بعد أن استعرضنا في الجزء الأول أهم الأفكار والأطروحات التي تأسست عليها مواقف منظمة « إلى الأمام» و « منظمة 23 مارس» و» ولنخدم الشعب»،
نستعرض في هذا الجزء أهم الأطروحات النظرية والسياسية للفقيد عبد السلام المودن، وللأستاذ علال الأزهر المنبهي بوصفهما قياديين بارزين من مؤسسي اليسار المغربي الجديد، ومن الكوادر التاريخية لمنظمة 23 مارس. وتلتقي كتابات الفقيد عبد السلام المودن، وكتابات الأستاذ علال الأزهر في دحض الأطروحات الانفصالية، في أبعادها السياسية، والوطنية، والقومية، والاشتراكية في مرحلة دقيقة من الصراع الداخلي الذي كان يتجاذب مواقف التنظيمات الثلاثة، سواء من داخل تجربة السجن ، أو خارجه. ولتيسير مقروئية هذه المواضيع سنعمل على استعراض أهم مضامينها، وخلاصاتها حسب التسلسل الوارد في المصدرين اللذين اعتمدناهما في انجاز هذا الملف.
بعد التدليل على الارتباك السياسي الذي سقط فيه النظام الجزائري بعد اتفاقية مدريد، يطرح علال الأزهر سؤالا محوريا في الموضوع :هل هناك شعب صحراوي؟.
في هذا الصدد، يدعونا الأزهر للتمييز بين مستويين مختلفين في موضوع ما سمي بالشعب الصحراوي. المستوى الأول، يتعلق بمدى صحة وجود شعب بالمعنى النظري والتاريخي. وما دامت الإشكالية تطرح في إطار الوطن العربي فإننا نتجاوز الكلام على وجود قومية مستقلة بالمعنى العلمي المتعارف عليه لنقف في حدود التساؤل عن مدى وجود كيان متميز تاريخيا وسياسيا أفرزته ظروف تاريخية معينة، وهو ما ينطبق على الكيانات العربية الموجودة مع تفاوت في جذورها التاريخية. والمستوى الثاني الذي يشكل حالة فريدة أنتجتها ظروف وواقع الصراع في المنطقة منذ 1974 حيث تشكلت مجموعة «صحراوية» (مغربية-موريتانية) ومعارضة لعودة الصحراء إلى المغرب، وحظيت بعطف أوساط يسارية عربية وأوروبية نمت في خصم الصراع الذي ظل يحتدم بين المغرب والجزائر من 1974 الى 1976 حيث تولد انطباع لدى قسم من الرأي العام الدولي بأن هناك شعبا صحراويا يريد الاستقلال ،والجزائر لا تفعل سوى أنها تدافع عن حق هذا الشعب في الوجود. ومما زاد في تركيز هذا الاعتقاد إبراز المواقف التي عبرت عنها كل من محكمة العدل الدولية واللجنة الأممية التي زارت المنطقة في خريف 1975.
المستوى الأول لم يحفظ بأي اهتمام من طرف القيادة الجزائرية بامتداداتها الفكرية والنظرية، وذلك لأن الخوض فيه شائك ومليء بالألغام القادرة لا على تفجير المشروع الجزائري في الصحراء وحسب، بل إصابة مفهوم الأمة الجزائرية نفسها بأضرار بالغة .لذلك اكتفت هذه القيادة بالتشديد على وجود شعب صحراوي كمسلمة تقيم عليها دعايتها الدبلوماسية والسياسية.
وقد يكون النقاش على هذا المستوى (الأول) غير ذي أهمية الآن وخصوصا إذا أخدنا بعين الاعتبار أن بعض فصائل اليسار العربي عندما تدافع عن «الشعب» الصحراوي ترتسم في ذهنه البؤرة الثورية ويتقلص مفهوم «الشعب» ليصبح صراعا بين التقدمية والرجعية أي أنه يساير الإيحاء الذي يريد تركيزه المعارضون (المغاربة والموريتانيون) لانضمام الصحراء الى المغرب الذين يقارنون وضعهم بوضع مصر والسودان…
سبق الكلام عن الصيرورة التاريخية التي تشكلت بمقتضاها الكيانات السياسية القائمة في منطقة المغرب العربي (ألحقت بها فرنسا في وقت لاحق كيانا آخر كأمر واقع). وخلال تلك الصيرورة التاريخية تأكد أن الصحراء ظلت مرتبطة وبعناد وطني لا يقهر بالمغرب الأقصى التاريخي. وحتى سنة 1958 كانت قبائل الصحراء التي انضمت إلى جيش التحرير تستميت في الدفاع عن عودة الصحراء بكاملها (موريتانيا أيضا) إلى الوطن المستقل، وحتى سنة 1973 كان المغربي، «الصحراوي» اليساري الذي سيتزعم فيما بعد فكرة الدولة المستقلة ما زال يؤمن بأن الصحراء جزء من المغرب الأقصى.
وحسب التحليل المنهجي الذي يسير فيه الكاتب ، فإن سكان الصحراء المغربية لم يشكلوا شعبا بأي مفهوم من المفاهيم المتواضع عليها حاليا ،سواء كقومية أو ككيان سياسي ضمن قومية أعم. فعلى المستوى الأول، لا تشكل أقطار الوطن العربي قوميات متميزة (وان كان يوجد بها قوميات كالأكراد مثلا). فالوطن العربي ظلت تتجاذبه منذ قرون حركة وحدة وتجزئة تتأثر بالتطور الاجتماعي والإقتصادي والعسكري الجاري. وبعد دخول الاستعمار الرأسمالي الحديث تعمقت التجزئة الحدودية والسياسية والاقتصادية والثقافية ،وأصبحت مع القرن العشرين والقانون الدولي والهيمنة الامبريالية أمرا واقعا وجزءا لا يتجزأ من الصراع الدائر على الصعيد العالمي أيضا. والصحراء لم تكن موجودة، كما سبق القول على المستوى الثاني (الكيانية) فأحرى على المستوى الأول (القومية). اللهم إلا إذا كان من الصحيح والديموقراطي أن تتاح لسوريا مثلا والحركة القومية العربية بوجه عام، فرصة عودة لبنان وهو تحت الاستعمار الفرنسي وهو «الكيان» الجغرافي والطائفي «المتميز» ضمن ما سمي بجبل لبنان التخلي عن تحقيق هذه الإمكانية بدعوى وجود نزعة كيانية جديدة تلعب فيها مصالح استعمارية وطائفية الدور الرئيسي (ونفس الشيء يمكن أن يقال عن علاقة سوريا بالأردن وفلسطين سابقا).