اليبوري يعيد اكتشاف شعرية محمد بن إبراهيم المراكشي

كتاب «في شعرية روض الزيتون» كتاب استثنائي من عدة أوجه، فهو عمل من أعمال الأستاذ أحمد اليبوري الذي عرف بإصداراته النقدية والأدبية حول الأنواع الأدبية السردية خاصة. وتعد كتبه في هذا الباب مراجع أساسية ذات صيت ذائع على مستوى النقد العربي الحديث، وبذلك فإن كتابه عن شاعر الحمراء هو الكتاب الوحيد من بين مؤلفات اليبوري المكرس للشعر.
والمتتبع لكتابات هذا الناقد المغربي واهتماماته الأدبية ودروسه بالجامعة المغربية لعقود، يدرك أن الرجل كان رائدا في دراسة الشعر بنفس القدر الذي تفصح عنه أعماله البارزة في مجال دراسة القصة والرواية، تشهد على ذلك الدراسات والمقالات التي ظل ينشرها تباعا في الملاحق الثقافية للجرائد الوطنية والمجلات الأدبية.
ومن هذه الناحية فإن الكتاب يعتبر ضمن المسار العلمي والأدبي لمؤلفه لبنة من لبنات المشروع النقدي الذي بدأه منذ أكثر من خمسين سنة، والذي لا يكتمل نشره بالنسبة للأجيال الجديدة من الدارسين والباحثين، إلا بجمع الدراسات والمقالات المبثوثة في الملاحق الثقافية والمجلات الأدبية وإخراجها على شكل كتاب. وهي مناسبة لدعوة القيمين على الشأن الثقافي بالمغرب إلى المبادرة بطبع ونشر أعماله المبثوثة في المجلات والملاحق الثقافية العربية .
والكتاب من جهة أخرى عمل استثنائي لأنه يتناول ديوان شاعر ينتمي إلى مرحلة يشوبها الكثير من الغموض، والدراسات التي تناولتها شحيحة ولا تكاد تذكر إذا ما قورنت بالفيض النقدي الذي خصص للمراحل اللاحقة من تطور الأدب المغربي الحديث.
يتعلق الأمر بالشعر المغربي في النصف الأول من القرن العشرين. وهي فترة أخفت ملامحها أو تكاد، الأحداث التي عرفها المغرب بعد الاستقلال والتحولات التي عرفها الأدب المغربي شعرا ونثرا مع بداية الستينيات.
من هنا فإن الكتاب وهو يجلي زوايا كثيرة من الغموض الذي ينتاب الدارس وهو يقدم على رصد تحولات الكتابة الأدبية خلال هذه الفترة، انطلاقا من شعر شاعر الحمراء، يقدم خدمة كبيرة للباحثين الشباب خاصة الذين يفتقرون إلىالمراجع العلمية التي تساعدهم على القبض على طبيعة المرحلة، وامتداد تأثيرها على المراحل التي تتلوها.
والكتاب أخيرا استثنائي لأنه ينطلق من متن شعري لشاعر يعكس النزعة المغربية في عمقها التاريخي والاجتماعي والثقافي، إنه يفصح عن خصوصية ذات ملامح واضحة إذا نظرنا إليه كرافد من روافد الأدب العربي الحديث. وهي خصوصية ظلت حاضرة في الكتابات الأدبية إبداعا ونقدا منذ قديم الزمان، وكان يعبر عنها تارة بأدب «الغرب الإسلامي» وتارة أخرى بأدب «المغرب العربي» وتارة ثالثة بـأدب «المغرب والأندلس». وهي تسميات وإن اختلفت، لمسمى واحد، أريد له أن يكون دالا على التميز في إطار الأدب العربي، الواحد المتعدد.
إن كتاب «في شعرية روض الزيتون لشاعر الحمراء» يستمد أهميته القصوى بوصفه مرجعا أساسا وإضافة نوعية إلى المراجع القليلة التي اهتمت بهذه المرحلة من مراحل تطور الشعر المغربي الحديث، مرحلة ما زالت بحاجة إلى تراكم في البحوث والدراسات لإبراز معالمها بوضوح.
