اليمنية انتصار السري تواصل ترتيب الواقع قصصيا

«إننا بحاجة للقصص بقدر حاجتنا للطعام والهواء وللماء والنور، والقصص هي الطريقة التي من خلالها ننظم ونرتب الواقع» بهذا المقطع المختار بعناية شديدة، وهو للكاتب الأمريكي بول آستر، افتتحت القاصة اليمنية انتصار السري مجموعتها القصصية الجديدة « فنجان قهوة على حافة الفوضى» الصادرة حديثا عن دار النشر عناوين، وهو الإصدار الذي يكرس اسم انتصار كإحدى الكاتبات اليمنيات والعربيات، التي استبد بوجدانهن هذا الجنس الأدبي الجميل، وأخلصن له، وأبدعن فيه، ولا يخفى على أحد أنه الجنس الأدبي، الذي يحتاج كاتبه إلى تقنيات عالية ودقيقة في الكتابة من أجل رسم معالم تجربته الإبداعية، بنوع من الاختزال والتكثيف، اللذين يؤديان المعنى المطلوب، ويخلقان الأثر المرغوب من الكتابة القصصية، كما عبر عن ذلك الناقد فرانك أوكنور، بعيدا عن التمطيط والإطناب والحشو.
ولعل أي قراءة لهذا العمل القصصي الجديد، لا يتحقق الهدف منها دون أن يأخذ القارئ بعين الاعتبار التراكم القصصي، الذي حققته الكاتبة من خلال مجاميعها القصصية المتتالية، وهي « صلاة في حضن الماء» و»المحرقة»و «لحرب واحدة»، والتي جعلت من المبدعة انتصار السري إحدى الكاتبات المميزات في الفن القصصي يمنيا وعربيا، بزخم إبداعي مشهود، غير إن الدخول إلى عالم المجموعة القصصية، التي ببن أيدينا، والتي اختارت الكاتبة ان تعنونها ب»فنجان قهوة على حافة الفوضى» فلا يتيسر إلا بالتمعن في مفتاحه، الذي أراه من وجهة نظري الخاصة يتجسد في الاقتباس المذكور أعلاه، اقصد مقطف من قول الكاتب بول آستر، فالمتلقي لنصوص المجموعة سيشعر بلا محالة بالقدرة الفائقة للكاتبة على التقاط تفاصيل الواقع من حولها وترتيبها قصصيا، كي تخلق عالما قصصيا موازيا لعالم الواقع، وهو الشيء الذي تعبر عنه القولة، ويتجسد بشكل كبير ومتألق في النصوص، وكأنها ترجمة عملية لها، ومن ذلك ما جاء في قصة زهايمر الصفحة 14 و15 والذي تتحدث فيه الساردة عن صنعاء، إذ تقول « يستمر سيرهما، يلتقطان الصور لمعالم صنعاء، يصلان إلى بائع النحاي، هناك يسالان عن الأباريق والمزهريات وغيرهما من المنحوتات، ويستمر تجوالهما مأخوذين بدهشة المكان وعراقة عمارة بيوتها التاريخية. من أحد بيوتها تطل طفلة من نافذة مشرعة لها ضلفتان خشبيتان، وتعلوها قمرية ذات زجاج ملون. يمران بمسجد طلح وقبته الكبيرة، وببابه المقوس يستظلان فوق دكته»
هذا الترتيب القصصي للواقع نلمسه في جميع النصوص تقريبا، حيث يلاحظ القارئ أن حاسة العين تشتغل بأقصى ما يمكنها، لتلتقط كل صغيرة وكبيرة من أجل أن تؤثث بها الكاتبة عالمها القصصي، معضدة أحيانا بباقي الحواس، منها حاسة الشم التي تتدخل في هذا المقطع، لتضفي على النصوص بدخا حسيا ملموسا، ولعمري ففي ذلك كفاءة مشهودة للفعل القصصي عموما، لأن ذلك يبعد عنه آفة التجريد، التي قد تصيب الفعل القصصي في مقتل، إذا بالغ الكاتب في الخوض فيه، عكس ما يحدث في نصوص هذه المجموعة، التي يشعر معها المتلقي وكأن القاصة انتصار السري تحمل كاميرا وتمتعه من خلال تصوير التفاصيل، ادق التفاصيل، يقول السارد في قصة « افتراضي» الصفة 22» « أزيح بطانية يعلوها التراب، وتعج برائحة سجائري، ومائي الذي أقذفه في بعض المساءات الحالمة، ألج الحمام الذي لا يتسع لغسل قدمي إلا وقوفا. أشذب شعيرات ذقني أمام مرآة صدئة، أكل الدهر من معالمها، هي الوحيدة في هذه الغرفة للتي تشبه علبة الكبريت، رائحة نشاذر تفوح من هذا القمع الذي يدعى الحمام، تصيبني بالغثيان، أنهي حلق ذقني بسرعة، أعود إلى غرفتي اليتيمة، العارية من أي أثاث ما عدا موكيت بلون باهت، وسرير تآكل خشبه، طاولة وكرسي في إحدى الزوايا، أمارس عليه غوايتي في كتابة أشعاري، التي تظل حبيسة اوراقي، او منسية في أحد ملفات الورد في مجلد ما عدت أذكر اسمه».
ولم تكتف الكاتبة بترتيب العالم الخارجي المحسوس فحسب، بل طال هذا الترتيب القصصي عالمها الباطني كذلك، عالم المشاعر والأحاسيس، يقول السارد في ص 20» تخيلتها عارية فشعرت بسهولة مباغتة، فيما كنت ألتهمها بنظراتي أخترق السماء دوي هز الارض، فشعرتني أطير إلى الغيوم بصحبتها لأسقط في سكون ابدي، لم اعد اسمع.. لا أرى لا أحس..»
وفي مشهد آخر تنجح الكاتبة في تصوير لحظات مرتبكة يختلط فيها الداخل بالخارج، تستعر الرغبة وتلقي بغوايتها على باطن الشخصية، يقوى السارد في الصفحة 52 « حمية الجاهلية تعتليك، تضغط بزر هاتفك المحمول، ترسل رسلة إلى.. تهب ريح خفيفة، تلتصق عباءة الفتاة الواقفة بجسدها، تبرز مفاتنه المتتلئ، شيؤ بداخلك يثور، تحاول كبحه، تندلق القهوة على نقاب صديقتها أثناء شربها، ترتفع ضحكاتها، تستعر النار بجوفك، صديقتها تجاهد منع التصاق نقابها على فمها، تتعالى الضحكات، تصرخ الفتاة المحروقة».
وانسجاما مع طبيعة هذا الفن الأدبي الجميلة وظفت القاصة انتصار السري لغة جميلة تناسب إلى حد كبير جنس القصة القصيرة، لغة قصيرة وبرقية، تتميز بطابعها المحسوس إلى ابعد الحدود، ومن ذلك هذا المقطع من الصفحة 40» تخرج من الحمام ، يسبقها أريج عطرها، ثوبها قصير ويكشف عن مفاتنها، تنكس رأسها إلى الأرض، تصطبغ وجنتها بحمرة الخجل، تتقدم نحوه، يخفق قلبه، يمسك بأناملها، يراقصها، تتمايل ببن ذراعيه، تتملص من قبلته، يطوقها قائلا:
– هانت بين يدي سوف اقتلك حبا وعشقا»


الكاتب : مصطفى لغتيري

  

بتاريخ : 26/01/2024