُدُما نحو‮ .. ‬الموت والإقامة فيه زلزلني‮! ‬ هذا الطريق،‮ ‬بدأته عبر انفصالي‮ ‬التديرجي‮‬‬ـ وغير العمدي‮ ‬في‮ ‬الواقعـ عن دورة الحياة المعتادة‮: ‬أنا رجل سكن كل‮ «‬الأماكن الموضوعية‮»‬،‮ ‬خارج ما نتعارف عليه‮ أي خارج البيت والمدرسة والمسجد والمقر الحزبي والجامعة ومقر العمل!‬
كيف سأجد لي‮ ‬ايقاعا خارج‮ أماكني الموضوعية التي أعيش فيها، مثل نادي «‬التنس‮» في المحمدية ‬مثلا، و الذي‮ ‬صارت لي‮ ‬فيه أسرة من الأصدقاء،‮ ‬وعادات‮ وذكريات ووجوه هي جزء كبير جدا في لوحة حياتي؟ ‬للتنس عادات وإني‮ ‬راحل‮!‬
في عمق الليل، ونحن نقطع الأجواء نحو المدينة، وقد صمت الكثيرون كانت السماء قريبة.. في الظلمة والجواب بعيدا!
هل كنت في‮ ‬عمق الغفلة والتسطح‮، ‬وعلي‮ ‬أن انتقل الآن إلى ‬المعنى الحقيقي‮ ‬للحياة؟ لست أدري: لا بد لي‮ ‬في‮ ‬هذا السير أن أمر بالموت وأن أخاطبه‮ كما لم أخاطبه من قبل .. ‬بل أن أعيشه‮ ‬كمفارقة وجودية‮: ‬كيف تعيش موتك‮ وتستخلص منه معنى الحياة ومعنى الما-وراء‮!‬
والآن : كيف‮ ‬يمكن للزيارة،‮ ‬وللكتابة عنها، من بعدُ، أن يكونا سجلا أمينا‮ ‬لحالة البحث عن المعنى الحقيقي‮ ‬للحياة!؟
بدا لي أن معدل السن‮‬،‮ ‬بالنسبة لمجموعتنا على الأقل والذين سافروا معنا،‮ ‬يفوق الخمسة والخمسين سنة‮. ‬واضح أن اغلبنا،‮ ‬أجَّل هذه الرحلة أو تأجلت في عمره ، لسبب ما‮. ‬ ولعل من ذلك أن المغاربة‮ ‬يجعلون للمكان روحا تختار‮. وترجمة هاته القناعة يركبونها كالتالي: ‬الحج إذا لم‮ ‬ينادِ ‬عليك لن تذهب ولوكان لديك مال قارون‮!‬
وصلنا مطار المدينة صبيحة يوم الاثنين 26 مايو على العاشرة صباحا تقريبا‮. وما كان ‬يسترعي‮ ‬الانتباه،‮ ‬هو تعليقات الحجاج والحاجات على درجات الحرارة‮. ‬قيل إنها تفوق الثلاثين بدرجات‮. ‬تنفس الكثيرون الصعداء‮..‬
وفي أحاديثهم القصيرة المسترسلة، تدرك أن المدينة المنورة تولد باستمرار. لأنها كانت المكان الذي‮ ‬تجدَّر فيه المسلمون،‮ ‬المطاردون والمقصيون، وفيها ما زال الأحياء يستعيدون جراحهم الوجودية والذاتية. وسط المغاربة، ترث المدينة، جيلا عن جيل، سمعتها بأنها مسالمة ومنعشة‮ .. مدينة طيبة الأهل والمناخ‮. ‬ هنا، المدينة سمعت ما همست به الصحراء عكس مكة، والذين أؤتمنوا على ‬الهمسة‮ ‬هم الذين استضافوا محمد الهارب من أهله‮..‬
‮ ‬ نخرج من بطن الحديد إلى ممرات المطار: آلات وضعت في‮ ‬القرب من معابر الأمن،‮ ‬يضع الحجاج عليها جوازاتهم للتأكد من تسجيل أسمائهم‮. ‬بعدها‮ ‬ينتقلون إلى ‬شبابيك الأمن‮: ‬أمامنا طوابير عديدة،‮ ‬لكن المرور‮ ‬يتم بسلاسة كبيرة للغاية‮. ‬اندهشت دهشة سارة، أنا الذي‮ ‬زرت مرارا السعودية ورأيت الوقت والانتظار الذي‮ ‬تتطلبه هاته اللحظات‮ كيف تتحسن شروط الدخول سنة عن سنة وزيارة بعد أخرى… ‬أمامي،‮ ‬رجل‮ من إثيوبيا،‮ ‬تعطلت الإجراءات معه‮. ‬ونحن على بعد نصف متر تقريبا.
