اليوم العالمي للفلسفة.. يوم جدير بكل صيغ التأمل اليوم أكثر من أي وقت مضى.. لماذا؟؟ فقط لأنه ونحن بين أحضان هذه اللحظة ذات الأهمية بالنسبة للمشتغلين في مجال الفلسفة والمنشغلين بفعل التفلسف؛ من اللافت للنظر ضرورة معاودة النظر بعين العقل فيما إذا كان من الممكن الحديث مرة أخرى وفي كل سنة،وفي ذات اليوم الذي هو يوم الاحتفاء بالفلسفة، عن جدوى الفلسفة على الأقل لتظل جديرة بمثل هذه العناية؟
فهل تخصيص يوم عالمي للفلسفة يعتبر فعليا علامة دالة على أهميتها وبالتالي جدواها؟
هذا التساؤل يحيل بدوره على تساؤل ضمني على نفس القدر من الأهمية. يتعلق الأمر بدور الفاعل الأساس في جميع مجريات عملية استمرارية انتقال الفكر الفلسفي من جيل إلى جيل؛ إنه المعلم Le Précepteur الذي جسد الفيلسوف سقراط صورته وفاعليته بحرفية بليغة حتى ارتبط التفلسف من حينه بفعل التعليم. وقد كانت وسيلة سقراط لتوليد الأفكار الفلسفية هي السؤال في صيغة تساؤل يشرك فيه وبمعيته المتعلمين من خلال واحد من بينهم يسحبه للنبش في ثنايا النفس البشرية عن الحقيقة ضالة الإنسان المفكر Homo Sapiens.. هي الحقيقة ثاوية في النفس؛ غير أنها إذ تتقن التخفي صارت بمثابة لغز عبثا يقبض عليه الفكر خارج سياقات الكينونة البشرية، إنها الارتداد بالقوة على جبلة البشر، فعوض منحهم الطمأنينة المشتهاة صارت تجرهم دونما توقف وراءها ثم تقذف بهم في دوامة البحث الشقي فيما بين التيه تارة والحيرة تارة أخرى.
لقد ارتبط التفلسف دائما بالذات المفكرة، وليس الإرث الذي تمت مراكمته سوى علامة على أن الإبداعية التي تمخض عنها هي التجاوز البدئي لكل محاولات اغتيال أو اختزال الذات المفكرة في واحديتها بقوة إرادة المعرفة. فأن تكون هنالك معرفة، معناه أن هناك ذاتا ما فتئت تطرح على نفسها السؤال تلو السؤال لا لتطلب جوابا برانيا؛ وإنما متسائلة إثر اتخاذها للمسافة اللازمة لذلك إزاء الوجود والمعرفة والقيم محاولة شد انتباهنا إلى قضايا نظرية محضٍ. ولعل هذه الذات التي أنتجت الخطاب الفلسفي هي نفسها تهتم بمسألة نقله لقارئ محتمل إذ تفعل ذلك؛ أي حينما تعمل على إنتاج الخطاب؛ باستحضاره في ثمة زمن وفي ثمة مكان. بالتالي كان حينذاك التلازم بين الفلسفة وتعليمها ومنه التلازم بين الأفكار الفلسفية والمعلم.