ولعل وعي الكاتب بالنقص الذي يعتري هذه المرحلة على مستوى الدراسات الأدبية هو ما جعل الكتاب محكوما بهاجس بيداغوجي، أفضى من حيث المنهج المعتمد، إلى تبني خطة ترمي من جهة إلى التعريف بمغرب النصف الأول من القرن العشرين، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا، وإلى تحليل المتن الشعري لشاعر الحمراء الذي ظل في شعره متفاعلا مع الأحداث والوقائع التي كان شاهدا عليها من جهة ثانية.
إن هذا الاختيار المنهجي هو ما يفسر صيغة عنوان الكتاب « في شعرية روض الزيتون لشاعر الحمراء»، بدل «شعرية روض الزيتون». ذلك أن عنوان الكتاب يوحي بأن هذا العمل لا يهدف فقط إلى القبض على مكامن الشعرية في القصيدة لدى هذا الشاعر، وإنما يروم أيضا إجلاء الجوانب المحيطة بها، التي ساعدت على صياغة الاختيارات الشعرية التي تبناها الشاعر دون سواها.
إن هذا يعني أن الكتاب قد أخذ بعين الاعتبار إشكالا نقديا ما زالت تبعاته تنعكس على الدراسات النقدية حول الشعر المغربي الحديث. مضمونه أن هذا الشعر لم يؤرخ له بعد، وتاريخ الأدب، كما هو معلوم، هو الذي بإمكانه رصد لحظات التحول الكبرى في مسار هذا الشعر.
وقد أدى الافتقار إلى التأريخ للقصيدة المغربية الحديثة، من بين ما أدى إليه، إلى نزعة انتقائية جعلت بعض الشعراء يطفون على السطح وبعضهم يصبحون نسيا منسيا، بغض النظر عن القيمة الأدبية لهؤلاء وأولئك. كما أن هذا الإشكال تسبب في عدم قدرة النقد على تصنيف الشعراء المغاربة إلى مدارس شعرية تظهر تفاعل الشعراء المغاربة في ما بينهم.
لقد حاول الكتاب أن يجد حلا لهذا الإشكال النقدي الذي يعتري دراسات الشعر المغربي الحديث، بالمزاوجة بين المقاربة النصية لشعر محمد بن إبراهيم المراكشي وبين قراءة الظروف التي أحاطت بتجربته الشعرية والتي تحكمت إلى حد بعيد في رسم الملامح الكبرى لخطه الشعري.
يكتب الأستاذ اليبوري في مستهل المدخل العام الذي وضعه لكتابه: «لا يمكن أن يباشر النقد الأدبي تقييم الأعمال الشعرية، دون أن يحدد موقع الشاعر في خريطة التغيرات التاريخية على المستويات الاجتماعية والثقافية والشعرية المعاصرة له» (ص 11).
يعيدنا هذا الرأي إلى المفهوم الأصلي للنقد الأدبي المرتبط بالدور الذي أنيط به منذ قديم الزمان وهو تقويم الأعمال الأدبية. واليبوري بتشبثه بهذا المفهوم يفرق بين الدراسات الأدبية وبين النقد. ذلك أن أغلب ما نقرأه هذه الأيام يدخل في باب الدراسات الأدبية التي تقف عند وصف العمل، وتفسيره، دون أن تخطو الخطوة الأساسية التي تجعل من النقد نقدا، وهي تقويم العمل الأدبي الذي لا يتأتى إلا بالنظر إليه في علاقته مع الأعمال الأدبية الأخرى، وبالظروف الموضوعية التي أحاطت بإنتاجه كتابة وقراءة.
إن هذا المفهوم للنقد يفصح بشكل ضمني، عن منهج الدراسة، الذي يقوم على استحضار كل العناصر، التي تسمح بتحقيق هدفين كبيرين، يبدو أن الكتاب وضعهما ضمن أهدافه العامة:
يتمثل الهدف الأول في إبراز خصوصية التجربة الشعرية المغربية بالمقارنة مع التجربة الشعرية في المشرق العربي. وهي تجربة ظلت تدافع عن خصوصيتها منذ القديم، وأصبحت في فترة من الفترات مدرسة شعرية قائمة الذات.