ننتظر ونتساءل‮: ‬لماذا‮ هذا الصف‮ الوحيد الذي ‬يتأخر؟
‮ ‬الرجل‮ شيخ‮ نحيف‮ ‬وشعره‮ ‬وَخَطُه الشيب،‮ ‬لم تنجح أجهزة إثبات الهوية‮ ‬في تحديد بصماته‮. ‬رجل الشرطة أفلح في‮ ‬التقاط بصمات عينيه،‮ ‬والتقاط صور له،‮ ‬يبدو أنه قارنها مع صور الجواز،‮ ‬ولم‮ ‬يكن فيها ما‮ ‬يدفع إلى ‬الشك،‮ ‬لكن بصمات اليد،‮ ‬كانت مستحيلة لأن الرجل بأصابع معكوفة كما لو كانت مقطوعة،‮ ‬وتكاد تلتصق براحة اليد. ‬بلا دهشة ولا حيرة كان ‬يتابع المشهد وحديث الشرطة مع بعضهم البعض‮. ‬
‮ ‬انتبهت إلى أن اغلبهم من الشابات السعوديات،‮ ‬وهو أمر كان نادرا في‮ ‬سالف العصر والأوان‮. ‬وكان من بينهن متطوعات‮!!‬
تمت المناداة على ‬شخصية أمنية من مستوى أعلى،‮ ‬كما‮ ‬يبدو من بذلته طبعا ومن عمره ومن هيئته والاحترام الذي‮ ‬يتحدث به معه العاملون‮ ‬الآخرون‮.‬
ندهْتُ الشابة بالقرب مني،‮ ‬كانت تضع النقاب‮‬،‮ ‬في‮ ‬لباسها الأسود البهي‮. ‬ككل السعوديات في‮ ‬المطار،‮ ‬اإا قلة قليلة تكتفي‮ ‬بالحجاب المتداول عالميا‮. ‬قلت لها هذا الشيخ‮ ‬يستحق التكريم،‮ ‬لكبر سنه ثم لإصراره على الحج ثم هو قادم من بلاد لها على ‬المسلمين كلهم وعلى السعودية نفسها ديْن‮!‬
فجحظت عيناها وبابتسامة تشفع لها بالطيبوبة ،أردفتُ: ‬هو قادم من بلاد الحبشة القديمة هناك حيث كان النجاشي‮ ‬يحكم بالعدل فقال فيه النبي‮ للمهاجرين الأوائل : ‬اذهبوا الي‮ ‬حيث ملك لا‮ ‬يظلم عنده أحد‮..!‬
جاء رد المسؤول بعد حين بالسماح للحاج‮ ‬الإثيوبي‮ ‬بالدخول..
وبلا زحام ولا تشنج،‮ ‬نسيل مثل جدول هادي. بعد الحاجز الأمني، استُقبلْنا‮ ‬بالتقاط الصور لكل القادمين،‮ ‬ومياه باردة وهدايا بسيطة‮. ‬وكلمات ترحيب لا تمل من‮ ‬لدن الواقفين‮ ‬من شباب وكهول‮..‬
عند الخروج من باب المطار المكيَّف نحس بمعنى الحرارة‮. ‬كما لو أن الحرارة كانت جالسة وعندما رأتنا هبَّتْ‮ ‬واقفة‮!‬
‮ ‬وان كانت أقل مما تصورنا‮. ‬استقبالات رسمية مجددا في‮ ‬قاعات فسيحة‮. ‬ وكلمات طيبة، في حين تسابق الحجاج‮ ‬الذين‮ ‬يملكون الريال السعودي‮ ‬إلى اقتناء بطاقات الهاتف الجوال «موبايلي». هناك وجدنا أن المعلومات التي سجلناها في المغرب، عبر الطلبات الخاصة بالفيزا، والبصمات والصور ، تمت ترجمتها إلى معطيات رقمية تستعمل في … تسليم الشَّريحات الإلكترونية للهاتف! …‬


الكاتب : عبد الحميد اجماهري

  

بتاريخ : 26/07/2025