لكن لماذا إثارة الحديث الآن عن المعلم، ومناسبة الحديث في الأصل هي الاحتفاء بالفكر وليس بالذات؟ لأن المعلم هو الذي يصل بين النص الفلسفي والمتعلمين، إنه هو عينه الدور الذي جسده ذات لحظةِ انبثاقٍ لفعل التفلسف ببلاد اليونان، الفيلسوف سقراط الذي استحق لقب المعلم الأول في هذا المجال متسلحا بآلية السؤال/التساؤل؛ فالسؤال المطروح، على سبيل المثال، على التلميذ النجيب “تييتت” في المحاورة التي صاغها أفلاطون حول موضوع العلم بعنوان” في العلم” ليس إلا ما يفكر فيه سقراط إذ يتساءل بمعية نفسه لا بمعية الآخر، وحيث السؤال يكون محض طريقة لسحب هذا التلميذ أو غيره نحو التفكير في ذات الموضوع. وهاهنا تكمن أهمية الدور الذي يأخذه المعلم على عاتقه مأخذ الجد والمسؤولية، لأنه ما من معرفة يكون التفكير في النبش عن سبل الوصول إليها إلا وفقط إذا ما كانت مسبوقة بسؤال يطرق الحياة البشرية في حين متعين وفي حيز سياقات بعينها. وقد كانت الفلسفة الرحبة الوسيعة لاحتضان جميع القضايا، سواء ما تعلق بالوجود والموجودات في جميع تجلياتها أو تعلق بموضوعات العلوم ومناهجها وتاريخ تطورها أو ما يتعلق بالحياة السياسية والأخلاقية للناس بغرض استصدار القيم المتساوقة مع كل أبعادها ومظاهرها.
يأتي دور المعلم وهو يسبر غور الخطاب الفلسفي بمعية المتعلمين مشخصا في صيغ الأسئلة التي بها يتم تقطيع النص ومعه في زمن إنجاز درس مدرسي أو خطاب فلسفي حول الخطاب الفلسفي-الأصل، إنها لحظة أساسية يتزمن بها الفكر الفلسفي في صفوف المتعلمين من خلال تأمل قول الفيلسوف وهم يفكرون في إنتاج ما يلائم بمعنى من معاني التفكير، وليس بمعنى الجواب الوحيد الجامع الذي لا مكان له في رحاب الفلسفة منذ ظهورها. وكلما تعددت الأسئلة واختلفت صيغها، فإنها تشكل قاطرة تنقلهم من المعقد إلى البسيط ليحصل الفهم الذي ما من هدف أسمى ينشده أجلَّ وأكبرَ من تعلم ذاتي يمكن المتعلمين من سحب نفس طرق التساؤل والتأمل على وضعيات معيش خارج زمن التعلم المدرسي.
يسمو هذا الهدف متى كان المعلم-المدرس تماما كما كان المعلم-الفيلسوف متمرسا على حسن صياغة الأسئلة. فالأسئلة الدقيقة ليست معطاة لا في مجال الفلسفة ولا حتى في مجال العلم؛ بل إنها الذات المتمرسة تحسن استدعاءها في حيث ومتى ينبغي لها أن تكون، ثم إن حسن صياغة السؤال هو السبيل إلى المعرفة الجيدة بعيدا عن التمثل الأخلاقي لكلمة جيدة وبعيدا كثيرا عن معنى الحقيقة المشتهاة، وإنما تكون المعرفة جيدة حينما تجلو فيها المقدمات-المنطلقات فتلوح في سماء “Logos” الحدود الأساس للنظر فيما تكون المخرجات المتاحة والممكنة.
لعله في غياب السؤال الجيد هنا أو هناك في حيث يكون التفلسف الحق والفلسفة الجديرة بأن يُحتفى بها دوما؛ نرانا نوشك على الانزياح عن ماهية الفكر البدئية إذ نشد على ناصية الخطاب العلمي باعتباره جواب أتاحته سياقات بعينها وفق شروط تاريخية، اقتصادية، سياسية أو غيرها عن سؤال تمت صياغته بوضوح، وحيث الخطاب الفلسفي محض مقاربة ضمن أخرى لقضية تقض المضاجع لتستفز عين العقل من غفوتها فتساقط على الأنا التساؤلات تباعا، وتدق فيها أجراس الكلام.