ويتجلى الهدف الثاني في إعادة الاعتبار للشاعر محمد بن إبراهيم، الذي لم ينل حظه من الدراسة والنقد، على الرغم من المكانة البارزة التي احتلها إبان حياته.
ويمكن القول بناء على المقدمات السابقة إن الأستاذ اليبوري إذ ينتصر لهذا الشاعر، إنما ينتصر لخصوصية الشعر المغربي. وهذا ما جعله يتناول شعر ابن إبراهيم على ضوء السياق التاريخي والاجتماعي الذي أحاط به من جهة وعلى ضوء استحضار النصوص الموازية أو الغائبة التي ساهمت في تشكيل قصيدته من جهة أخرى، وذلك من خلال التحليل النصي لبعض أعمال الشاعر.
لقد حكم هذا التصور الذي يقوم على هذه الأركان الثلاثة بناء الكتاب الذي ينقسم إلى مدخل وخمسة أبواب، يمكنتقسيمها إلى ثلاثة محاور أساسية:
ـ الإطار الاجتماعي والثقافي لشعرية «روض الزيتون».
ـ التعريف بالإرث الشعري للشاعر محمد بن إبراهيم وتوثيقه.
ـ دراسة تحليلية لنماذج من «روض الزيتون» وموقف النقد من الديوان.
رصد الكتاب المفارقات الكبيرة التي اعترت حياة محمد بن إبراهيم التي تدل على أنه كان شخصية قلقة ومتناقضة، تستمد قلقها من طبيعة الفترة التاريخية التي عاشها، والتي تميزت بالهيمنة الاستعمارية وأداتها، رجل مراكش القوي آنذاك، الباشا الكلاوي.
لقد بادر الكتاب إلى إعادة توثيق شعر ابن إبراهيم انطلاقا من الكتب التي صدرت حول شعره والتي لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. وهي مسألة تعود إلى أن ابن إبراهيم لم يكن يدون شعره إلا نادرا. وعندما هم جامع هذا الشعر بطبع الديوان كان عليه أن يعتمد نصوصا مخطوطة وأخرى مروية، الشيء الذي أثار شكوك بعض المتتبعين في نسبة القصائد إلى صاحبها. فكان من باب الأولويات أن يعتمد اليبوري تنسيب الشعر إلى صاحبه، وذلك بإزالة طابع الشك في علاقتها بالشاعر.
في التحليل النصي لروض الزيتون تصدى لظاهرة التفاعل النصي بين شاعر الحمراء وبين شعراء آخرين، وهي ظاهرة قديمة في الشعر العربي تمتد إلى الشعر الجاهلي. وتدل هذه الظاهرة على عمق معرفة شاعر الحمراء بالشعر العربي،قديمه وحديثه، وعلى سعة اطلاعه على الشعر العربي، عبر ما يسمى شعر المعارضة، الذي ليس تناصا بالمعنى الحديث وليس تقليدا. ولكنه نوع من التحدي يخوض غماره الشاعر أمام كبار الشعراء الذين سبقوه أو الذين عاصروه، بالنسج على منوالهم. وهو ما قام به شاعر الحمراء حين عارض أبا نواس وأبا العلاء المعري والمتنبي وبيرم التونسي وغيرهم من الشعراء. وقد درس الكتاب هذه الظاهرة دراسة مقارنة فأثبت أن شاعر مراكش لا يقل شعرية عن أولئك الشعراء.
الكتاب في مجمله محاولة لإعادة الاعتبار لشاعر مغربي عرفناه في مرحلة من مراحل الدراسة الثانوية بقصيدته عن»المطعم البلدي»، وألصقت به تهمة الارتزاق بالشعر من خلال علاقته بالباشا الكلاوي. في حين أن الصورة الحقيقية للشاعر تقول إنه أجيز من طرف الشيخ شعيب الدكالي، وإنه كان ضليعا بعلوم عصر وأنه زار مصر وحاضر بها عن الشعر المغربي.


الكاتب : حسن مخافي

  

بتاريخ : 12/07/2024