الوضع البشري في زمن الثورة التكنولوجية.. أي دور تبقى للإنسان ليفعله؟

نستهل حديثنا بقولة للفيلسوف والمفكر الألماني إريك فروم في كتابه «الوضع البشري المعاصر» يؤكد من خلالها أن «خطر المستقبل يكمن في أن البشر قد يصبحون روبوتات». والحال أن هذا القول يكشف عن وضعية معقدة توحي بأن وضعنا البشري لن يكون سهلا وبسيطا كما يمكن أن نتوقع.
وفي هذا السياق، لا يخفى على كل ذي عين ثاقبة وفكر متأمل أن التكنولوجيا قد غزت كل مناحي حياة الإنسان، ولم تترك أي مجال إلا وأدلت فيه بدلوها. ويمكن ملاحظة حجم زحفها الكبير بإجراء مقارنة بسيطة بين ما كنا عليه في الماضي السحيق وبين ما آلت إليه الأوضاع في الوقت الراهن. فمنذ الثورة الصناعية الأول في القرن التاسع عشر وصولا إلى الثورة التكنولوجية والرقمية التي بلغت ذروتها مطلع القرن الحادي والعشرين، توطدت التأملات الفكرية والفلسفية التي تناولت مكانة التقنية في التطور البشري، ونبهت إلى ما يمكن أن ينتج عن سطوتها من نتائج قد لا تكون مرضية. وبغض النظر عن النتائج المبهرة التي حققها التقدم التكنولوجي، من رفع لمستوى معيشة الإنسان وخفض لوقت العمل وتحسين الصحة والرفاهية، فإن مخاطرها بدأت تلوح في الأفق، لتزداد معها تساؤلات المفكرين والفلاسفة حول الوضع الذي يمكن أن يحتله الإنسان وسط سطوة التقنية في أعقد تجلياتها، وبالأخص توظيف الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية. ويمكن تلمس أهم أمارات النقد الموجه لتغول التقنية، عند الفيلسوف الفرنسي جاك إيلول في كتابه «التقنية أو رهان القرن» عام 1954، حيث نبه إلى أن التقنية أصبحت مستقلة وباتت تشكل عالما احتكاريا لا يطيع إلا قوانينه الخاصة، مما يوحي بأن التقنية أضحت وحشا يلتهم صاحبه.
وفي ارتباط بوضع الإنسان وسط هذا الزخم التكنولوجي الرهيب، سبق للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أن نبه إلى قرب أفول الطابع الإنساني الذي أضحى منزوعا بسبب وضع العبودية الذي فرضته التقنية على الإنسان، ويمكن تفسير هذا التفاقم عبر التطورات المتلاحقة التي أصبحنا نراها في عالم اليوم والمتجلية أساسا في عصر النانو والتقنيات الحيوية وتكنولوجيا المعلومات، التي أحدثت حسب لوسيانو فلوريدي في كتابه «الثورة الرابعة» تحولات عميقة واسعة النطاق على الواقع الإنساني.
لقد كان الإنسان منذ بدايات التفكير الفلسفي أساس الوجود ومرتكزه، مستخدما عقله في صنع الأدوات البسيطة التي أعانته على حل مشاكل حياته اليومية، وتواصل الأمر هكذا إلى أن انفلت حبل التقنية من بين يديه وتزحزحت الأرض الصلبة التي كان يسير فوقها لصالح التكنولوجيا. وهذا من شأنه أن يجعلنا نطرح السؤال تلو السؤال عن الدور الذي يمكن أن يقوم به الإنسان بعد أن زاحمته الآلة في العمل وفي المنزل وحتى في أوقات الفراغ.
إننا لا نبتغي النظر إلى الجزء الفارغ من الكأس، فنصدر حكما عاما مفاده أن التقنية سلبية بشكل كلي، لكن يحق لنا القول إنها أضحت مثل جانوس في الأسطورة اليونانية القديمة: فالتقنية ذات وجهين، أحدهما مفيد والآخر مؤذٍ وفقا لكيفية وطريقة استخدامها. فلتقلْ كلمتك أيها الإنسان قبل أن تبتلعك التقنية من رأسك إلى أخمص قدميك..
لقد آن الأوان كي يستعيد الإنسان مكانته الطبيعية داخل الوجود. فالتطورات التكنولوجية المتلاحقة أصبحت في تزايد مستمر، ولم يعد من الممكن إيقافها أو التحكم فيها. لذا نظن أن على الإنسان إعادة صلته بماضيه الثقافي وبإرثه المادي واللامادي معا، ليس لأجل الركون إليه والاستسلام لسطوته بل بغاية نفض الغبار عنه وتجديده بما يحقق التوازن المطلوب، ويعيد الإنسانية إلى مراتبها العليا. هذا إضافة إلى الدعوة إلى فلسفة جديدة للمعلوماتية لأجل فهم واستيعاب جميع هذه التحولات، ولتوجيه الأثر الأخلاقي الناتج عنها. ترى هل سنظل نسلك سلوك النعامة التي تدس رأسها في التراب أم ينبغي أن نكون مثل طائر الفينيق: نحترق، ثم ننهض من جديد وسط الرماد؟.


الكاتب : الصديق اروهان

  

بتاريخ : 16/12/2025