بمعية أي واحد يمكن أن تتأتى له فرصة أن يقرأ هذا المقال، أعيد التساؤل السالف الذكر: لماذا الحديث عن المعلمLe Précepteur الآن؟ لأنني أروم بذلك التساؤل عن دور المعلم أمام طفرة أراها بسمك عميق جدا ومرارة أشد في مسارات حداثة جديدة: هل سيظل للمعلم حضوره في ظل انبثاق نبع جديد تنتقل عبره المعرفة والأفكار بما فيها الفلسفية أيضا بخفة من أقاصي الوجود إلى أقاصيه متى نشاء؟
طفرة ترتبط بانفتاح ذكاءات الإنسان الذي ظل القابض دوما على كونه الذات العارفة على ذكاء جديد هو ما بات يطلق عليه نعث الذكاء الاصطناعي. وأما تلكم المرارة فترتبط بفكرة الاستغناء عن الفيلسوف- المعلم و/أو عن المعلم-المدرس.. عن هذه الفكرة جاء تساؤلي اليوم: هل بتفعيل ذكاءاته التي مكنته من خلق ذكاء خارق، أضحى الإنسان يسير نحو لاجدواه وبالتالي نحو عدميته؟
حلت لحظة الاحتفاء بالفلسفة، فوجدتني أفكر في تطبيقات المعلوميات، وبالضبط في ما يسمى “شات. جي. بي. تي” وخوارزميات المحادثات والحديث الذي أضحى من غير شجون يخترق المهارة خاصَّة الإنسان؛ تلك التي بها يتم رسم الحد الفاصل بين الإنسان والحيوان. الحد الذي شكل التعريف الأولي الذي سك به الفيلسوف أرسطو حد الإنسان ومنطلق الخوض نظريا في حدود أخرى ذات الصلة باعتماد معول العقل/ ومنها على سبيل المثال ومن حيث الأهمية كذلك، نجد مفهوم الوعي، مفهوم الفهم، مفهوم الإدراك التي ستشكل بوابات لمقاربة كلمة جديدة لها من النفع والضر على حد سواء ما تضمره العبارة “سيف ذو حدين”..
والسيف هاهنا هو الذكاء، من جهة كونه مفهوم تم اجتراحه موضوع تساؤل بخصوص حدوده ومحدوديته ومن جهة تجلياته في الذات البشرية لا في غيرها؛ فقد صيَّره المشتغلون في علوم التربية والنفس والاجتماع مفهوما محوريا لتعيين درجات سلم الارتقاء والنمو المعرفي ولتعيين المعيقات التي قد تلوح في أفق التعليم والتلقين بما هي معيقات قد تعسر سرعته أو تعدمها، وإنه طيلة انشغال هؤلاء وغيرهم ممن يظهرون نفس الاهتمام
بهكذا موضوع لم يكن لهم تحقيق ثمة معارف تذكر لولا حسن صياغة السؤال ولولا القبض على التساؤل ما كان النفاذ إلى أعمق التأمل مدخلا حقيقيا للتفلسف الحق الذي به تظل الفلسفة فكرا أصيلا له عنفوان الاحتفاء اليوم وغدا؛ ومن ثم يظل كل احتفاء بالفلسفة إعلانا للاحتفاء بالمعلم-الفيلسوف وبالمعلم-المدرس الذي يشكل دوره تأسيسا للحظة تفلسف تستحق الذكر، إنه منبع السؤال/التساؤل الذي لا يستطيع إلى صياغته تطبيق “شات، جي، بي، تي” سبيلا.. وأمام مثل هذا التطبيق-الذكاء الذي أُريدَ له أن يُرى خارقا، لا يفزع القابضون على روح الفكر الإنساني؛ لأن مثل هذا الذكاء لا يقدم إلا أجوبة من بين أخرى على السؤال- التساؤل الذي يشكل في البدء والمنتهى نصف كل جواب.. السؤال-التساؤل الذي وحدها الأنا المفكرة تستطيع صياغته؛ بل تحسن صياغته.
اليوم العالمي للفلسفة : بين أصالة السؤال وأجوبة «شات، جي، بي، تي»
الكاتب : فاطمة حلمي
بتاريخ : 28/11/2024